عنقود العنب

سنتي على جناح السّرد – النّص 14 من 53 – 09 ماي 2008


عنقود العنب

صرخة المرأة الملتاعة التي دوّت في شاطئ رفراف زعزعت كياني. كان الشاطئ شبه فارغ. فالربيع لم يكن قد انتهى بعد، ولم تكن جحافل المصطافين قد اجتاحت قريتنا بعد بأعداد كبيرة. كنت ممدّدا على الرّمل فوجدتني فجأة، وقد انخطف قلبي، أنهض كالمصعوق بالكهرباء.

تركت زوجتي وقد كانت ممدّدة بقربي وما كان يبدو أنّها سمعت شيئا، وهببت مندفعا إلى الماء لا أدري إن كان عليّ أن أجري أم أن أسبح.
كان واضحا أنّ المرأة المستغيثة غريبة عن القرية ولا تحسن السّباحة. كان الماء يصل إلى مستوى سرّتها. وكانت تصرخ وتهمّ بإلقاء نفسها وراء ابنتها الصّغيرة التي أخذها منها الموج إلى الدّاخل. أمّا أنا، فكنت أسرع نحوهما وأصيح بالمرأة أن تقف في مكانها ولا تتقدّم أكثر حتّى لا يجرفها التّيّار هي الأخرى. ومن حسن حظّها وحظّ البنيّة أنّها امتثلت، وإلاّ لكانت واحدة منهما على الأقلّ قضت غرقا.

*****

خرجت بالبنيّة إلى الشّاطئ وأمّها تتبعني ولا تكفّ عن النّديب. قلبت الغريقة على رأسها لأفرغها قدر الإمكان ممّا ابتلعته من ماء البحر. كانت فاقدة الوَعي أو تكاد. أخذت أضمّها إلى صدري، أعصرها والماء يتدفّق من فمها. ثمّ قلبتها على رجليها وهي لا تكاد تقوى على الوقوف وبدأت أصفع خديها برفق وأطبطب على ظهرها حتّى شهقت أخيرا وأخذت تسعل. عندها فقط عاد لي الأمل وتأكّدت من أنّها نجت. ولكن، عبثا كنت أحاول طمأنة أمّ يكاد صراخها يثقب طبلة أذني. فقد فقدت قدرتها على التحكم في نفسها فواصلت العويل والتـخبيط بقوّة على فخذيها.
أرسلت في طلب الحماية المدنيّة، وطرحت البنيّة على الرّمل، وأخذت أضغط على صدرها بيديّ بانتظام لأساعدها على استعادة التّنفّس. ولكنّ اقتراب المرأة من ابنتها إلى حدّ عرقلة حركاتي أجبرني على رفع رأسي لأصرخ في وجها أن تبتعد قليلا وتهدأ لما فيه خير ابنتها.

كانت مقرفصة عند رأس البنيّة، وكان محتوما أن تقع عيناي على موضع حميميّ من جسدها. فإذا داخل فخذها الأيسر، على بعد إصبعين بالضّبط من حافّة تبّانها، بقعةٌ سوداءُ نقلتني في مثل لمح البصر من شاطئ رفراف إلى أحد نزل الجنوب حيث كنت قد اشتغلت من قرابة خمس سنوات أو ستّ خلت.

*****

سبحانه، يخلق من الشّبه أربعين وإنّي بهذا لمصدّق. فهذا الوجه لا أذكر من تفاصيله شيئا ولا أستطيع أن أجزم بأي تماثل بين هذه المرأة وتلك. زد على ذلك هلعٌ كان يشوّه وجه هذه الأمّ وإن لم ينقص من شبابها ولا من جمالها الصّارخ شيئا. ولكن، كيف يمكن أن تكون لامرأتين مختلفتين في نفس الموقع بالضّبط من داخل نفس الفخذ، وعلى نفس تلك المساحة، نفس تلك البقعة التي يستحيل عليّ نسيانها ؟
كان الموسم السياحي في الجنوب يوشك على نهايته. وكنت قد تركت زوجتي في رفراف مباشرة بعد زواجنا ومرّ عليّ هناك أكثر من أربعة أشهر لم أتمتّع خلالها بعطلة ولو ليوم واحد. أمّا تلك المرأة فقد كانت في غرفتها بلا رفيق ولم تبارحها من يومين. ومنذ وصلت إلى النّزل وهي تطلب أن تؤتى بالأكل إلى غرفتها.
أنا من كنت مكلّفا بتأمين هذه الخدمة. وكنت كلّما دخلت عليها، وجدتها تذرف دمعا سخيّا. فكنت أسترق النّظر إليها، وكانت هي ترسل إليّ نظرات ما كنت لأفهم معناها. ولكن كانت تتدلّى على شفتيها كلماتٌ تردّد في الخروج، كما لو كانت الحريفة تريد منّي خدمة ولا تجرأ على طلبها. حتّى كان اليوم الثّالث. وجدتها كالعادة في فراشها. فوضعت طبق فطور الصّباح على المائدة واستدرت للخروج فإذا صوتها يستوقفني:
- هل لك في أن تتصدّق عليّ بما لا ينقطع معه دعائي لك في حياتي وحتّى بعد الممات ؟
التفتّ متعجّبا من هذه المرأة الغنيّة ظاهريّا والتي تسمح لنفسها بالتّسوّل من معدم مثلي قائم على خدمتها، وأجبت :
- أنا يا سيدتي رجل فقير لا أملك إلاّ صحّة البدن.
- وأنا لا أحتاج غير جهدك... أعطني فقط بعض فرح ، واستر عليّ. ولك عند الله أجر وثواب جزيل...
هكذا عبّرت عن حاجتها والعينان منها تدمعان. وحين رأتني لا أفهم بجلاء قصدها من هذا الكلام، أدارت رأسها إلى الجهة الأخرى وغطّت عينيها بذراعها حتّى تحجب عنهما رؤيتي. ثمّ ألقت عنها الغطاء كلّه ليسقط إلى جانب السّرير، وفتحت ختاما فخذيها. كانت في مثل سنّي، وكانت عارية تماما وذات جمال مريع. لو كان محلّي ناسك جائع مثل جوعها وجوعي لبدّل دينه في الحين وأعطاها تلك الفرحة التي كانت تتوقّف عليها كلّ حياتها.
لا تهمّ التّفاصيل. المهمّ أن تلك البقعة السّوداء في داخل فخذها الأيسر لفتت انتباهي في الحين. سألتها عنها فقالت دون أن تلتفت لأرى وجهها:
- عنقود عنب، شهوة أمّي حين كانت حاملا بي.
أخذت أدعك البقعة بسبّابتي وإبهامي. فإذا هي في التوّ ناتئة تحمرّ وتمتلئ بشفافية مسكرة حتّى تغدو عنقود عنب بأوراق سوداء وحبّات شفّافة في تورّد الخمر. أمّا المرأة، فكانت كلّما زدت العنقود دعكا زادت هي ارتخاء حتّى كادت تصيح من السّكر، لولا أن سارعت يدي العريضة بالأطباق على شفتيها.
حين أنهيت الإصلاح من هيأتي استعدادا للخروج، كانت هي قد عادت إلى وعيها. اِنـحشرتْ بالكامل تحت الغطاء وأخذت تدعو الله لي بصوت مسموع مشحون بإحساس خاشع، كما لو لم تكن تسبح في الإثم معي. ثمّ استوقفتني قائلة، وهي تواصل إخفاء وجهها عنّي:
- بقي لي عندك رجاء في خدمة وحيدة : عدني بأن ترفض زواج أيّ من أبنائك أو بناتك من كلّ من يحمل اسم نادر أو نادرة.
وعدتها دون أن أخفي تعجّبي من هذا الطّلب. وانصرفت فلم أرها من يومها.

*****

حين وصل أعوان الحماية المدنيّة، كانت البنيّة قد عادت إلى وعيها. كنت قد أفرغت ما في بطنها من ماء البحر وبقيت أمسّد صدرها وأحثّها على السّعال حتّى استعاد تنفّسها إيقاعه الطّبيعيّ. وكنت، طوال الوقت، أرفع رأسي لأطلب من أمّها مزيدا من الهدوء حتّى وهي هادئة. وكان قصدي أن أسترق النّظر إلى تلك الشّهوة في داخل فخذها، قبل أن أستغرق في عملي من جديد متأمّلا وجه الصّبيّة.
كان عمرها لا يتجاوز أربع أو خمس سنوات. وكانت بعد طفلة غاية في الجمال. كان جمالها فعلا من النّوع النّادر جدّا، ما قد يشكّل تبريرا مقنعا لتسميتها نادرة. فقد كانت بشرتها في صفاء بشرة أمّها وسمرتها. أمّا عيناها فقد كانتا زرقاوين. ولو كان لي أن أصدّق حدسي وهذا القلب الخافق بتلك القوّة، لقلت إنّهما كانتا في زرقة العيون الرّفرافيّة الأصيلة، بل في زرقة عينيّ أنا.
شيء ما، أقوى منّي، كان يشدّني إلى تلك البنيّة بل حتّى إلى أمّها. وقد ظهر ذلك على تصرّفي وأنا أصاحب أعوان الحماية المدنيّة حتّى سيّارتهم فأكاد أثنيهم عن أخذ الغريقة إلى المستشفى لمزيد من الفحوص. بل يبدو أنّني، عندما صافحتني أمّها لتشكرني من جديد، أطلت الشّدّ على يديها حتّى ضايقتها. أكيد أنّها لم تتعرّف عليّ. "يخلق من الشّبه أربعين" كما يقول المثل.
أمّا ذلك الشّيخ الذي كان قد التحق بنا، فإنّني ما تفطّنت إلى وجوده وإلى أنه زوجها، وبالتالي والد البنيّة، إلاّ حين قاده حرجه أخيرا إلى مدّ يده إلى حافظة نقوده وإخراج رزمة من الأوراق النّقديّة قدّمها لي مكرّرا شكره. عندها احمرّ وجهي من شدّة الخجل. ولكنّني تصنّعت غضبا تكبته الكبرياء لأقول له :
- آسف يا سيّدي ولكن، أظنّك هكذا تهينني. يبدو أنّك لم تفهمني جيّدا. فنحن ممّن يفعلون الخير لوجه الله لا يريدون مقابلا له إلاّ دعوات من يتمتّع به. كلّ ما في الأمر أنّني متردّد في طرح سؤال إن سمحتما لي.
ودون انتظار أن يسمحا لي، سألتهما إن كانت البنيّة تحمل اسم نادرة. فإذا التماعة تخترق نظرة الزّوجة الشّابّة التي سارعت بالإجابة أن نعم، ولكنّها سلّطت نظرة مباشرة على عينيّ لتسألني عمّا جعلني أحزر الاسم.
ارتسمت على وجهي ابتسامة كان يمكنها أن تقرأ فيها خليطا من الحنان والحزن والتّنازل الصّادق وأجبتها قائلا :
- لا شيء يا سيّدتي. ربّما سمعتك تنادينها هكذا. حفظ الله ابنتَكما من كلّ سوء. ولكنّني تذكّرت، وأنا أحتضنها بين ذراعيّ أنّه كانت لي، أنا أيضا، بنيّة في مثل سنّها تماما ضاعت منّي في الجنوب من سنوات ولم أجد لها أثرا. ولحكمة لا يعلم سرّها سواه، لم يرزقني الله أطفالا بعدها.

*****

حين أحسست عينيّ تغرورقان بالدّموع، استدرت حتى لا يرى الزّوجان منها شيئا. فإذا زوجتي تعترضني، وكانت قد لحقت بي وسمعت ما كنت أقول. استحوذت بغيض على ذراعي كما لو أنّها استرجعت متاعا من غريب، وأخذتني بعيدا عنهما ثمّ بدأت تخاصمني بما يشبه الهمس:
- هكذا إذًا، نحن عندنا بنية فقدناها، يا زائغ البصر يا خائن يا زير النّساء ؟ لنرجع إلى البيت حالاّ وسترى... لو كنت مكان الرّجل لذبحتك في الحال. أتتصوّر النّاس أغبياء ؟ أتعتقد أنّ أحدا لم يتفطّن إلى تمسّكك بيدي المرأة وإلى أنّ عينيك كانتا توشكان على التهام نهديها ؟ سأسوّد عيشك... تفعل الخير ثمّ تسقط حالاّ في الإثم ؟ لو قبلتَ المال من الأب لكان أهون...

كنت فعلا أسمع ثرثرة زوجتي وهي تزبد مخاصِمة ولكنّني كنت أكاد لا أتبيّن منها شيئا. فقد كنت بعيدا، بعيدا جدّا، كالغائب تماما. كان قلبي منقبضا وأنا أتابع بالنّظر سيّارة المرسيدس وهي تتجاوزنا محمّلة بالشيخ وزوجته الشّابّة وتنطلق في ملاحقة سيّارة الحماية المدنية.
كيف التّعزّي عن طفلة من صلبي ما كدت أعثر عليها وأنقذها من موت محقّق حتّى أخذتها منّي سيّارة إسعاف إلى حيث لا خيار لي إلاّ نسيانها من جديد ؟

الهكواتي - رفراف

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

القصة والتراث

تكريم الهكواتي

أنا أيضا ... حوماني