بوصلة سيدي النّا... - يا قمرة الليل...

سنتي على جناح السّرد 32 من 53 // بوصلة سيدي النّا... 2 من 23– 10 أكتوبر 2008


المسلك الأوّل :

قطبيّ نجمي


الوجهة الثانية :


يا قمرة الليل...


"علاقة هذا بالواقع محض خيال"- الهكواتي


هذه مقتطفات من وثيقة مستخرجة من ملفّ المتّهم محمّد الأمجد بن الحبيب بن البحري بريقشة. الوثيقة الأصلية تدوين لتسجيل اللقاء الأوّل الذي جمع المتهم بأخته رشيدة بريقشة حرم التوهامي، الحاصلة "لأسباب إنسانيّة" على ترخيص مؤقّت بالزّيارة رقم .......، بناء على طلب محاميتها الأستاذة شين باء ميم. سجلت المقابلة صوتيّا في قاعة الانتظار بجناح الإيقاف المؤقّت ب....... بتاريخ ...... "أفرغها" على الحاسوب ومنه على الورق : راء باء تاء. اختار المقتطفات : هاء سين لام (هسل).
..................................................................................................................
............................................

- إلى متى سأبقى أخاطبك، وأنت صامت هكذا ؟
- .....
- هل تريدني أن أنصرف ؟
- لا... انتظري، أرجوك ... صوتك يعجبني ...
- آه يعيّشك... أضحكتني أخيرا. أنت طبعا تمزح.
- صوتكِ دافئ. يعيدني إلى زمن بسيط أحنّ إليه، ولكن أيّ زمن؟ يحلّق بي في مكان بسيط أتعلّق به، ولكن أيّ مكان ؟ يصوّر لي أناسا بسطاء كما أحبّهم. ولكن أيّهم ؟ لماذا لا أرى من كلّ هذا غير الضّباب ؟ ولماذا أشعر بالحنين شعورا واضحا ولا تعود لي الذّكرى بمثل هذا الوضوح ؟
- يا الأمجد يا أخي ارحم دموعي. لا تزد من هلعي. أنا أختك، أختك يا مجدة، هل تفهم ؟
- طبعا أفهم... "إنّما المؤمنون إخوة"، ولكن فيكم من يريد بي شرّا.

- أرجوك يا مجدة، لا تعد عليّ مثل هذا الكلام. اسمعني، أَشِرْ إليّ بأيّ علامة تطمئنني إن كنت، لغرض في نفسك، تتصنّع الجنون.
- ......(هنا دخل المتهم في نوبة صراخ هستيري. واضح أن مثل هذا يعتريه كلّما اشتدّ عليه الضّغط-هسل) لا...رجاء لا. لست مجنونا ولست أتصنّع الجنون. لا... رجاء ... قلت هذا ألف مرّة لزملائك. إن هي إلاّ فترات تذهب فيها الذّاكرة تماما ثم لا بدّ أن تعود. ستعود ذاكرتي، قلت لكم. لماذا تصرّون على استجوابي في فترات أزمتي ؟ أرجوكم. ارحموني. لست مجرما. انتظروا أن تعود لي ذاكرتي، وسأجيبكم عن كلّ أسئلتكم...
...................................................................................................................
..............................................

- القاعة باردة.
- باردة. المحبس كلّه بارد، في الليل خاصّة، وفي النّهار أيضا.
- انتهى الصّيف.
- كلّ الفصول من هنا سواء. ولكن نعم... نعم، قد يكون الصّيف انتهى فعلا.
- منذ متى وأنت هنا ؟ حاول أن تتذكّر.
- مدّة بطول الدّهر. تذكّرت الآن. ليلتها كان القمر في ليلة تمّه. وكنت ممدّدا في الزّورق المطّاطي وقد أطفأتُ محرّكه. كنت فرحا بنجاتي، أغنّي لأمواج الليل الرقيقة الدّاكنة "ياقمرة الليل، إضوي عليّ ". قادهم إليّ غنائي وإلاّ لما كانوا يصلون إليّ. هبطوا عليّ وقادوني إلى من مركز حرس الحدود وبعدها مباشرة إلى هنا.
- ركّز معي وتذكّر جيّدا يا الأمجد. لقد كنت تحاول أن "تحرق" إذًا، أليس كذلك ؟
- ......(هنا يدخل المتهم من جديد في نوبة صراخ هستيري-هسل) هل أنت معي أم ضدّي ؟ هل أنت أخت جئت لزيارة أخ، أم ضابطة شرطة جئت للتّحقيق معي ؟ أنت قطعا معهم. متى تفهمون أنّني وجدت القارب المطّاطيّ على الشّاطئ بمحض الصّدفة ؟ وأنّني استعملته للهرب من مجرمين كانوا يريدون ....(كلام غير مفهوم-هسل)... ؟
- ماذا قلت ؟
- ... لم أقل شيئا. ألم تقولي إنّك أختي ؟ إذًا فأنا لم أقل شيئا.
- ما لك تصرخ فيّ هكذا إذا ؟ نعم أنا أختك. صدّقني حتى وإن لم تتذكّرني. أنا رشيدة بريقشة يا الأمجد. سألتك لأعرف ما جرى لك، لا لأحقّق معك.
- لم أعرفك. صدّقيني أنت. في هذه اللحظة، مازالت أزمتي متواصلة، فأنا مازلت لا أذكر لي أختا بالمرّة. أمّا أن يكون اسمها رشيدة، فهذا ما يضاعف شكّي.
- سأنصرف إذا.
- بالعكس. لو كنت أختي فعلا لانتظرت حتى تعود لي الذّاكرة ...
.................................................................................................................
....................................................

- اعذريني يا رشيدة، سامحيني يا أخيّتي. يحقّ لكم جميعا أن لا تصدّقوني. ولكنّني مريض يا رشيدة، مريض، لا متصنّع مرض. أنا نفسي، حين أعود إلى حالي الطّبيعية لا أكاد أصدّق ما يجري عليّ. ما كانت هذه سوى أزمة صغيرة عابرة. ولكن الأدهى أنّني، حتّى بعد خروجي من مثل هذه الأزمات، أبقى عاجزا عن تذكّر فترة كاملة من حياتي، تمتدّ على أكثر من ثلاثة أشهر، لا تعود لي منها ولا صورة واحدة، كأنّني لم أعشها أبدا.
.......(يلازم المتّهم فترة طويلة من الصمت، وأخته لا تقاطعه-هسل).....لا أحد يصدّقني هنا. كلّهم يظنّون أنّني أدّعي فقدان الذّاكرة لأهرب من تحمّل المسؤولية. ولو كان ادّعاؤهم صحيحا، فإنّني ربّما أكون مورّطا أيضا في محاولة قتل عجوز وحرق محصولها من الحبوب، وكذلك في عمليّات تهريب عبر الحدود وعدّة قضايا أخرى. لقد قلت لهم "ربّما". فأنا فعلا لا أتذكّر شيئا. ولو كنت أريد التّملّص من المسؤولية لأنكرت تماما. ولكنّني قلت لهم "ربّما". مازالوا يحقّقون في مختلف القضايا. ولكن، هل تصدّقين أنّني قادر على ارتكاب مثل هذا الصّنيع؟
- بودّي أن لا أصدّق شيئا ممّا يدّعون عليك. فأخي الأمجد الذي أعرف، يستحيل عليه أن يفكّر في مثل هذا مجرّد التّفكير. ولكنّك لم تعد أخي الذي أعرف. فلم أعد أدري ماذا أصدّق وماذا أكذّب. ليلة سفرك، كانت لك شخصية مختلفة تماما عن هذه، شخصيّة ثابتة رصينة. وكنت واثقا من نفسك رغم كلّ المشاكل المتهاطلة عليك. واليوم أجد أمامي شخصيّة متوتّرة حينا، لينة حينا آخر، ومنهارة تماما بعد دقائق. فالشّخص الذي أجده هنا لا يمكنه أن يستقرّ على حال واحدة لمدة خمس دقائق متواصلة. ثمّ إنّني لم أكن أبدا أتخيّل أنّك ستكذب عليّ. لقد وعدتني ليلة رحيلك بأنّك عائد في ظرف أسبوعين فقط. هل تتذكّر الآن ؟ ولولا وعدك ما أعطيتك مالا للسّفر ولا طمْأَنْتُ أمّي ولا منعتها من إبلاغ الشّرطة عن هروبك. هل تعرف كم مضى عليك، منذ بارحت باب تونس ؟
- لا أعرف بالضّبط. كلّ ما أعرفه أنّني كنت فعلا لا أنوي الغياب أكثر من أسبوعين. كنت ذاهبا لأعيد بوصلة سيدي النّا... إلى مالكها الأصلي أو وريثها الشّرعي. وكان شيء ما يؤكّد لي أنّني سأعثر عليه دون عناء، فأنفّذ المهمّة وأرجع سريعا. ولكنّ ظروفا خارجة عن إرادتي كانت تسيّر رحلتي في كلّ مرّة إلى حيث لم أكن قد قصدت أبدا. كنت أحسّ أحيانا بأنّ بوصلة سيدي النّا... هي التي كانت تدفعني هكذا في اتجاهات لم أفكّر فيها من قبل. كنت أحتفظ بها مشدودة بثبات إلى حزامي، وأسير واثقا من أنّني أمشي في الطّريق الصّحيح. هل ارتكبت خطأ عندما لم أستمع إلى تحذير صوّانة وهي تسعى إلى منعي من الجري وراء السّراب؟ ولكنّ ما عشته عندها، مازال يبدو لي على شبه بالحقيقة لا أصدّق معه أنه ما كان إلاّ سرابا.
- من يدريني أنّ تلك الظّروف التي كانت تسيّر رحلتك إلى حيث لم تكن تشتهي، لم تدفعك إلى فعل ما لم تقصد، تماما كما دفعتك إلى الجري وراء السّراب ؟
- هل كان حقّا سرابا ؟ وهل كان شعور صوّانة بالإهانة يومها، وهجرها لي من يومها، سببا في تخلّي ذاكرتي عنّي، هي الأخرى ؟
- صوّانة؟ ها أنت تعود ...
..................................................................................................................
.............


- بل أنت ضدّي معهم........ (فجأة يعود إلى صياحه الهستيري-هسل) .... كلّكم سواء...
- أن تكون أخي الأكبر، فهذا لا يبيح لك مخاطبتي بهذه اللهجة.
-وأن تكوني أختي فهذا لا يبيح لك التّدخّل في شؤوني. من حقّي أن أحبّ من أريد، وحتّى أن أغيّر جلدي إن أردت. أنا لعيشوشة وعيشوشة لي. ولو رأتني أُعْدَمُ أمام عينيها، أو دفنتني بيديها، فهي لن تُحِلّ محلّي في حياتها أحدا. وحتّى لو سهر في بيت العجل كلّ ليلة ألف من عامر "البينتو"، ولو دفع هذا لامتلاكها ألف "بالانصي"، فإنّ عيشوشة لن تكون له أبدا. عيشوشة شأني الخاصّ ولا أسمح لك، بل ولا حتّى لخدّوجة، بمجرّد الحديث عنها.
- سألتك فقط لأفهم إن...
- هل طرحت عليك، أنا، أدنى سؤال ؟ هل سعيت إلى أن أفهم أي شيء ؟ هل سألتك مثلا لماذا تغيّرت أنت الأخرى؟ كدت لا أتعرّف عليك حتى بعد انتهاء الأزمة. انظري إلى وجهك المطليّ بالمساحيق. هل سألتك لماذا تتجمّلين ؟ أما كنت تعيبين على عيشوشة أنّها تفعل، وتدّعين أن ذلك من حقّ النّساء المتزوّجات دون سواهنّ؟ انظري إلى شعرك المصبوغ أشقر وأنت السّمراء. هل قلت لك إنّه ينمّ عن سوء ذوق صارخ؟ هل عيّرتك ببطنك المنتفخ وقد كنت حريصة على الحمية ؟ هل تدخّلت في أيّ من شؤونك؟
- لم تكن تسمعني، أليس كذلك؟
- اسمعيني أنت. إذا كان الهدف من زيارتك تشويه سمعة عيشوشة لإبعادي عنها، فقد انتهت الزّيارة يا آنستي. هل فهمت ؟
- آنستي ؟ تقول آنستي ؟ ماذا حلّ بك يا مجدة ؟ قلت لك إنّني لم أدع زوجي يدخل معي حتّى لا يكون أوّل لقاء بينكما في السّجن. ألم تفهم ؟ لقد تزوّجت يا الأمجد. وأنا الآن حامل، فهل تفهم؟ لماذا لا تسمع إلاّ ما تريد أن تسمعه؟ هل هذا أيضا من فعل فقدان الذّاكرة؟ تزوّجت يا مجدة. وزوجي يعمل سائقا، يسهر على تزويد الدّكّان الذي أشتغل به... ما لك صامت ؟ قل أيّ شيء.
- مبارك عليك.
- ما لك تقولها هكذا، كمن خاب أمله؟ أطردتُ الخطّاب حين كان عندي وقت للانتظار. كنت أنت معنا. كنت رجلنا وسندنا. وكنّا معك نغذّي الأمل في حصولك على شغل تصرف منه علينا وتساعدني على تمويل جهازي، فأُزَفّ عندها بمشورتك، إلى عريس على ذوقك. كنتُ أمتنع من الزّواج، هربا من موقف أجدني فيه ملومة على صرف أموالي على عائلتي الأمّ، وعندي أخ أكبر منّي على قيد الحياة. أمّا وقد أصبحتُ فاقدة السّند،،، أفلا يحقّ لي أن أتحصّن برجل؟ أمّا وقد انقطعت عنّا أخبارك لأكثر من سنة، ويئست الشرطة من العثور عليك،،، أفلا يحقّ لي أن أمسك مصيري بيديّ؟ أمّا وقد اعتُبرتَ مفقودا، أي في حكم الميّت، بعد غرق زورق الحارقين في عرض بحر الشّابّة،،، فهل تريدني أن أدخل في طاعة عامر "البينتو"، وأنت عالم بغايته؟ أم هل تريد لدار بريقشة أن تبقى بلا رجل؟ هل تريد فيها فتاة عانسا إلى الأبد، تعتني بعجوز مشلولة إلى الأبد ؟ ألهذا تتجاهل ما أحدّثك به عن زواجي؟ ألهذا تصرخ فيّ سعيا إلى ترهيبي؟
- مشلولة ؟
- أوه...
- أتقصدين أنّ خدّوجة هي التي ... ؟


- آسفة... ما كنت أريد إخبارك. تكفيك آلام سجنك وما ينتظرك من غامض المصير. صراخك أجبرني على البوح. ولكن أيّ عجوز يمكن أن تسكن في دار بريقشة، عدا خدّوجة؟ إنّما هي أمّك التي أقصد. شلّت "دي جي" يا مجدة. شلل نصفيّ وكرسيّ متحرّك وعجز كبير عن النّطق.
- بسبب رحيلي ؟
- بل بسبب الفعلة المشؤومة التي أقدمتَ عليها قبل سفرك. فبعد أربعة أشهر شاع الخبر في المدينة بأنّك قد حَرَقتَ فهلكت في البحر. وجاءت راضية بنت كحلة إلى باب تونس فأعلمت أمّك. لقد قالت لها كلّ شيء دفعة واحدة. فكان ذلك فوق طاقة تحمّلها.
- ولكن ما الذي قالته راضية بنت كحلة ؟
- أنت الذي تعرف. إلاّ إذا لم تكن متأكّدا من وفاء عيشوشة. ولكن المهمّ الآن ليس قولها. المأساة الآن هي أنّ خدّوجة صدمت فشلّت، وأنّ ناجي العجل رفع قضيّة في اثبات النّسب ضدّ هالك عاشر ابنته معاشرة الأزواج، وأنّ عيشوشة انقطعت عن الجامعة بعد أن حبلت ووضعت بنتا.
- عيشوشة وضعت بنتا ...؟
- نعم ، وضعت بنتا وادّعت أنّك أنت أباها، وسمّتها ميارى مدّعية أن ذلك يؤكّد شدّة تعلّقها بك.
.................................................................................................................

..............................................


- انتهت الزّيارة يا سيّدتي. اتبعني يا سي محمّد الأمجد.
- هل تريد أن أصطحب معي أمّي في الزّيارة القادمة ؟
- لا ... لا أريد أن تراني خدّوجة قبل أن أستعيد ذاكرتي. وعدوا بدعوة طبيب مختصّ لفحصي. وبعدها ربّما نقلوني إلى المستشفى. قولي "لدي جي" فقط إنّني أشتاق إليها وأتألّم لألمها، وإنّني سأعود إليها وقد ثبتت براءتي من كلّ التّهم. قولي لها أيضا إن النّساء لسن... بل لا تقولي لها شيئا عن هذا الموضوع. دعي ما قلت لك بيننا. قولي لها فقط إنّ تهمتي الوحيدة المقنعة هي سرقة قارب مطّاطيّ للاستعانة به على الهرب من مجرمين كانوا يريدون بي شرّا.
- هل توصي بشيء آخر ؟
- كتب، سأحتاج كتبا. فربّما طال مقامي هنا بعض الشّيء. منذ خرجت من باب تونس لم أمسك كتابا في يدي. ربّما أستعيد بالقراءة ذاكرتي، أو ربّما تعود إليّ الأحلام التي هجرتني من أوّل ليلة قضّيتها هنا. جيئيني بما تستطيعين من كتب. ستجدين على رفّ في غرفتي كتاب "المحاكمة" لكافكا وكتاب "الغريب" لكامو. هاتيهما. سأعيد قراءتهما، لعلّي أجد فيهما شيئا منّي.
- والسّجائر ؟
- لا تثقلي على نفسك. لم أدخّن من يوم قبضوا عليّ. اعتبريني انقطعت. فقط لا تدعي الشّكّ يتسرّب إليك في براءتي. واحرصي على زيارة عيشوشة، حتى وإن اعترضت "دي جي" على ذلك. بلّغيها رسالتي. قولي لها "لا تدعي الدّهر يزنى بالأمل البكر."
- وبوصلة سيدي النّا... ؟


- حاولي استرجاعها من إدارة المحبس. وإذا استطعتِ فاحتفظي بها جيّدا حتّى أخرج من هنا. سأعود من جديد للتّرحال بحثا عن صاحبها. فبهذا إنّما وعدت سيدي النّا...

الهكواتي .../... يتبع

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

القصة والتراث

تكريم الهكواتي

أنا أيضا ... حوماني