مساهمة الأستاذ جلّول عزّونة في سهرة الوفاء لتوفيق بكّار


توفيق بكّار
دون كيشوت الأدب التّونسي

مع تقديري الكامل لكلّ الأصدقاء الأساتذة المساهمين في عرضنا "تغريدة وفاء" المهدى إلى روح أستاذ الأجيال توفيق بكّار، وبعد إذنهم جميعا، سأخصّ بفائق الشّكر والتّقدير أستاذنا جلّول عزّونة الذي كان أوّل المستجيبين لدعوتنا فأكّد حضوره في الموعد، يومان فقط بعد إعلاننا تنظيم هذه التّظاهرة.

سأخصّه بالتحية والتقدير لهذا السبب أوّلا، وثانيا لأنّنا نادرا ما رأينا محاضرا أعدّ نصّا لإلقائه في مناسبة معيّنة (ذكرى توفيق بكّار في هذه الحال)، ثمّ حين طلبت منه جهة ثانية، بعد ذلك، أن يتدخّل في نفس الموضوع في تاريخ ضبط في مثل سباق حتّى يتقدّم على التّظاهرة المبرمجة في البداية، كان له من المصداقية والحرص على أن لا يكرّر نفسه، ما دفعه إلى كتابة نصّ آخر مختلف.

الأستاذ جلّول عزونة يلقي كلمته على ركح فضاء الهواء الطّلق بالمكتبة المعلوماتية بأريانة في عرض "تغريدة وفاء"

الأستاذ جلّول عزونة من هذا الصّنف النّادر من المحاضرين. فهو لئن وعدنا في البداية بالتّطرّق في شهادته إلى موضوع علاقته بتوفيق بكّار بوصفه أستاذه ثمّ بوصفه زميله في نقابة التعليم العالي، فقد وجد نفسه مدعوّا إلى التّظاهرة التي انتظمت في النّادي الثّقافي الطّاهر الحدّاد في العاصمة، قبل أسبوع من موعد عرضنا. فما كان منه إلاّ أن استجاب إلى الدّعوة اللّاحقة، ثمّ أنشأ مداخلة جديدة في موضوع جديد اكتفى بمجرّد الإشارة في مقدّمته إلى الموضوع الأوّل.

 وسأخصّه بالتّحية والتقدير، ثالثا، لأنّه حين طلبنا منه أن يمدّنا بنصّ مداخلته حتّى ننشره في ملفّ عرضنا على مدوّنة ورشة الهكواتي، لم يبخل ببذل جهد خاصّ لرقمنة هذا النّصّ حتّى يستجيب إلى طلبنا.

فإلى أستاذنا جلّول عزّونة خالص شكرنا وامتناننا، وإلى الصّديقات والأصدقاء قرّاء هذه المدوّنة شهادة هذا الأستاذ الأديب الحريص على مصداقيته، في زمن ارتكان الغالبيّة االسّاحقة من أهل السّاحة الثّقافية إلى بذل أقلّ ما يمكن من الجهد لجني أكثر ما يمكن من الظّهور. مع تحيات الهكواتي

توفيق بكّار
دون كيشوت الأدب التونسي

لن أتحدّث اليوم عن توفيق بكّار أستاذي في مادّة التّرجمة سنة 1966-1967 وأنا طالب في السنة الثّالثة، في إجازة اللّغة والآداب الفرنسيّة، وكيف علّمنا النّفاذ لرحيق اللّغتين العربيّة والفرنسيّة بالتعمّق في أصل الكلمات واشتقاقاتها ودقّة المعنى في تفرّعاتها وعدم التّسرّع في التّرجمة بل لابدّ من الوصول لمقاصد الكاتب الظاهر منها والخفيّ.

وكذلك لن أتحدّث عن نشاطي المشترك مع توفيق بكّار وصالح القرمادي ضمن نقابة التّعليم العالي والبحث العلمي، وكنت لسنوات ضمن هيأتها المديرة (1975-1981) ومثّلت فيها التيّار التّقدّمي المناصر لإضرابات الطّلبة الطّويلة والتيّار المعارض للوزارة خصوصًا عند فرض تعيين العمداء للكليّات بعد أن كانوا منتخبين وكنت مع الأستاذين : صالح الحمزاوي والمنصف بن سليمان وغيرهما في تعارض واضح مع موقف المرحوم توفيق بكّار الّذي كان يذكّرنا دومًا بموقف غالبيّة الأساتذة الجامعيّين المخالف لموقفنا وكان، رحمه الله، يبحث دائمًا عن الموقف الذّي يجمّع ولا يفرّق وعن حلول المراحل وعن المواقف التّي لا تمثّل قطيعة مع ضرورة تواصل الحوار مع السّلطة...

الأستاذ جلول عزونة على ركح "تغريدة الوفاء"
يتابع أداء إيناس عاشور وسميّة كوشاد أغنيّة "درّة"

ولكنّي سأتحدّث اليوم عن توفيق بكّار والأدب التونسي في الجامعة التونسيّة.
وهذا الدور أعتبره رياديّا بامتياز لأنّه شرع فيه مع زميليه المرحومين صالح القرمادي والمنجي الشملي، منذ التحاقه بالجامعة سنة 1966 وكان جلّ أساتذة الجامعة، بخلاف هذا الثّالوث "الدون كيشوتي"، لا يؤمن بوجود أدب تونسي أصلاً.

ودام هذا الموقف أعوامًا طويلة، حتّى انتهى الأمر بإقرار هذا الوجود وتكريس أعلام معتبرين في العصر الحاضر بإصرار هذا الثّالوث على المضيّ قدمًا في تدريس الأدب التونسي والتعريف به داخل الجامعة وخارجها، واقتراح أبحاث جامعيّة حول هذا الأدب.

فكان أبو القاسم الشابّي، والحدّاد، والدّوعاجي والعريبي، والبشروش والمسعدي، والعربي الكبادي، وقبادو، ومصطفى والبشير خريّف، وخير الدّين التونسي، وابن أبي الضّياف، وعبد المجيد عطيّة، وعبد القادر بن الشّيخ، والطّاهر الهمّامي، ومحمود التّونسي، وحسن نصر، والمدني، وسمير العيّادي[1].

فصار للأدب التّونسي مكانته وأعلامه وآثاره التّي فرضت نفسها بنضجها وعمقها وتميّزها وطنيّا وعربيّا وإقليميّا. وقد دعّمت هذا الوجود حركيّة نقديّة جدّية أسهمت في التّعريف بها وكوّنت اللبّنة الأولى للنّقد التّونسي الحديث الذّي بدأ يخطّ مجراه بخطوات رصينة.

ولعلّ أطرف ما قام به توفيق بكّار نحو الأدب التّونسي الحديث، هو تبويب إنتاجه وتقسيم مراحله وإبراز أعلامه بطريقة غير مسبوقة، أثّرت في جلّ النّقاد بعده، رغم محاولات أخرى لا تقلّ أهميّة عن مقاربة بكّار[2] وخصوصًا في ما كتبه عن القصّة والرواية[3] في كتاب: "مختارات من الأدب التونسي المعاصر" (الجزء الثاني) الخاصّ بالقصّة (من ص5 إلى 256 – الدار التونسيّة للنشر 1985) ومقدّمته العميقة (من ص7 إلى 14) وما اقترحه من عناوين رمزيّة لأقسام الكتاب، مستمدّة من أقوال وإستشهادات منها الشعبيّة: "يا أولاد الحومة..." (مطلع أغنية شعبيّة)، مرورًا بالباجي المسعودي: "فالسعد نادى بنا من باب سعدون"، وصولًا للمسعدي: "من ضاعت قبلته فليسر ولا يطلب شرقًا ولا غربًا".[4]

ومن نجاحات توفيق بكّار، ملاحظاته الرّشيقة وأحكامه الدّقيقة، في جمل موجزة وموحية: من ذلك الحديث عن جيل الكتّاب في تونس بعد الاستقلال (ص14) "مسيرة جديدة بروح ناقده، روح جيل جديد من الكتّاب ميّال إلى الرّفض، توّاق إلى العدل والحريّة، فكان موضوع الجوع من أروج المواضيع، كادت تستحيل معه القصّة إلى "تقاسيم على الخبزة المفقودة".

وقبل ذلك تحدّث عن مرحلة النضج في الأدب التّونسي (ص12) فقال: "ومرّت الحرب العالميّة الثّانية، فصمت المسعدي كاتبًا... وانتحر العريبي ومات الدوعاجي فعاد البشير خريّف إلى الكتابة ودخلت القصّة التونسيّة طورًا جديدًا في حياتها."

الأستاذ جلّل عزونة مشاركا مجموعة الجسر الصّغير أغنية اختتام
 العرض

الخاتمة:

وهكذا، بقي توفيق بكّار، بدروسه ومقدّماته[5] يعلّمنا منذ صدور مجلّة التّجديد في ستّينات القرن العشرين حبّ الأدب التّونسي حديثه وقديمه "على سبيل التّشويق والتّذويق" حسب عبارته[6]. رحمه الله.

جلّول عزّونة
أريانة: 17 جوان 2017




[1]  أشرف توفيق بكّار على عشرات الأبحاث الجامعيّة حول الأدب التونسي بمستويات مختلفة سواء منها شهادة الكفاءة أو الدكتوراه حول: الشّابي والمسعدي والبشروش والبشير خريّف وغيره، ومن الباحثين تحت إشرافه نذكر: فاطمة الأخضر، عبد الحميد سلامة، يوسف بن ساسي، سالم ونيس، يوسف الحنّاشي، فوزي الزمرلي، صلاح الدّين بوجاه، عبد الصمد زايد، علياء التابعي...
[2]  من محاولات النقّاد الأخرى نذكر: أبو القاسم كرّو، أبو زيّان السّعدي، جون فونتان، الطّاهر قيقة، محمّد صالح بن عمر، الطّاهر الهمّامي، فوزي الزّمرلي، فريد غازي، أحمد ممّو، رضوان الكوني...
[3]  انظر كتابه عن الكتّاب التّونسيّن (مع صالح القرمادي) 1981 طبع Sindbad (باريس) وصفحات بجريدة Le Monde 1972 مع مقتطفات مترجمة.
[4]  استشهد بابن الفارض، وأحمد شوقي، وأبي العتاهيّة وبيدبا الحكيم وطرفة ابن العبد.
[5]  كتب عديد المقدّمات نذكر منها: للطاهر الهمّامي ديوان الحصار (1972) وكتب المسعدي (السدّ و من أيّام عمران...) ومصطفى الفيلالي، وتوفيق العلوي، ...
[6]  ص7 من مقدّمته لمختارات من الأدب التّونسي المعاصر (1985).

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

القصة والتراث

تكريم الهكواتي

أنا أيضا ... حوماني