القصة والتراث

الصّورة التّراثيّة في النّصّ السّردي التّونسي القصير في النّصف الأول من القرن العشرين. قصّتا "أمن تذكّر جيران بذي سلم" للدوعاجي و"السّندباد والطّهارة" للمسعدي نموذجا.


انتظم، في دار الثّقافة بمساكن، يومي السبت والأحد 19 و20 مارس 2016، الملتقى الوطني الوطني للقصة القصيرة، الذي ينظّمه سنويّا الصّالون الأدبي الزّوراء. وأقيمت ضمن فقرات الملتقى ندوة حول "القصة القصيرة ومصادرها التراثية"،كانت لي فيها مساهمة بمداخلة أنشر هنا نصّها كاملا.



يعيش التّراث فينا، نتلقّاه من السّلف، فنتعايش معه فيبقى بنا حيّا. ثمّ منّا ينهل فينمو فننقله إلى الخلف يزيد به ثراء. وتلك سنّة الحياة.

ما التراث ؟ كل ما نرثه ثمّ نورّثه بعد إثرائه بما ننتج نحن، و/أو بعد تفقيره بما نتلفه منه وبخاصّة متى كانت منّا عطالة عن الإنتاج الفكريّ، هي للأجيال اللاحقة تفقير.
التّراث المقصود هنا هو التراث الثقافي طبعا، ومنه تحديدا، بما أننا نتحدّث عن القصّة، التّراث اللاّمادّي.

كلّ ما يدخل ضمن هذا الصّنف من التّراث من عادات وتقاليد وحكايات شعبية وأساطير وأشعار متداولة وأغان، وكذلك من فنون وحرف وألعاب واحتفالات وأعياد دينية وأمثال سائرة وألغاز، وأيضا من آراء وأفكار جاهزة يتناقلها النّاس جيلاً عن جيل... كل ذلك يمكن أن يظهر في شكل صور بصريّة أو صوتية أو لغويّة، تجد لها موقعا في الإنشاء الفنّي والأدبي.

من هذه الصّور ما يجسّد تراثا حيّا ما يزال قيد الاستعمال في حياة الناس اليومية. يطفو    على سطح ذاكرة المنشئ تلقائيا، بوعي منه أو دونه. ومنها ما يعيد إلى الحياة تراثا قد يكون منسيّا فيذهب إليه المنشئ عنوة فيثمّنه ويوظّفه في إنشائه تفاعلا معه وفعلا فيه "لتملّكه" بشكل جديد. فالتّراث على رأي أندريه مالرو "لا ينقل بل يُتملّك".

منشئ الأثر الفنّيّ والأدبيّ، قد يستلهم التّراث إن شاء، ولكنّه، شاء أم أبى، بنّاء للتّراث، وغالبا ما يستحضر في ذهنه الأجيال اللاحقة ويطمح أن ينقل إليها ما بناه و أن تهبّ هي لتتملّك إنشاءه تراثا. فالصّورة التي ينقلها عن واقعه اليومي ستحدّث اللاحقين عنه وعن مجتمعه وعاداته وتقاليده وعن الأفكار السائدة فيه والجدل القائم في نواديه إلخ...
ونحن حين نقرأ ما نرثه من نصوص كتّابنا من القرن الماضي مثلا سنجد فيها، ولا شكّ، صورا من تراثنا اللامادّي.

في اختيار النّموذج

من هذا المنطلق، ولغاية في نفسي سأكشف عنها في الختام، اخترت أن أعود إلى تراثنا القصصيّ المكتوب في النّصف الأوّل من القرن الماضي، وتحديدا إلى ما تركه لنا الدّوعاجي والمسعدي. وسأتوقّف بالأساس عند نصّي "أمن تذكّر جيران بذي سلم"  للأوّل (من مجموعته "سهرت منه الليالي") و"السّندباد والطّهارة" للثّاني (من أعماله الكاملة).

إلى جانبي على المنصة الأستاذة عائشة المؤدب رئيسة الجلسة

قد لا تكون لنا دراسات كافية تطلعنا على كلّ التّراث السّردي التّونسي الموروث من النّصف الأول من القرن الماضي، ولكن لا أحد يجادل في أنّ علي الدّوعاجي ومحمود المسعدي من أبرز الأسماء التي فرضت حضورها في المشهد الأدبي التّونسي. وإذا أخذنا بعين الاعتبار، بالإضافة إلى ذلك، ما عرف عن المسعدي من أسلوب مميَّز بلغته ومناخه التّراثيين، وما تزخر به نصوص الدّوعاجي من تصوير للواقع التّونسي، مفعم بالصّور التّراثية التي يستحضرها من ذاكرته أو التي يلتقطها ليصنع لنا منها ما أصبح اليوم يشكّل تراثنا، جاز لنا أن نتّخذ نصوصهما، في سياق لقائنا هذا، نموذجا يمثل هذه الفترةَ من تاريخ أدبنا التونسي أحسن تمثيل.

هذا بالإضافة إلى العلاقة الوثيقة بين النّصين المختارين هنا وبين التّراث.  إذ، خلافا لفئة أخرى من النّصوص حيث يطفو التّراث على سطح الكتابة بشكل تلقائي، بوعي حينا وبدون وعي في غالب الأحيان، نجد في هذين النّصّين إعلانا صريحا، منذ العنوان، لعلاقة مقصودة بنصّين من التّراث العربي المكتوب: أحدهما سرديّ "رحلات السّندباد السبع" من ألف ليلة وليلة، و الآخر شعريّ "البردة" للبوصيري.

الدّوعاجي يستدعي "البردة"

أمِنْ تذَكُّرِ جيرانٍ بذي سلمِ              مزجتَ دمعاً جرى من مقلة ٍ بدمِ
أمْ هبَّتِ الريحُ من تلقاءِ كاظمة       وأوْمَضَ البَرْقُ في الظلْماءِ مِنْ إضَمِ

هو ذا مطلع ميمية البوصيري المعروفة باسم  البردة""  والتي اختار الدّوعاجي صدر بيتها الأوّل عنوانا لقصّته. عنوان القصيدة الأصلي هو "الكواكب الدّرية في مدح خير البرية". وهي قطعة تراثية يسمّيها العامّة "سريدة المولد" ومازلنا إلى اليوم نستمع إليها تنشد بمناسبة المولد النبوي الشريف. ولكن لم يعد أطفالنا يحفظونها على النّحو الذي تصوّره قصّة الدّوعاجي في النّصف الأول من القرن الماضي.

يستلهم كاتبنا، باستدعائه هذه القصيدة، نصّا من التراث العربيّ الإسلامي عموما. وإذا عرفنا أنّ كاتبها  محمد بن سعيد بن حمّاد البوصيري الذي ولد في بلدة   بوصير بمصر وعاش بين 1213م و1295م، هو في الأصل صنهاجي أمازيغيّ، جاز لنا الافتراض أن الدّوعاجي حين بادر باستغلال قصيدته، كان يعي أنّه، بحكم هويته التّونسية، معنيّ بتملّك هذا التّراث، من موقع أقرب من مجرّد الانتساب إلى الثّقافة العربية الإسلامية الجامعة.

قصّة الدّوعاجي تتخذ من المؤسسة الدّينية موضوعها. عنوانها يدلّ على ذلك وكذا أحداثها التي تتنزّل، زمانيّا، في سياق الاحتفال بالمولد النّبوي الشّريف، أحد أهمّ أعياد المسلمين في تونس، ومكانيّا، في الكتّاب أساسا، أي في فضاء المؤسّسة التّعليمية التّقليدية التّابعة عمليّا للمؤسّسة الدّينية.

مع الكتّاب، نجد في هذا النّصّ، فضاءين آخرين: أحدهما بيت المؤدّب. فضاء يشكّل معبرا من الكتّاب إلى الفضاء المجتمعي الفسيح. وثانيهما المقبرة، "فضاء عبور" هو الآخر، ولكن بين الحياتين الدّنيا والأخرى، أو لنقل فضاء اعتبار بالأساس كما أراد الدّوعاجي أن يوظّفه.

الشّخصيات الأساسية ثلاث: المؤدّب، وهو الماسك بزمام السّلطة التّعليمية- الدّينية في الكتّاب والاجتماعيّة في بيته. ثمّ الطّفل المتعلّم الخاضع لهذه السلطة المطلقة، وأخيرا زوجة المؤدّب التي تخضع بدورها، نظريّا على الأقلّ، لسلطة المؤدّب الاجتماعيّة، والتي يمكن اعتبارها هنا عينا للمجتمع على الفضاء الحميمي لصاحب السلطة.

حدثيّا، تصف القصّة استعداد المجتمع بأسره للاحتفال بالعيد الدّيني، ولكن إذا كان هناك من حدث رئيسي دالّ فهو السّرقة. وهي جرم تدينه كلّ الأديان وأوّلها الإسلام، دين كل شخوص القصّة. والسّرقة هنا سرقتان:

سرقة تأتيها زوجة المؤدّب، إذ تأخذ بعضا من مال يخفيه زوجها في عشّ الزّوجيّة. سرقة وهكذا تسمّى، ممارسة استثنائيّة تقع في السّرّ. فلا يراها أحد سوى من لا تخفاه خافية (إلى جانب الراوي العليم الذي أورد خبرها). ولكنّها حركة يدينها الدّين بوصفها، في ظاهرها طبعا، خيانة مؤتمن.

وسرقة أخرى تسبق الأولى. لا تسمّى باسمها هذا، ربّما لأنّها تتّخذ، في الظّاهر دائما، شكل عقاب تأديبي يأتيه المؤدّب بوصفه مؤتمنا على تأديب الأطفال. إذ يقتطع نسبة معيّنة من هبة تصرفها إدارة الأوقاف للأطفال لحثهم على حفظ وإنشاد "بردة المديح"، محافظة منها على هذا التّراث.

سرقة يأتيها المؤدّب من موقع سلطته ويمارسها قاعدة لا استثناء. حركة دوريّة من تقاليد الكتّاب، تماما كالتّقرّب إلى الله بإنشاد "سريدة المولد". سرقة لا تقع في السّرّ بل على مرأى ومسمع من كلّ الخاضعين لصاحب السّلطة التربويّة/الدّينية. الله الذي لا تخفاه خافية يدرك أنّها، في باطنها، سرقة، وكذلك الرّاوي العليم الذي أورد الخبر من موقع شاهد العيان. ولكن لا أحد كان يُظهر إدراكه حقيقة الأمر أو يجرؤ على تسمية تلك الحركة باسمها.

بين جمهورالملتقى

خبر هذه الحركة التّأديبية العلنية التي باطنها السّرقة، يصل سريعا إلى الزّوجة، فتأتي الحركة التي في ظاهرها سرقة والتي جوهرها حركة تأديبية، ردّة فعل تصحيحيّة في كنف السّرّيّة، تأتيها الزّوجة بواعز دينيّ أصيل عساها تزكّي مال زوجها بإعادة الحقّ إلى صاحبه، وصاحبه هو ذلك الطّفل الفقير (المسروقة منه عطيّته) والذي سيتمكّن بهذا المال من إعداد قصعة العصيدة المولديّة وجلبها إلى الكتّاب كما يفعل أطفال الأغنياء.

سرقة أم زكاة؟ سؤال يدفعنا الدّوعاجي إلى طرحه حين ينتقل بنا إلى هذا العيد الديني بالذات إذ يعود بعد قفزة زمنيّة يكون الطّفل فد ارتقى خلالها إلى سنّ الكهولة وزوجة المؤدّب إلى الرّفيق الأعلى. فإذا نحن في ذلك الفضاء المعْبَر بين الحياتين الدّنيا والأخرى، وإذا في المشهد رجل يبكي وينشد "سريدة المولد" على قبر. يعلمنا الكاتب أنّه " لسارقة الرّيالات الخمسة"، لتلك المرأة التي سرقت من أجل إعادة الحقّ إلى صاحبه، وأنّ الرّجل هو ذلك الطّفل الذي أعادت إليه حقّه. "رحمها الله وغفر لها" يضيف الدّوعاجي. فهل هذا دعاء الكاتب لصاحبة القبر، أم هي جملة تقريرية تؤكد أن الله رحم المرأة، ولا شكّ، بتلك السرقة وغفر لها بعد؟

المسعدي يستحضر السّندباد

"السّندباد والطّهارة" كذلك، نصّ يعلن من عنوانه تقصّده التّفاعل مع التّراث. "السّندباد"، شخصيّة يستحضرها المسعدي من الموروث القصصي العربي وتحديدا من  "ألف ليلة وليلة" التي تحدّث عن السّندباد البحري.  بحّار من الخيال يفترض أنّه عاش في بغداد أيّام الدّولة العبّاسيّة، توّاق إلى الرّحيل. رحلات سبع تحطمت به خلالها مراكب ومراكب ليجد نفسه في جزائر خالية إلاّ من أغوال وأهوال ووحوش لا كالوحوش، لا يتمكن من النجاة منها والعودة إلى بغداد إلاّ ليأخذه الحنين إلى السّفر والمغامرة من جديد.

قصّة المسعدي قصّة شخصيّةٍ فردٍ. أمّا بقية الشّخوص فمجرّد حضور في مشهد أمام عيني السّندباد أو في خاطره. يمكن أن يوهمنا اسم هذه الشّخصيّة بعودة إلى العصر العبّاسي ولكن الزّمان في هذه القصّة كأنّه نقطة من خارج الزّمان. "ليلةٌ مأساةٌ قلقٌ" لا موقع لها محدّدا على خطّ التّاريخ. المكان أيضا يمكن أن نتوهّم فيه بصرة بني العبّاس، ولكنّ القصّة لا تحدّد له موقعا على خارطة الجغرافيا، نفهم فقط أنّنا في مدينة قذف السندبادَ إليها مركب. ثمّ إذا هو يخرج من خان بداخلها إلى زقاق يعبره إلى ساحةِ مرفإ حوله ترسو السّفن والفلك، تفضي إلى فضاءٍ "خانٍ وحانةٍ وماخورٍ معا".

في هذا الفضاء تدور أحداث القصّة إن جاز لنا أن نسميها أحداثا. فلا أحداث في الواقع سوى خروج فعبورِ زقاقٍ فوقوفٍ في بابِ خانٍ فتبادلِ تحيةٍ عابرةٍ مع صاحبِه فجلوسٍ إلى جاريةٍ، فانصرافٍ عنها سريعٍ ورحيل.

إذا كان في القصّة من حدث دالّ، إذًا، فهو ذلك الصّراع بين "غولين" الفساد والكيان، تلك "الرّيح الشّمال الهجهاجة اللاّذعة" تهبّ على المرفإ ولا نزع لها ولا وقع إلاّ في خاطر السّندباد، ولا حضور فيها لأحد غيره، ولا حتى ليكون متفرّجا.

أمّا المدينة فلا يعبرها هذا الكائن القَلِقُ إلاّ ليشهد أنّها "خلاء ووحشة وظلام رصاص" ... "كأنما فنيت مادّة الكون وكان الفراغ والخلاء". هي مدينة تحيل على غربة الذّات فيها، غربة لا مقارنة تجوز بين عمقها وبين طرافة ما لقيه السّندباد البحري في الجزائر المهجورة التي حلّ بها في رحلاته.

"السندباد والطّهارة" قصة توق إلى التّخلّص من أدران المكان وهروب من قذارة النّاس الذين هم النّجاسة والعفن والنتن، وسعي إلى الطّهارة. والطّهارة مفهوم يحيلنا على التراث الدّيني. وفي القصّة إشارة صريحة إلى المؤسسة الدّينيّة، تستدعيها ذاكرة السّندباد، وتستحضر منها إلى فضاء الخان كلّ ما يغذّي شعوره بالقرف من قذارة المدينة وأهلها.

وهكذا يحلّ بالخان فضاء الكتّاب وفضاء الجامع وتحلّ شخصيات مؤدب الصّبيان ذي اللواط والقاضي المرتشي والمتعبّد الكاذب. والسّندباد واقف على باب الخان، يتأمّل الفضاء ويفكر في ماهيته، تقفز إلى ذهنه صورة متوضأ الجامع حيث يتطهر النّاس من الغائط والجنابة والأدران الجسدية استعدادا للصلاة، فلا يتمالك عن مقارنة هذه الصّورة  بصورة مؤسسة اللهو الماثلة أمام عينيه. مؤسّسة تقوم على السّكر والزّنى، يجد فيها ملاذا لمن رام التّطهّر من ادران المكان ومآسيه ومن نجاسة النّفوس التي هي الكذب والنفاق والرياء الاجتماعي والبغضاء والدناءة والاوهام والنفاق والحماقات والسفاسف. ومع ذلك فحين يتخذ له مكانا في الخان وتجلس اليه القينة تتسرب إلى جسده فضاعة القبح ولا يعود يرى في هذا المكان إلا العفن وقبح العورة وكل ما هو نفي للطهر والنقاء والطيب. فلا يملك سوى الانطلاق في أخر رحلة له وهو يَنْشُد "طهارة الأعماق".

مع أعضاء صالون الزّوراء منظم الملتقى

ترجمان العصر

إضافة إلى الحضور الرّئيسي للتراث المقصود بذاته في هاتين القصّتين و في نصوص الدّوعاجي والمسعدي عموما، يمكن العثور على صور عديدة أخرى لا ندري مدى تلقائية حضورها أو إضماره. فمن تشابيه ذات مرجعيّة دينيّة[1]  إلى صور متداولة[2] إلى تعابير جاهزة[3] إلى إحالة على التراث الاخلاقي للاسلام[4] إلى صياغات على نمط مألوف[5] إلى أمثلة سائرة[6] إلى صور من الحياة اليومية[7] إلى غير هذه من الصّور التي يمكن مساءلتها في دراسات أكثر تعمّقا.
إنّ أبرز ما نستنتجه مما تقدّم هو أنّ كلاّ من الدّوعاجي والمسعدي تعاملا مع التّراث تعاملا واعيا.

الفرق بين التجربتين هو أنّ الدّوعاجي يستدعي صورا ما تزال ذات حضور في الحياة اليوميّة يستغلّها لمساءلة حاضره وفضح عيوب مجتمعه. وهو إلى ذلك يلتقط في قصصه صورا من الحياة تسجّل تراثا حيّا. أمّا المسعدي فلا يهتمّ بتصوير الحياة اليوميّة، إنّما يستدعي من التّراث فقط ما يوظّفه بما يتلاءم مع طروحاته ومشاغله وغاياته الفكريّة.
والدّوعاجي غالبا ما ينزّل أحداث قصصه في مدينة معلومة وزمن يسهل التعرف عليه ويرويها بضمير المتكلّم، متحدثا في قصة الحال مثلا عن فترة طفولته حين كان يرتاد الكتّاب مع ذلك الطّفل الفقير.

أمّا المسعدي فيحرص على محو ملامح المكان والزّمان وعلى اتخاذ مسافة مع الأحداث ليلتحم بطله بمأساة الإنسان في كلّ زمان ومكان. فهو في هذه القصة مثلا يقرن الطّهارة بالسفر فينزاح بهذا المفهوم (مفهوم الطّهارة) من بعده الدّيني الى بعد فلسفي ويخرج به بالتالي من التّراث الإسلاميّ الضّيق الى التراث الانساني الفسيح.

الدّوعاجي يصور التّراث كما يرثه وكما يراه مجسّما في ممارسة المجتمع الذي يعيش فيه ولكنه حين يصوغه من جديد يبثّه من أفكاره ونقده ما يريد به إصلاحا لشأن مجتمعه. ولعلّه يعي أنّ الصّورة القصصية حين تقرأ بعد عقود من كتابتها، وتكون ملامح المجتمع فد تغيرت، تصبح صورة تراثية تتملّكها الأجيال اللاّحقة.

أمّا المسعدي فلا يتفاعل مع التراث إلاّ لإعادة إنتاجه خلقا جديدا لا يشبه القديم في شيء. فهو ينزل قصّة "السندباد والطّهارة" في فضاء على رصيف ميناء يجمع بين الخان والماخور والخمارة. بينما لا فضاء من هذا القبيل في النصّ التراثي المستحضر من الف ليلة وليلة. ولا خمارة ولا خان ولا ماخور في رحلات السندباد البحري، حيث الأماكن بين الجزر الخلاء والدور والقصور العامرة وحيث نرى البحر في مخاطره والبرّ في مجاهله ولا نقف على وصف ميناء أو مكان في مدينة لاستراحة مسافر. أمّا  اسم السّندباد فاقتبسه المسعدي من التّراث لأنه شخصيّة اشتهرت كرمز للسّفر. فلا نجد في القصّة من رحلات السندباد البحري سوى فكرة القيام على سفر هروبا من الاستقرار وتطهرا من أدرانه، تصديقا لقول الإمام الشافعي "اني رأيت ركود الماء يفسده فإن جرى طاب أو لم يجر لم يطب". نفس هذه الفكرة نجدها تحتل مكانا محوريا في أدب المسعدي فنصّ "المسافر" يقوم عليها وكذلك سيرة أبي هريرة.

مع الشاعرة الاستاذة آسيا الشارني أسلمها شهادة تكريمها

ومع هذا فإنّ المسعدي والدّوعاجي يشتركان في استلهام الصّور ذاتها من التّراث نفسه. وفي القصتين التين كنّا بصددهما صور ثلاث على الأقلّ تشهد بهذا التطابق.
الأولى صورة المؤسسة الدّينية من خلال استدعاء فضاء الكتّاب في قصىة الدّوعاجي وفضاءي الكتاب والميضأة في قصة المسعدي. صورة من حاضرهما المشترك يستشهد بها المسعدي على قذارة يشعر بها بطله ويسجّلها الدوعاجي شهادة على عادات مجتمعه.

الصورة الثانية، هي صورة التّطهّر بالمحرّمات من قذارة النّفس. نفس التّوق إلى الطّهارة  والرغبة في فضح القذارة. في الكتّاب يبرز المسعدي العفن المادّي بينما الدّوعاجي يبرز العفن المعنوي المتمثل في تحيل المؤدب على الاطفال بالامتحان العسير كي يقتسم معهم ما غنموه من عطايا إدارة الأوقاف. شخصيتا السندباد وزوجة المؤدّب تتماثلان في التطهر بما هو في العرف نجاسة. السندباد بالسكر والزنى يتطهّر من أدران النّفس والمرأة بالسرقة تطهر بيتها من ادران المحرمات التي اقترفها زوجها الورع.

أمّا الصّورة الثالثة الجامعة بين القصّتين فهي صورة صوتية من الجرس القرآني. والقرآن منهل مشترك بين الكاتبين. فلنستمع إلى الدّوعاجي يقول إنّ المؤدّب "عرف بجمع المال جمعا لمّا"، تعبير يحيلنا على جرس سورة الفجر وتحديدا على آيتيها (وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَّمًّا . وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا). أمّا المسعدي فيحيل على جرس سورة النّاس إذ يكتب "ما يملأ أفئدة النّاس وما يتحرك في صدور النّاس، وما يتعفّن في نفوس النّاس... الخ".  فالكاتب هنا يربط صورة النّاس بالقذارة التي هي البغضاء والدناءة الخ... ويستشهد على صحة ما ذهب إليه بصريح محتوى سورة النّاس عبر دعوة جرسها. فإذا المتلقّي المسلم وهو يقرأ القصّة يستعيذ برب الناس من شر الوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور الناس.

أيّ تراث ولماذا؟

هذا التّقاطع بين محمود المسعدي وعلي الدّوعاجي هو ترجمان لانتمائهما إلى نفس البيئة ونفس العصر، ودليل على تماثل هواجسهما وإن باعد بينهما الأسلوب والمنهج والاختيارات الفنّيّة. فكلاهما يعبّر عن القلق الذي كان يعيشه المجتمع التونسي في النّصف الأول من القرن العشرين ويؤكّد محوريّة التّساؤل حول المسألة الدّينية بالخصوص.

من هنا أعود إلى نقطة الإنطلاق لأطرح السّؤال: التراث، سواء كان الاحتكاك به قصديّا أو لا واعيا، منهل لكلّ منشئ في كلّ أشكال الإنشاء الفكري والفنّي. فلماذا نبحث في هذا الملتقى عن المصدر التراثي في القصة دون سواها من الأجناس الأدبيّة والفنّيّة؟ الجواب ببساطة هو أن الجمهور المستهدف يركز اهتمامه على كتابة القصة.

أسطّر إذًا : المقصود الأساسيّ في هذا الملتقى هو "التّراث مصدرا" أمّا جنس القصة فثانويّ.

ولكن لماذا نتساءل اليوم بالذّات عن علاقة القصة بالتّراث؟ التّراث مكوّن أساسيّ من مكوّنات الهويّة الثقافية لمجتمع مّا. فهل من علاقة إذًا بعودة مسألة الهوية كتيمة إلى صدارة الجدل السياسي والثقافي في بلادنا بعد ما اصطلح عليه "بالثورة"؟

في مجرّد طرح مسألة التّراث الآن وهنا إقبال -بوعي أو من دونه- على المساهمة في إعادة هذا الموضوع إلى صدارة الاهتمام بل انجرار إلى الانخراط في هذا الجدل. وهذا الانخراط، إمّا أن يكون واعيا منطلقا من موقف فاعل به نبادر أو –على الأقلّ- نتبناه وندافع عنه عن اقتناع، وإلاّ فمشاركتنا ستكون من موقع الدّمية تحرّك خيوطها أطراف لا نأمن غاياتها.

لهذا، لم يكن اختياري العودة إلى نصوص المسعدي والدّوعاجي بريئا. بل إنّ توقّفي أساسا عند نصّي "السّندباد والطّهارة" و"أمن تذكّر جيران بذي سلم"، كانت وراءه غاية.

فهذان النّصّان كتبا في النّصف الأوّل من القرن العشرين. وكانت مسألة الهويّة في تلك الفترة مطروحة بحدّة، سياسيّا وثقافيّا. فمن قضيّة التّجنيس إلى قضيّتي المرأة والتعليم إلى قضايا أخرى ليس أقلّها قضيّة العلاقة بالتّراث اللغويّ والدّيني بالخصوص. وهي قضايا من صلب الجدل حول مسألة الهويّة.

والمشهد عندنا في مطلع هذا القرن الحادي والعشرين لا يبدو –لمن يحسن قراءته- مختلفا كثيرا عنه في منتصف القرن الماضي. نفس القضايا تعود إلى صدارة المشهد بنفس الحدّة. كما لو أنّ سلفنا لم يطرحها من قبل، كما لو أنّنا نصرّ على العودة بالجدل إلى نقطة انطلاقه. كأننا لسنا ورثة ذلك المخاض الفكري الذي كان ولا مالكي ذلك التّراث الثقافي الذي نشأ عنه. هل كتب علينا ألاّ يتقدّم تاريخنا إلاّ بشكل اهتزازيّ تعثّريّ ارتداديّ؟ هل قدرنا أن نكتب حاضرنا انطلاقا من ورقة بيضاء كما قال قائلهم ذات مجلس تأسيسيّ، وحالنا حال من ينام على حشيّة من أوراق نقديّة ويقترض بشروط معسّرة ما به يسدّ الرّمق؟

إثارة مسألة استدعاء التّراث في الكتابة القصصية من جديد تطرح عليّ اليوم أسئلة جوهرية أريد أن أتقاسمها معكم: أيّ التّراث أستغلّ في كتابة نصوصي؟ ولماذا؟ وكيف أوظّفه بشكل يجعله إبداعا لا مجرّد تقليد؟ ما الجديد الذي سأصنعه منه؟ وإلاّ فلماذا أستدعيه أصلا؟

هناك فرق بين أن أشعر بنقص أمام السّلف فأستدعي تركته مكمّلا لي كأن أجدني عاريا فأتّخذ من التّراث ساترا ودثارا، أو قبيحا فأستعمله مجمّلا، وبين أن أقصده ندّا لمن ورّثني إياه فأحاوره وأقيّمه وأسائله، وأنتقي منه في النّهاية ما أزيد عليه من عندي لأبني إبداعا جديدا متجدّدا.

ليس من دوري أن أحافظ على التّراث. يمكنني كأيّ كاتب أو منشئ في أي من الاشكال الفنية الاخرى، أن أتفاعل معه وأفعل فيه. أما المحافظة عليه فشأن السلطة السّياسية أو السّلطة العلمية المتخصّصة والتي تعرف ما يكتسي قيمة ثقافية وينبغي المحافظة عليه وما لا قيمة له.

احتكاكي بالتّراث لا بد أن يكون عن وعي بأنّ ما أنا بصدد التفاعل معه موروث من أجيال سابقة وبأنّ واقع من ورثته عنهم، مهما كانت مكانتهم، ليس تماما واقعي وعصرهم، مهما كان مزدهرا، ليس عصري. عليّ إذًا أن أتساءل عن مدى صلوحية ما سأقتبسه من هذا التراث  لحياة يومي. وأن أعي أيضا أنني بما أكتبه سأحوّل الموروث إلى مادّة تراثية جديدة سأنقلها عنّي وعن جيلي للأجيال اللاحقة. وأن أتأكّد من أنّ ما سأنقله يعطي صورة صادقة عنّي وعن مجتمعي وعن عصري حتّى لا أنقل صورة كاذبة ومشوّهة يمكن أن تشكّل تظليلا لورثة هذا التراث الذين سيبنون به ويبنون عليه كينونتهم ويعيشون به عصرهم هم، لا عصري ولا عصر سلفي.

الإنشاء سلطة ولا بدّ أن أعي أنّ من حقّي أن أمارس في تفاعلي مع المادّة التراثية سلطتي النّقديّة، حتّى يكون لي تحليل ذاتي لهذه المادّة وموقف شخصيّ منها وخطّة واعية لتوظيفها في إنتاجي أنا.

التراث كان حاضرا في الندوة من خلال مراوحات موسيقية قدمتها مجموعة من الشباب 
تنشط في دار الثقافة بمساكن وتركز برامجها على الموروث الموسيقي التونسي

هناك طبعا جانب من التّراث تربطني به هويّتي الوطنيّة أو اللغويّة أو الدّينيّة، ولكن هناك أيضا جانب كبير من التّراث أوسع من هويّتي هو التراث الإنسانيّ الذي من حقّي إن لم أقل من واجبي أن أتملّكه أيضا. كما أنّ جانبا آخر من التّراث يكتسي صبغة محلّيّة أضيق من هويتي الوطنية بل يمكن أن يشكّل تراثا خصوصيّا لحومتي أو عائلتي، ومن دوري التقاطه وبث الحياة فيه فنّيا بما يحوّله إلى تراث جامع.

الهكواتي سالم اللبّان



[1] ("كأنها سخرية شيطان قارسة")
[2] ("نور سراج يرهقه الليل")
[3] (ان شاء الله – والحمد لله - النفس أمّارة بالسوء)
[4] (تذكر الجيران في الاعياد والمناسبات.)
[5] (الف ماخور و ماخور)
[6] (إذا الكلام من فضة...)
[7] (الكانون والسخان –سقّاء الحيّ - المرأة الملتحفة التي لا تكلم طارقا إلا من خلف الباب)






تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

تكريم الهكواتي

أنا أيضا ... حوماني