رسالة نور الدين صمود إلى جمهور سهرة الوفاء لتوفيق بكار


حول مقدمة بكّار لديوان القرمادي

حين شرعت في إعداد عرضنا "تغريدة وفاء"، المهدى إلى روح الأستاذ توفيق بكّار، كنت أعلم من البداية أنّه من الصّعب على أستاذنا وعميدنا الشّاعر الدّكتور نور الدّين صمّود أن يحضر من قليبية في سهرة رمضانية تتطلّب الانطلاق إلى العاصمة بمجرّد القيام عن مائدة الإفطار، وقد تطول إلى وقت يرهقه بالتّاكيد. هذا عدا مدى استعداد من سيتكفّل بنقله لمثل هذه الرّحلة.

لذلك، والحق يقال، اكتفيت بإعلامه بمشروع سهرة الوفاء دون أن أعرض عليه مشاركتنا فيها. فلا بد إذًا، حتى أعطي الرّجل حقّه كاملا، من الإشارة إلى أنّني برمجت مشاركته في هذا العرض بناء على مبادرة كريمة منه.

ولم تكن استجابتنا لمبادرته هذه لمجرّد تقديري له ومكانته عندي، أو لملء فراغ. ولكنّها كانت مبنيّة على فكرة مسبقة لدينا تضع بكّار وصمّود على طرفي نقيض من حيث موقفهما ممّا سمّي بحركة التّجديد عموما في ذلك الوقت (نهاية السّتّينات وبداية السّبعينات)، وممّا أفرزته "حركة الطّليعة الأدبيّة" على وجه الخصوص.

فإذا كان بكّار المدافع المستميت عن صديقه صالح القرمادي صاحب ديوان "اللّحمة الحيّة" الذي كتب له المقدمة، فإنّ صمّود اشتهر بمقالته المعروفة "القرمادي يلوي عنكوش البلاغة". وإذا كان صوت صمّود من أبرز الأصوات التي تصدّت لظاهرة "الشّعر في غير العمودي والحرّ" (حتّى أنه، على ما علمنا، كان وراء هذه التّسمية التي اعتمدتها مجلّة "الفكر" لوضع مسافة بين هذا النّمط من التّعبير، وبين ما يعتبره شعرا)، فإنّ بكّار كان صديقا للطّاهر الهمّامي، وهو من قدّم مجموعته "الحصار".


فبرمجة صمّود، بعد أن أكّد لنا أنّه لا محالة مشارك، كانت سعيا منّا إلى إسماع صوت مختلف عن أصواتنا المنحازة في أغلبها إلى بكّار. وكم كنّا بذلك مسرورين.

ولكن، قبل أيّام من موعد عرضنا، تبيّن لنا أنّ الظّروف تحول، للأسف، دون التحاق شاعرنا الكبير نور الدّين صمّود بنا في تلك السّهرة. ونحن نلتمس له عذرا لأنّنا كنا نعرف مسبّقا أنّه، والتّعبير من عنده، "مستطيع بغيره". إذ هو لا يقود سيارته بنفسه. وقد فاجأنا من اعتاد تأمين تنقّلاته، بأنّه كان ملتزما في نفس توقيت سهرتنا، بالإشراف على سهرة في قليبية خصّصت لتقديم كتاب جديد للأستاذ حمّادي صمود.

وهنا يفاجئني عميدنا مرة أخرى بحرصه على احترام تعهداته، خلافا لغيره ممن ليس لهم عذر. فقد هاتفني الدّكتور نور الدّين صمّود، قبل ثلاثة أيام من موعد العرض، معتذرا من ناحية ومصرّا، من ناحية ثانية، على تقديم الإضافة لتظاهرتنا. ثمّ أرسل لي نصّا وألحّ عليّ كي أقرأه بنفسي. وكان يمكن أن أفعل لو لم تطل السّهرة أكثر من اللّزوم، لأسباب خارجة عن نطاقنا.

لذلك  أنشر اليوم على مدوّنة ورشة الهكواتي، نصّ الشّاعر الكبير نور الدّين صمّود، كما أرسله. وذلك أوّلا من باب التّحيّة لحركته النّبيلة، ثمّ تثمينا للإضافة النّوعيّة التي تضمّنها هذا النّصّ بتناوله الطّريف المبنيّ على قراءة دقيقة لتقديم توفيق بكّار ديوانَ القرمادي "اللّحمة الحيّة"، وربطه بين هذه المقدّمة، وبين شواهد من نصوص الدّيوان من ناحية ثانية، ثمّ بين ظروف وفاة القرمادي من ناحية ثالثة.

فإليكم نصّ هذه الرّسالة مع تحيّات وتقدير الهكواتي


مداخلة الدّكتور نور الدّين صمّود



أيتها العزيزات أيها الأعزاء السّلام عليكم (وصحة شريبتكم) وبعد،
فقد كان في عزمي أن أكون بينكم في هذه المناسبة التى نكرم فيها الرّاحل العزيز توفيق بكّار الذي كان نسيج وحده في تذوّق الأدب وتحليله ونقده ودراسته بالذّوق الدّقيق والإحساس الرّقيق.

ومن البدَهِيِّ أنّني أكره أنْ أكرّر ما قاله الّذين سبقوني أو أن أسبق الّذين سبقتهم في الحديث عن  الرّاحل توفيق بكّار، وأكره ما أكرهُ الحديثُ المُعاد. لذلك لن أتحدّث عن الرّاحل العزيز وعن كلّ ما يتعلّق بحياته أو مؤلّفاته أو أعماله في التّدريس الجامعي وإشرافه، في نطاق اختصاصه، على أطاريح الّذين صاروا من زملائه، فهم الّذين يستطيعون التّعمّق في الحديث عنه أحسن من سواهم  لأنّي أُومِنُ بأنّ (من عرف شيئا فهو حجّةٌ على من لم يعرف).

لقد ارتبط اسم  توفيق بكّار باسم صالح القرمادي ارتباطا وثيقا منذ بداية تعرّفنا عليهما. ومن أشهر ما ربط اسميهما لدى المثقّفين أنّ أوّلَهما كتب مقدّمة القسم العربيّ من ديوان "اللّحمة الحيّة" لثانيهما في الشهر الأول من سنة 1970 وجعل لها عنوانا طريفا هو: "شعر لم يغتسل بإبريق".

وكأنَّ بكّار قد خطّ لصاحب هذا الدّيوان الطّريق التي ساقته إلى السّقوط في تلك الهاوية التي أودت بحياته. فقد تكهّن بكّار بذلك في مقدمته. وهذا ما أيّده القرمادي في القطعة السّابقة للقطعة الأخيرة من "اللّحمة الحيّة"، قبل وقوعه في ذلك الجبّ العميق. فكأنه رأى وقوعه فيه قبل وقوعه، فافتحوا ديوانه واقرؤوا الأسطر الأربعة في أعلى الصفة رقم 40 والرّجاء أن تتأمّلوا في العنوان ثمّ في ما يليه:
غياب
...
دودةٌ حمراءُ يأكلها القلقْ
غمزة بتراء ينشبها الأرقْ
حفرة قعْـراء يملؤها دمي
وكان الهزْلُ مرًّا في الفـَمِ

هذه الحفرة القعراء التي تكهّن القرمادي بأنّ دمه سيملؤها، بعد ما كتب توفيق بكّار مقدّمة "اللّحمة الحيّة" باثنتيْ عشرة سنة. فكأنّ كاتبها أوحى إليه أن يسلك سبيله إليها، وكأنّه تكهّن له بالسّعي إلى ذلك المقرّ، وذلك في قوله عن شعره، وكأنّه يتحدث عن نهاية القرمادي، وأرجو أن تضعوا هذه الفقرة التي يتحدّث فيها بكّار عن شعر القرمادي في الإطار الذي لخّصه القرمادي في قوله:

"حفرة قعْراء يملأها دمي /وكان الهزْلُ مرًّا في الفـَمِ"

يقول بكّار عن القرمادي:

"ينزل بشعره من  سماء المثاليّات إلى أرض الواقعيّات ومن علياء الرّوحانيّات إلى حضيض المادّيّات".... "لا يحلّق بك، بل يأبى إلاّ أن يقطع عليك سبيل التّحليق، سبيل الهروب.  فيشدّك إلى الأرض بسلاسلَ من حديد أو يهبط بك إلى ما تحتها في جوف القبور، بين الحشرات، حتّى تتمرّغ معه في عفر الحياة مُرغم الأنف (بالمعنيين) ولعلّك فررت إليه من نفسك تطلب سكونا بعد اضطرابك ومَرْهما لجراحك، فإذا الشّاعر كمن يحمش نار جهنّم أو يضع الملح في الجراح."


لقد كان سقوط القرمادي في حفرة قـَعـْراء مَلأها دمه، فكان موته مهزلة مرّة، يؤكّدها تكهّن بكّار في قوله السّابق الذي أسقطناه على سقوطه في ذلك الدّهليز الذي زرته، وأدركت جيّدا أنّ ذلك كان أمرا محتّما لا منجاة منه.

وأرجو أن تتاح لي فرصة أخرىُ لتوضيح ذلك بالصّورة، والحديث عن لقائنا به (القرمادي) في المركز الثّقافي الدّولي بالحمّامات، قبل سقوطه في تلك الحفرة القعْراء بحوالي ثلاثة أيّام، وماذ قال عن التّحوير الذي صغنا به قوله المنثور "الخالي من دربكة الموازين وتصفيق القوافي"، على حد تعبير توفيق بكار:

"حبّ طريّ شهيّ
ككتف العلـُّوش على الكسكسي"

ورغم ذلك طرب للصّياغة الموزونة المقفّاة التي جعلناها على بحر المتقارب، فصار هكذا:

"أحبّكِ حبًّا طريّا شهيًّا*كلحم الخروف على الكسكسي"

وأختم كلمتي بالقولة المشهورة في مثل هذه المناسبة: أنتم السّابقون ونحن اللاّحقون رغم عدم حبّه للفوز بهذا النّوع من السّباق.  


د.نورالدّين صمّود

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

القصة والتراث

تكريم الهكواتي

أنا أيضا ... حوماني