عائشة الخضراوي تقدّم الهكواتي


وصلني (أخيرا) من الصّديقة الأديبة عائشة الخضراوي شبيل، نصّ المداخلة التي قدّمتها تمهيدا للجلسة الأدبية التي نظمتها جمعية مراجعات فرع سوسة يوم الأحد 8 جانفي 2017، احتفاءا بأعمال الهكواتي.
ويطيب لي أن أنشر نصها هذا هنا شاكرا لها الجهد الذي بذلته في كتابة هذا التقديم كما في رقمنة ما كتبت ليتسنى وضعه بين أيدي قرّاء هذه المدوّنة. 
هو نصّ يدغدغ نرجسيتي بما يروق لي بطبيعة الحال، ولكنّه وثيقة ربّما كان منها، ذات يوم، فائدة تتجاوز هذه الدّغدغة اللطيفة. فشكرا مجدّدا للسّيدة عائشة ولجمعية مراجعات فرع سوسة، وقراءة ممتعة.

مسيرة "طفل المائدتين"
تقديم الأديبة عائشة الخضراوي شبيل[1]



مدخل:
من هو الهكواتي سالم اللّبّان؟
أ‌-      الهكواتي أو طفل المائدتين هو سالم اللبّان. هو ذاك الّذي عشق الإنشاءَ في مطلَق مفهومه ومختلِف مجالاته منذ وعيه المبكّر بذاته، وفي ذلك رسم لنفسه نهجا للميز والتّميّز.
إنّه منشئ  لم يُـثـِنِه عن ممارسة عشقه حجر العثرات في مسيرته "الواعرة" كما يسمّيها هو، وهو الّذي ثبَتَ هواه قبلُ وبعدُ على ألاّ  يفوته مسلك من المسالك الّتي هويَها فلا يرتاده. وإنّه منشئُ شعرٍ على كيْفِهِ مذْ كان طفلا إذ تجاوز عقبة الحفظ لدرس الجغرافيا بأن نَظَمَه على تفعيلة "التَّكَادُفْ" وهو صدى وقع حوافر الخيل. وكلّفه ذلك المحاسبة المعروفة استجابة لتوصية الأب للمعلّم " حاسبني بجلده"[2] .....
عشقٌ ساكن في خلاياه جعل مَفْرَشَ "طفل المائدتين"  صهوةَ جوادٍ لا يستكين، فهو   في رحيل دائم لا يستقرّ على حال ويوغل في مسالك الإنشاء والفنّ جامعا حوله من توسّم فيه خيرا إغناءً لهما، فكانت مسيرة الإنشاء تنمو وتطّرد دون كلال ولا ملال وهي لا تزال -برعاية عين الله  الّتي لا تنام-   فانقسمت سنوات اهتمامه وفق خطّ زمنيّ قسّمه على النّحو التّالي:
-        سنتي في الهيك
-        فصولي الأربعة
-        سنتي على جناح السّرد
بل إنّ حركةَ الطّفل دائبةٌ لا تتوقّف وتُظهِرها قراءة أفقيّة في عناوين كتاباته منذ استغرق فيها في آواخر السّتّينات مثل (دفاتر الرّحيل) وأجزاؤها (شراع التّوق) و(مراسي اللّاوصول) و(طريد المسافات) وليس منها "إنشاءٌ" تيسّر لهُ أن يقع بين أيدينا، تفتح صفحاته  فلا يمسّك في العمق منذ فواتحه بلغته الأنيقة الجزلة وبإشاراته الأنيقة إلى تِيماته...
إنّ كلّ هذه العناوين تؤكّد أنّ سالم اللبّان مطارَد بهاجس السّفر في مسالك الإنشاء شعرا ونثرا و"هَيْكا" وأنّ نفسه مسكونة بالرّحيل في وعي لافت وليس لفشل في هذا المسلك أو في ذاك...
وقد سمّيتُه كما سمّى نفسه في مؤلّفه "طفل المائدتين"، أو ليس هو من أنشأ يقول في تصدير للكتاب بعنوان "تيتة، تيتة، تيتة" ؟

" في البداية... كان الطّفلُ
بعد البداية... هو ذا الطّفلُ
قبل النّهاية...
سيبقى الطّفلُ...
مدينا للطّفلِ
وفي النّهايةِ
يفنى الفاني منّي
 وتبقى آثار الطّفلِ
على أوراق الطّفلٍ"

هذا نصّ شعريّ بإيقاع الهكواتي سالم اللبّان،  (الطّفل ) الباقي على أوراقه حتّى بعد فناء الفاني منه. هو نصّ بوقع جماليّ مؤثّر على بساطته، وقوامُه ترديد مقصود وظّفه ليس فقط  لتأكيد بُعْدٍ ذاتيّ فيه وهو حضور الطّفل المنشئ في كلّ مراحل حياته، وإصرارُه على أن يكونه (سيبقى الطّفل مدينا للطّفل)، وظنُّه في خلوده به، وإنّما هو إلى ذلك كلّه يمثّل بعدا متأصّلا في الإنسانيّة وبطاقة تعريف مائزة وواسمةٍ للهكواتي الحامل لرغبة في الخلود بفعلٍ فنّيّ لا يبلى تجاوزا لقصور الجسد الفاني، وهي بلا مراء مسألة مطروحة في الفكر الوجوديّ تسكن وعي المبدِع الحقيقيّ وحتّى البسطاء من أصحاب السّؤال...
ففيم عمل ونشط؟
ب‌- حقول أنشطته:


كان سالم اللّبّان صحافيّا كما درّس في معهد الصحافة وعلوم الأخبار. مارس الرسم والموسيقى والتمثيل والإخراج ركحيا وتلفزيّا. وأنشأ "مسرح الفينيق" "ومجموعة الجسر الصغير للبحوث الموسيقية والمشهدية"، و"دار الجسر الصغير للنشر"، و"الجمعية التونسية للفنون الآداب والتثاقف المغاربي المتوسطي" (معابر).
أمّا الهكواتي فلقب أطلقه عليه أعضاء ورشة "الكتابة بحرّية" منذ طرح على نفسه تحدّي "سنة الهيك". وقد أنشأ (سنة 2000) موقع "الجسر الصغير" على الإنترنت  حيث نشر أول كتاب أدبي رقميّ تحتفي به السّاحة الثقافية التّونسية (سنة2003 ثلاثيته "دفاتر الرّحيل")، وأسّس منذ أواخر التّسعينات ما أصبح يعرف "بورشة الهكواتي للكتابة الأدبية" التي استقبلت عددا من المتكونين والمتفاعلين من جنسيات تونسية وأجنبية.
وللهكواتي أيضا دواوين من "قصائد ونيف"، "غدا... موعد الياسمين" و"أجراس القارعة" و"طفل المائدتين" ومجموعة روائية "دستور الباذنجان وروايات أخرى". كما له في الطّريق إلى المطبعة تجربة فريدة من نوعها تتمثّل في ديوان مشترك قائم على حوار شعريّ بينه وبين الشاعر العميد نور الدّين صمّود، سيصدر قريبا تحت عنوان "الدّيوان الفريد من أشعار العميد والمريد بين هيك وقصيد" .
كيف عرفتُ الهكواتي سالم اللبّان؟
ت‌-  حكاية بسيطة ولكنّها طريفة ومهمّة في إضاءة جوانب من شخصيّة الهكواتي:
أورِدُ هنا ملخّصا لمراحل اكتشافي لشخصيّته، لأنّي من أولئك الّذين يتطلّعون إلى معرفة النّاس حولي ولو من بعيد حتّى إن لم يكونوا يعرفونني وذلك من خلال قراءة ما أشاهده عنهم وأقرؤه لهم أو عنهم، ولي علاقة خيال جميلة بكثير من المبدعين من خلال ما كتبوا وما قدّموا في أصناف الفنون... وإنّ بي بعض شبه  بالسّيّدة سيمون دي بوفوار تلك الّتي لها تلك " اللّوثة " الرّائعة[3] ...
قد عرفت الأستاذ سالم اللبّان أولى المرّات بالمكتبة المعلوماتيّة بأريانة في مناسبتين كان دعاني إليهما رفقة أصدقائي من "صالون الزّوراء الأدبيّ" ومن "نادي أبي القاسم الشّابّي" الّذي كان يديره الشّاعر المتميّز سوف عبيد، فكنت على موعد مع عرض مشهد حيّ باهر لمُنشِئ مختلف ومتعدّد الإبداع مسرحا وموسيقى  وغناء.. ولأوّل مرّة أحضر أديبا -بعيدا عن التّهافت الممجوج- يقدّم عملا فنّيّا متكاملا فيصنع الفرجةَ ويؤثّر ويكسب تفاعل الحاضرين بعفويّة لافتة وهو يتعامل مع أبنائه من مجموعة "الجسر الصّغير" تعاملا يبدي حرصا على حسن الأداء ومحبّة واعترافا بموهبتهم...
ولقيته في نادي الطّاهر الحدّاد وقد حضرنا في تقديم الأديب عبد المجيد يوسف فرأيتُه المصغيَ المصيخَ النّاقدَ الجدّيَّ الدّقيقَ لما سمع... لمّا انتهى اللّقاء وعند التقاط الصّور التّوثيقيّة  سأل الحاضرين " من منكم طلبة الأستاذ الجليل توفيق بكاّر[4]؟ وقال إنّ "مجلّة معابر" ستخصّص عددها الأوّلَ[5] للأستاذ وفاء وعرفانا، وأنّ من يرغب في المساهمة في هذا العدد الأوّل يتفضّل بتقديم مقاله وليحدّث عن ذكرياته وطرائف الدّراسة مع الأستاذ بكّار... فما خلتُ أنّي معنيّة بالأمر إذ حسبته يوجّه الحديث إلى مجموعة "النّوارس"[6]  الّتي أسّسها وكان يديرها... والطّريف في الأمر أنّ بعض أصدقائي ورفاق الدّراسة سألوني عمّا أذكر من طرائف الأستاذ بكار  القليلة جدّا فذكّرتهم ببعضها وهي إلى الجدّ أقرب فما كان أستاذنا – رحمه الله - من أهل الهزل والطّرائف...
بعد أيّام فاجأني "طفل المائدتين" برسالة فايسبوكيّة قصيرة يسألني فيها عن المقال وفي غمرة الدّهشة والحيرة وقع إصبعي على صورة  ملصق القبضة والإبهام المرفوع... وكانت الموافقة الّتي لا رجوع عنها... فذكّرني بالأجل المحدّد الّذي لم يبق لفواته غير ستّ ليال... وكان المقال بعد عراكي مع ذاكرتي عنده قبل انتهاء الأجل المحدّد بساعات وفق اتفاقنا... فالانضباط والحزم والإخلاص لمشاريعه أضواء أخرى في صفحات الهكواتي سالم اللبّان. أقول هذا وهو حقيقة شهدتها وأنا مدركة لتعفّفه عن الإطراء...
ثمّ توالت بعدها لقاءاتي به في مناسبات عديدة بصالون الزوراء ضيفا وفي الملتقى الوطني للقصّة القصيرة، وهنا يتبدّى الأستاذ المحاضر الّذي لا يمكن أن تأخذك سِنة وأنت تستمع إلى قوله المتين المنهجيّ الثّريّ بلا حواشٍ تُكْرهُك على البقاء على الإنصات له ودون كدّ ولا إجهاد  يشتّت منك الإبصار والبصيرة لما تتّسم به مداخلاته من الوضوح والدّقّة والملاءمة بينها وموضوع التّدارس ... فما هي  ملامح الإنشاء  الغالبة في كتب الهكواتي؟


ث - سمت الكتابة عند الهكواتي (اللّبّان)
·      هو مسكون بالسّؤال  وبهاجس التّجريب منذ طفولته المبكّرة أوليس هو ذاك الطّفل الّذي لم ترضه الطّرق المسطورة لحفظ درس الجغرافيا في سنوات الدّراسة الأولى وأوجد طريقة تسهّل عليه الحفظ  والنّجاة من العقاب  فنظم الدّرس على إيقاع تفعيلة " التّكادُفْ"[7] وإن لم ينج من العقاب؟
·      سمّى الشّعر غناءً وسمّى الأدب إنشاءً وآمن بذلك إيمانا وكلّ ما كتب مطبوع بإيقاع هاتين التّسمِيَتيْن فالشّعر للغناء موقّع، والرّواية بإيقاع مختلف وطول لا يتجاوز السّتين صفحة كاملة مكتملة ولا تشكو نقصا يغبن حقّها مثل "دستور الباذنجان" الصّادر في نهاية سنة 2016...
·      هو مأخوذ بمشاريع إبداعيّة مختلفة يحاول أن يرعاها ويحقّقها في همّة لافتة وحزمٍ لا يني، ويكابد في ذلك ضنى الابتكار وتعبه بسعة صدر إذ يعتبر أنّ مسلك الإنشاء "وعر" ومن سلكه فلا تعنيه الحدود الصّارمة المرسومة للأجناس من النّقاد ويتّضح ذلك في كلّ مشاريعه ومن أواخرها مشروع الكتاب الّذي بينه وبين عميد الشّعر التّونسي التّقليدي نور الدّين صمّود في لقاء فريد بينهما ومحاورة بين القصيد والقصيد...
·      مبدع بالعربيّة الفصيحة  وبالعامّية "الرّفيعة" (ويسميها التّونسيّة الفصيحة) ويجمع بين الشّعر والنّثر في نفس التّأليف كما في "طفل المائدتين"... ولأنّ له ثباتا على المبدإ والحلم الإبداعيّ فإنشاؤه القديم قد يلتقي في ائتلاف بإنشائه الحديث و"دستور الباذنجان" و"طفل المائدتين" شاهدان...
·      في حكاياه ورواياته وأشعاره أساليب قديمة وحديثة تجتمع لتربط بين الماضي والحاضر كأنّها صادحة بأنّ الهويّة باقية وإن تجدّدت الحياة والمواضيع ثابتة وإن تغيّرت صبغتها دون أن يميل بك إلى تعقيد الرّمز أو الاستعارة إذا جدّ ودون أن يغرق في التّكلّف أو الانبساط إذا هزل أو سخر... فقد  هلّ علينا سالم اللبّان بعد ثورة الرّابع عشر من جانفي 2011 بـ"دستور الباذنجان"، روايةٍ قصيرةٍ يجاري فيها طريقة الحكّائين في المجالس الأدبيّة القديمة بادئا كما يبدؤون ومستأنفا كما يستأنفون، مستخدما أسماء تشبه أسماء أبطال في الحكايا الشّعبيّة التّراثيّة وأخرى جديدة وذلك ليحاكي قصّة "طبائع الاستبداد" القديمة – الحديثة. وفي "طفل المائدتين" الغناء بمفهوم سالم اللبّان يأتينا في مستويي اللغة القديم والحديث مؤكّدا الفكرة الّتي سبق أن ذكرتها وأكّدتها.
·      في أدبه وفاء للأصدقاء والأهل الأحبّة. هي خصلة لافتة تحدّثُ بها مؤلّفاته كذلك الإهداء الذي يذكر فيه فاطمة أخته الّتي اختارت الرّحيل قبل أن تستغرق عمقا في الحياة في نبرة حزينة ولكنّها تنضح جمالا، كما يذكر بعض الأصدقاء من أهل الأدب كمنوّر صمادح ومحمّد مصمولي وحبيب الزّنّاد وسوف عبيد...
·      وفي كلّ مؤلّفاته نرجسيّة محبّبة في غير غلوّ، فسالم اللبّان له روح الشّاعر الشفّافة  والعقل الواضح، إذ له سلطة القائد على ما ينشئ، فليس القلم صهوة جواد جافل يسير به حيث لا يعرف نقطة التّوقّف... يتحدّث عن ذاته وتجاربه الواقعيّة منذ الصّغر وقد جعلها نصوصا سرديّة أو شعريّة يتقبّلها المتلقّي بأريحيّة واستمتاع... فما الأديب إن لم يطبع بـِ"جينته"  الفريدة أدبَه (إنشاءَه وغناءَه) وما الإبداع إن لم يكن كذلك؟

الخلاصة:
إنّ سالم اللبّان "منشئا ومغنّيا"، فرد متعدّد ممتلئ بتجربته الشّخصيّة وبمعارفه الثّريّة، وقد مكّنه ذلك من ارتياد طرق غير مرتادة بوعي وعمق مثل تجربته في "الهيك" فحقّ لقرّائه الاعتراف بمشروعه ورؤيته ورؤياه وإنّه لجدير بما كتب حوله وبما سيكتب...
عائشة الخضراوي





[1]  تقديم تفاعليّ بعد قراءة ما تيسّر من إنشاء الهكواتي (بوصلة سيدي النّا-دستور الباذنجان-  أجراس القارعة - طفل المائدتين ونصوص أخرى كثيرة). الإطار: استضافة الهكواتي سالم اللّبّان في جمعيّة مراجعات فرع سوسة سابقا
[2]  طفل المائدتين

[3] سيمون دي بوفوار Simone de Beauvoir: : مفكّرة فيلسوفة وجوديّة وأديبة فرنسيّة (1908/1986) تركت علامتها الفارقة بحياتها اللّافتة ومؤلّفاتها ودورها في الحركة النّسويّة...

[4]  توفيق بكار: أستاذ جامعيّ ترك بصمته في كلّ من درّسهم وعرف باهتمامه الكبير بالأدب التّونسي شرحا وتحليلا ودراسة ونشرا في "عيون المعاصرة"
[5]  توفّي سنة 2017
[6]  ورشة الهكواتي، دورة "نوارس الرّوايات العشر"، فيفري 2014 – فيفري 2015
[7] نصّ تمهيديّ لكتاب "طفل المائدتين" بعنوان "قبل الغناء"

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

القصة والتراث

تكريم الهكواتي

أنا أيضا ... حوماني