توفيق بكار وحركة الطّليعة الأدبية

"مساهمة" الأستاذ محمد مصمولي 
في سهرة الوفاء لتوفيق بكّار  


لأنّ موقف أستاذ الأجيال توفيق بكّار من حركة الطّليعة الأدبيّة لم يسبق، على حدّ علمنا، أن طرح كموضوع مستقلّ من قبل أيّ شاهد أو ناقد. ولأنّ ما نعرفه عن بكّار في هذا الصّدد هو تقديمه لمجموعة الطّاهر الهمّامي الشّعرية "الحصار" بمساندة كنّا نعتقد أنّها واضحة لا ريب فيها، وتحمّسه عموما لكلّ صوت مجدّد أصيل الموهبة... فقد كان لا بدّ على كلّ من أراد الإحاطة بأغلب سمات شخصية بكّار وأعماله ومواقفه، أن يطرح هذا الموضوع بشكل صريح.

من هذا المنطلق، بادر الهكواتي منذ بداية التخطيط لتظاهرة "تغريدة وفاء"، بطرح هذا الموضوع. ودون كبير تردّد، اتصل بالأستاذ محمّد مصمولي، باعتبار تقديره الشّخصي لهذا الكاتب الطّليعي صاحب القصيدة المضادّة، من ناحية، ثمّ باعتبار الرّجل، من ناحية ثانية، من أكثر المثقفين متابعة للشأن الأدبي في فترة السّتينات والسّبعينات. وطلب منه تحديدا أن يحرر شهادة في هذا الاتجاه تستغرق خمس دقائق بالضّبط، للإدلاء بها أثناء العرض.



وللحقيقة، فإنّ الأستاذ مصمولي الذي رحّب بالفكرة، اشترط أن تكون له الحرّية في إسماع صوت قد يكون مخالفا. وحين عرف أنّنا لا نقيم تظاهرة لتأليه بكّار، وأننا مهما انحزنا لأستاذ الأجيال فإنّ انحيازنا للموضوعيّة أكبر، وأنّنا لا نريد للشّهادات المقدّمة ضمن عرضنا إلاّ أن تكون صادقة، التزم صديقنا بتحرير شهادته على النّحو المطلوب. وأكّد، قبل يوم واحد من العرض، حضوره في سهرة السبت 17 جوان 2017، إلى المكتبة المعلوماتيّة بأريانة، للإدلاء بها.

كان من المفروض، إذًا، أن يكون صاحب هذا النّصّ بيننا على الرّكح، ولكن... يشرف مدوّنة ورشة الهكواتي أن تنشر نصّ مداخلة الأستاذ محمّد مصمولي، وفاء للمعنى في المقام الأوّل، ثمّ لأنّه نصّ أنشئ ليكون من مكوّنات عرضنا ومن موادّ الملف الذي نعدّه حول هذه التّظاهرة. فقراءة ممتعة للجميع، مع تحيات الهكواتي.
 

توفيق بكار وحركة الطّليعة الأدبية (*)

إلى أيّ حدّ كان الأستاذ توفيق بكّار، باعتباره النّاقد الجامعيّ في تونس ذائع الصّيت المتفتّح على السّاحة الثّقافية، مساندا لحركة الطّليعة الأدبيّة التّونسية التي كانت تتوق الى إنشاء أدب آخر، وقصّة أخرى، وشعر آخر، ونقد آخر ومسرح آخر، وكادت بين أواخر ستّينيات القرن العشرين وأوائل السّبعينيات، أن تحدث، كما قال الدّكتور طاهر لبيب، "تغييرا جذريّا في الأبعاد المفهوميّة للثّقافة.."؟
"للتاريخ أقول"، والكلام هنا للدّكتور محمد صالح بن عمر، "إننا كنّا على خلاف تامّ مع المرحوم القرمادي في هذا المجال، فقد كان يسمّي الطّليعة على سبيل السّخرية، "الهبيطة" !! أمّا أستاذنا توفيق بكّار فكنّا نلومه على تحيّزه لشخص عزّ الدّين المدني، ولمقدّمته التي كتبها لمجموعة (الحصار) للطّاهر الهمّامي، وهي مقدّمة تؤكّد أنّه لم يكن متحمّسا للحركة تماما..." !
هذا الموقف الذي عبّر عنه الدّكتور محمد صالح بن عمر الذي كان في شبابه من أهمّ نقاد الحركة، قد صدر في كتاب حول "الطّليعة من خلال رموزها" في سنة 2005 وهو من إعداد محمّد المي ومن نشر دار سحر. وهو موقف له دلالته، ولم يصدر عن محمّد صالح بن عمر الشّاب في أواخر السّتّينيّات بل عن محمد صالح بن عمر الدّكتور الجامعي... وبعد أكثر من ثلاثة عقود على انتكاسة "الطّليعة" في 1972 وتفرّق كتّابها...
ولأنّه صرّح بأنّ مقدّمة الأستاذ توفيق بكّار تؤكّد عدم تحمّسه للطّليعة فإنّنا بالعودة الى هذه المقدّمة نجد أنّ صاحبها يقول للشّاعر ما يلي:
"... بين أن تنوي قول الشّعر... وتصنع الشّعر حقّا... مسافة هي الشّاعرية"!


مكان محمد مصمولي شاغرا بين سوف عبيد وجلول عزونة وحسين العوري على ركح "تغريدة وفاء"

ويستخلص الأستاذ بكّار قائلا عن الشّاعر الهمّامي:
"ليس شعره على قدر نواياه، فهو أخيرا أجرأ فكرا منه وعملا... إلاّ في المرحلة الثّانية من مجموعة «الحصار» الشّعرية" ...!
 ... يقينا، فنحن عندما نقرأ هذه المقدّمة نلاحظ أنّ توفيق بكّار يتعامل كأستاذ جامعيّ مع طالب من طلبته.... وإن كان الهمّامي، في تلك الفترة الزّمنية من طلبة بكّار فعلا... وواقعا، وليس افتراضا.
أمّا الهمّامي، في تعليقه على ما جاء في مقدّمة أستاذه توفيق بكّار، فإنّه بعد سنوات من ذلك التّاريخ، وتحديدا في سنة 1994، عند إصدار بحثه الجامعيّ عن كلّية الآداب ودار سحر، بعنوان: "حركة الطّليعة الأدبيّة في تونس، 1968-1972"، نجده يلمّح قائلا:
"إنّ الحركة واكبها وعقبها ضرب آخر من التّفاعل... آثر الوصف والتّحليل، وإذا لامس حكم القيمة... فبِأناة وحرص على الموضوعيّة"...!
... هل ستتوفر جرأة العمل بعد جرأة الفكر لدى الطّاهر الهمّامي في مجموعته الثّانية التي صدرت سنة 1973 بعد مجموعة «الحصار»؟ وأعني المجموعة التي اختار لها عنوان "الشمس طلعت كالخبزة" ...
مع الأسف أذكر للتّاريخ أنّ الأستاذ توفيق بكّار، في اللّقاء الذي جمعني به، عن طريق الصّدفة، علّق على تلك المجموعة بقوله: "الطّاهر حشّمني... !"
وحشّمني، بالدّارجة التّونسيّة تعني "أخجلني" أو أحرجني...
... وإنّ ما أحرج توفيق بكّار، في مجموعة الطّاهر الهمّامي الثّانية (الشّمس طلعت كالخبزة) هو ما اعتبره الشّاعر "مضامين ثوريّة".
وما سبب الحرج في هذا، ما دام الأستاذ توفيق بكّار "ماركسيا"، "يساريا"، أوّلا وبالذّات، باعترافه الشّخصيّ؟
لعلّ الإجابة هي أنّه منذ أن تخلّى عن السّياسة، لرفضه دغمائيّة اليسار (كما عبّر عن ذلك لحسن بن عثمان في الحوار الذي أجراه معه، وصدر في كتاب: (توفيق بكار في الموجود والمنشود) عن دار سيرس للنشر، قرّر أن يهب حياته للعمل الثّقافيّ والفكريّ الصّرف، ولإيمانه بأنّ ما يتوفّر للمثقّف الحقّ، هو الشّغف بالثّقافة وهو شغف، كما قال، .."يقارب الطّقوسيّة، وهي طقوسيّة الفكر والأدب".
هل لهذا السّبب كان نفور الأستاذ من مجموعة (الشّمس طلعت كالخبزة)؟ أم لأنّ حركة الطّليعة كانت متّهمة، في جملة التّهم التي ألصقت بها، هي تهمة اليسار، بأنّ من الواقفين وراءها توفيق بكّار، وصالح القرمادي؟
الرّأي عندي، بحكم استقالتي من الحركة بعد مساهمتي في تأسيسها، بسبب ما اعتبرته "استعاضة البعض عن الإبداع بالإيديولوجيا، وعن اللّغة العربية بما سمّاه الطّاهر الهمّامي بـ «الكتابة باللّغة التّونسية» هو أنّنا، في هذه الحركة، وكما قال ذلك الصّديق الكاتب عزّ الدّين المدني، كنّا يساريين دون تحزّب سياسيّ، ودون شعارات شعبويّة، ودون استبدال للعربيّة بالعاميّة في كتابتنا....
أمّا بخصوص مساندة الأستاذ توفيق بكّار من عدمها، فلم تكن واردة إلاّ لدى كتّاب الطّليعة الذين كانوا من طلبة الأستاذ توفيق بكّار، في حين أنّ هذا الأخير.. كان في نظر الجميع علامة مضيئة في الجامعة وفي السّاحة الثّقافيّة دون أن يكون له تأثير بصيغة السّلب أو الإيجاب على حركة الطّليعة بكل جبهات اختلافها..
وما قيل عن الأستاذ بكّار يمكن أن يقال عن الأستاذ صالح القرمادي، وقد كان هذا الأخير ينشر معنا في مجلّة «ثقافة» وفي جريدة «الهدف» التي كنت رئيس تحريرها في أواسط سنوات السّبعين، وشخصيّا كنت أعتبره أقرب إلى الطّليعة من الأستاذ توفيق بكّار، باعتباره ليس فقط باحثا بل مبدعا أيضا في القصّة والشّعر وحتّى في طرافة الحضور والغياب...

محمّد مصمولي


(*) تنويه : صدر هذا النّصّ في جريدة الصّحافة غداة عرضنا "تغريدة وفاء" أي صباح الأحد 18 جوان 2017 وأخذناه من نسختها الرّقمية المؤرخة في 19 جوان 2017

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

القصة والتراث

تكريم الهكواتي

أنا أيضا ... حوماني