الشّطي من جديد، في ورشة الهكواتي


المقامة الباريسية


يسرّ ورشة الهكواتي أن تستقبل من جديد، صديقي وزميلي في الدّراسة والمهنة الصّحفية، الأديب كمال الشّطّي. فها هو يعود إلينا بعد تلك الرّسالة المفتوحة محمّلا هذه المرّة بمقامة كاملة الأركان، من وحي جلسته في مقهى الجسر الصّغير الباريسية الكائنة على ضفاف نهر السّان في قلب الحيّ اللاتيني.
وحيث أنّ هذه المقامة ولدت من رحم تلك الرّسالة المفتوحة، فإنّها تجد مكانها في مدوّنة الورشة عن جدارة واستحقاق، ولي الشّرف أن يكون أول نشر للمقامة الباريسية على صفحات مدوّنة هذه الورشة.
فالشّكر كلّ الشّكر للصّديق كمال الشّطّي. وقراءة ممتعة للجميع.  
مع مودّتي الخالصة، الهكواتي


المقامة الباريسية

بقلم كمال الشّطي

تمهيد : المقامة الباريسية هي آخر مقامة كتبتها من وحي طلب تقدم به اليّ صديقي العزيز الاديب الهكواتي سالم اللبان الذي رجاني قبيل رحلتي الاخيرة الى باريس ان اجلس في مقهى الجسر الصغير المقهى الذي ألهمه أدبا وفكرا منذ فترة دراسته في عاصمة الانوار...واديت الامانة وجلست عملا بوصيته في هذا المقهى الملهم في الحي اللاتيني فما راعني الا وعدوى الالهام تتملكني وتدعوني الى كتابة مقامة مستوحاة من هذه الجلسة الرائقة ..تحية مجددة الى صديقي الهكواتي

حدّثنا أحدهم، وهو أصدقهم، قال: مللت البحر والسباحة، وارتياد المقاهي والحرمان من التجوال و السياحة، واشتاقت نفسي إلى السفر والرحيل، بعيدا عن وطني العليل، لعلّني أجد جوابا يشفي الغليل، عمّا يسوده من ضجيج وعويل.... فشددت الرحال، إلى باريس عاصمة الأنوار والآمال،  أنشد  العزلة و التأمل والتفكير، وتدارس علل انتشار الإرهاب والتكفير، بين أحفاد ابن رشد وابن خلدون، وابن حزم  وابن زيدون.

قال محدّثي: محدّثي خامرتني وصية صديقي الأديب بارتياد مقهي طالما ألهمه قصائد هكواتية فائحه، بمأساة العرب بائحه، فجلست في مقهى الجسر الصغير، في الحي اللاتيني الذي يضم مجامع الفكر المستنير، كجامعة السوربون، ومدافن أعلام البانتيون، ومعهد باستور  وكل معهد ومخبر كبير، هنا، أحملق في معلم كنيسة نوتردام  منبهرا بالأعمدة الرخامية، والأجراس  القوطية،  والتماثيل  الناطقة، والأبراج الباسقة، إلى أن رحلت بي إغفاءة نوم، إلى تاريخ هؤلاء القوم، الذين أتقنوا السباحة والعوم، في  كل الفنون دون هوادة أو صوم.

رأيت في المنام أحدب نوتردام يتدحرج فوق سقف الكنيسة، رفقة محبوبته النفيسة، فطفقت أدعو فكتور هيغو كاتب الرّواية، راجيا منه شرح ما تضمنت من عبر ووصايا....  فأعرض عني قائلا: هل يا أيها العربي أجد لديك الفكر الرشيد، حتى استطيع الإيفاء بما تريد، وقد علمت أنكم أضعتم القيم، وبعتم الذّمم، ودجّنتم القلم، واستبحتم العلم، رمز الوطن وفخر الأمم؟
    
قلت: أيها الأديب ذو الرّأي السّديد، إنّك تعلم حق العلم ثراء تاريخنا البعيد، وحكاية السّاعة التي أهداها للملك شارلمان هارون الرشيد، فظنها سحرا ساكنها شيطان، وفتتها إربا بإشارة من الرّهبان.
    
قال فكتور هيغو: ذلك رجع بعيد، فأتوا إن قدرتم بالجديد، أم أنّكم استسلمتم لخرافة رهبان هذا العصر، فصوبتم فؤوسكم نحو العراق واليمن وسورية وكل مصر، فحاق بكم الإفلاس والخسر، عندما وقع عليكم الشيخ  ترومب وقوع النّسر.
    
 قال الرّاوي: أفحمني فكتور هيغو بهذا الكلام، فلم أجد بدا من الاستسلام، وعدت إلى إغفاءتي لعلي أجد  من يواسيني في عالم النّيام، إلى أن أفقت من جديد، على وقع أقدام من حديد.....

لقد عاد إليّ السّيد هيغو مصطحبا معه جان فلجان بطل رواية البؤساء، الذي رمقني شزرا بنظرة كادت ترديني في الفناء. قال جان فالجان وقد تطاير من عينيه الشرر: سرقت خبزة واحدة فلقيت  الأدهى والأمر، وأنتم تزكّون من يسرق خبز الشّعب وترحّبون به كلما جاء أو مر، الويل لكم ثمّ الويل من حكم التّاريخ  إن كتب أفعالكم  في سجلّ العبر .
  
قال الراوي: بقيت مشدوها مندهشا لا أعي قولا ولا فعلا، أنظر إلى فكتور هيغو ووليده جان فالجان من طرف خفي  وقد ألمّ بي الوجع، وتملّكني  الفزع، وانتشر من حولي الضباب، وأمطر جبيني عرقا غزيرا دون سحاب.
   
التفت يمنينا وشمالا أريد الهرب، والتخلص من هذا النصب، غير أنّه تناهت إلى سمعي التائه جلبة، كانت متأتية من حلبة، ضمت زمرة من الرجال، بادروني بالسؤال، عمّا ينتظر وطني من مآل..... لم يسعفني الجواب، وتصاعدت من حلقي زفرات كنعيق الغراب... ثم طفقت أحفر في الذّاكرة، عن إشارات تعرّفني بهذه الزّمرة الماكرة.... فهذا الذي يتقدّمهم فولتار، والآخرون روسّو وديكارت ومنتسكيو.. لقد رفعوا عقيرتهم مترنّمين بمعاني الحرّية، قائلين إنّها ليست مطلبيّة، ولا انتهازيّة، ولا فوضويّة، بل وطنيّة، ومسؤوليّة.
    
تملّكتني الهواجس والوساوس، وقد علمت أنّ بعض هؤلاء جاءني من مدفن  البانتيان حيث يقبرون، فانتهزت غفلة من الجميع وغادرت مقهى الجسر الصغير،  خائفا مترقّبا مرتميا في أحضان  نهر السّان المثير، أحمل رسالة تحت الماء، إلى ساسة في وطني خانوا الخبز والماء، منتشرين فيما ينيف عن مائتين من الأحزاب، غلّقوا دون شعبهم  كلّ الأبواب، وجانبوا الحقّ والصّواب، وسجد بعضهم للأجنبيّ أو لأحمق عربيّ سجود الدّواب، متناسين وعيد رب الأرباب.
كمال الشّطّي


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

القصة والتراث

تكريم الهكواتي

أنا أيضا ... حوماني