بوصلة سيدي النّا...3 سانية صوّانة

سنتي على جناح السّرد 33 من 53 // بوصلة سيدي النّا... 3 من 23– 17 أكتوبر 2008


المسلك الأوّل :

قطبيّ نجمي


الوجهة الثالثة :
سانية صوّانة

"علاقة هذا بالواقع محض خيال"- الهكواتي


باسم الله... باسم الله... "قطّوس" بسبعة أرواح، محمّد الأمجد ولد خالتي خدّوجة. بالذي لا إله إلاّ هو، شيء من وراء العقل."قطّوس" بسبعة أرواح، محمّد الأمجد بريقشة. باسم الله...
كيف يمكن أن يُعثر عليه بعد كلّ هذه الغيبة ؟ كيف ؟ بعد أن قبلت خالتي عزاءه واستخرجت له شهادة وفاة، كيف يتضح أنّه حيّ يرزق ؟ لا محالة، مبروك على خويلتي. أنا لا أحسدها. يمكن للمسكينة، على الأقلّ، أن تسترجع عافيتها، وأن تقف من جديد على رجليها. وإذا كان ابنها في السّجن فعلا، كما تدّعي أخته رشيدة، فلا ملام. الحبس للرّجال، والحيّ "يروّح". ولكن كيف ؟ كيف ؟



هذا الخبر، من أساسه، لا يمكن أن يدخل دماغي. غير معقول. لا بدّ أنّها كذبة. هل هذا اليوم غرّة أفريل ؟ نـحن في عزّ الخريف. فهل هناك أيضا كذبة أكتوبر ؟
اليوم، أصبح الكلّ يريدون اتّهامي بأنّني أنا من اخترعت قصّة موت محمد الأمجد بريقشة وأشعتها في المدينة. ما الذي صنعته أنا ؟ أنا لم أفعل شيئا سوى أنّني صدّقت من قال لي إنّه رآه في الشّابّة، ليلةً قبل غرق مركب الحارقين. وبما أنّ كلّ النّاس كانوا يقولون، قبل غرق المركب، إنّ ولد بريقشة اختفى ليحرق إلى إيطاليا، فقد كان طبيعيّا أن نستنتج جميعا أنّه هلك مع الحارقين المفقودين.
حتّى كارلا بيكولو أخضعتني إلى سين وجيم. بنت الكلب، منذ أن بلغها الخبر وهي تشكّ في أنّ بيني وبين عيشوشة بنت العجل شيء ما. لقد تنفّسَتْ الصّعداء بظهور محمّد الأمجد بريقشة، بنت القـ... قلبها يخبرها بأنّني أخفي عنها شيئا خطيرا، وهي تعتقد أن ظهور ولد خالتي خدّوجة سيكشفني. حتّى ناجي العجل دعاني للعشاء في بيته، بدون زوجتي. كان في لهجته شيء غير عادي. أو على الأقلّ هذا ما شعرت به. بدا لي وكأنّه يشكّ هو الآخر في أنّ العثور على محمّد الأمجد وإمكانيّة إخضاعه إلى التّحليل الجينيّ، فيه خطر على مخطّطنا. بدا لي وكأنّه يريد أن يحاسبني، كما لو أنّني أنا الذي قتلته، أو كما لو أنّني أنا الذي بعثته حيّا. هل بدأ يشكّ في شيء آخر هو الآخر ؟ غريب أمركم. إنّما كان قصدي شريفا. فما مصلحتي أنا من ادعاء موت ولد خالتي في البحر؟
ولكن، غريب أمري أنا أيضا. فما الذي أزعجني من عودة محمّد الأمجد بريقشة إلى الحياة ؟ وما الذي جعلني أرتبك بمجرّد سماع الخبر ؟ ولماذا أترك بيتي، وكأنّني أهرب من مواجهة كارلا بيكولو؟ لماذا أترك مطعمي العائم وكأنّني أهرب من شبح غزواتي التي انطلقت منه؟ لماذا أرفض دعوة ناجي العجل على العشاء، وكأنّني أهرب من نظرات ابنته عيشوشة وأتجنّب رؤية رضيعتها ميارى، البنت الحرام؟ ما الذي دفعني إلى إغلاق هاتفي الجوّال والانزواء هنا ؟
ها أنا أقضّي ليلتي في سانية صوّانة، ببرجها المتداعي للسقوط، وكهربائه المقطوعة منذ سنين. ها أنا أنعزل في هذه الأرض البور ببئرها الذي طمرته الحجارة ونباتها الذي لم يبق منه على قيد الحياة سوى زيتونتين ونخلة عجوز وطابية هندي. سانية صوّانة، جميعنا كنّا نسمّيها هكذا. ولكنّ محمّد الأمجد بريقشة هو الذي أطلق عليها اسمها.
كان ذلك ذات عطلة صيفية قضّيناها، محمّد الأمجد وأنا، عند جدّتنا الدّرعيّة جعيّدة، يرحمها الله. لم تكن جدّتي تحبّ التّلفزة. حتّى أنّها لم تدع مثل هذا الجهاز يعبر باب البرج أبدا. ولذلك كان محمّد الأمجد يشترط عليها أن تحكي لنا، كلّ ليلة، نفس الحكاية : "صوّانة المزيانة بنت سواد الليل والقمرة المليانة".
أنا كنت أنام منذ بداية الخرافة. أمّا هو فقد كان يسهر، مستمعا إليها حتّى النّهاية. لقد كنّا مختلفَيْن منذ الصّغر في كلّ شيء. أنا أسمع القول فأسدّ عنه أذنيّ أو "أرخي له" نوما، بينما هو يسمع كلام جدّتي "فيزرطه زرطانا" كالمكارونة، بل يحفظ كلّ شيء عن ظهر قلب. ومن الصّباح، يعيد عليّ الحكاية، فيزيد على قول جدّتي ما شاء له أن يزيد. وطبعا، كان "تفليمه" لا ينطلي عليّ. فلم أكن أصدّق أنّه كان يحكي لي الخرافة الحقيقية، كما روتها جدّتي الدّرعيّة. ولم يكن هو يكفّ عن مطالبتها بالإعادة، طالبا منّي الانتباه إلى الخرافة حتّى أتأكّد من أنّه لم يكذب عليّ. ولم تكن هي تكلّ من الاستجابة إلى طلبه، وكأنّها تجد لذّة خاصّة في سرد هذه الحكاية دون سواها. أمّا أنا، فكنت لا أكفّ عن سدّ أذنيّ وعن الخلود إلى النّوم بسرعة. وطبعا، لم يكن محمد الأمجد يسأم من الاستماع إلى نفس الخرافة كلّ ليلة، ولا من إعادتها عليّ، كلّ صباح، بأسلوب جديد وبأحداث أغرب فأغرب ، في كلّ يوم.

*****

سانية صوّانة. لست أدري لماذا انطلقت إلى السّواني، بمجرّد أن شاع في المدينة خبر عودة محمّد الأمجد بريقشة إلى الحياة. هل هي غريزة التّملّك؟ هل خفت أن ينازعني ولد خالتي ملكيّة سانية صوّانة فيطالب بها لنفسه؟ أم هل أردت أن أثبت لنفسي أنّني انتصرت عليه بالضربة القاضية حين استقرّت السّانية، أخيرا، على ملكي الخاصّ؟ أم هل يا ترى مازلت، في قرارة نفسي، أحبّ محمّد الأمجد رغم كلّ شيء، وأحنّ إلى زمن كنت فيه وإيّاه كالأخوين قبل أن تفرّقنا الكرّاسات والكتب، ويعمّق بيننا الجفوة ما كان يبديه سيدي النّا... من انـحياز له على حسابي؟





لم أكن أتصوّر أنّني، بعد أن ربحت قضية القسمة واستقرّت لي ملكيّة السّانية، بشراء منابات كلّ الورثة، لم أكن أتصوّر، أنّني سأتّخذ منها ملجأ، أهرب إليه في أوّل فرصة أحتاج فيها إلى الاختلاء بنفسي. ولم أكن أتصوّر أنّني حين أحلّ بها، سأجد فيها محمّد الأمجد بريقشة، يملأ عليّ المكان، يحتلّه كأنّه هو صاحبه، ويفرض عليّ حضوره متسلّلا من ذكريات طفولتي.
صحيح أنّني كنت مستاء من محمد الأمجد، من قبل أن يهجر المدينة ومن فيها. وصحيح أنّ علاقتنا، منذ عدت إلى البلاد عودتي النّهائيّة، لم تكن تتعدّى "صباح الخير"، "نهارك مبروك". ذلك أنّني وجدته بطّالا، يجتاز مناظرة "الكاباس"(1) ويفشل في كلّ مرّة. فلا يحصل على شغل. قلت أفعل معه الخير وأعرض عليه أن يعمل معي على "البالانصي". فلمحمّد الأمجد خبرة بالبحر والبحّارة. وهو، مهما كان، ابن الرّايس بريقشة وتربية يد خالي، الرّايس النّاصر الجعيّد.
كانت الفكرة في الحقيقة فكرة زوجتي، كارلا بيكولو. هي عجوز مهجّنة من فصيلتي البشر والكلاب، تحسبها وهي طائرة، دينها اليورو أو الدّينار، ولكنّ قلبها رقيق. حدّثَتها المرحومة أمّي عن بطالة محمّد الأمجد وعن شاهائده العليا، وعن معرفته بالبحر. كان ذلك يوم جاء يعود خالته قميرة آخر مرّة قبل وفاتها بأسابيع. فقالت لها كارلا بيكولو "نستخدمه نـحن فلا يبقى بطّالا." قلت لها "دعينا منه، فبيني وبينه جفوة قديمة". ثمّ ما لبثتُ أن اقتنعتُ في النّهاية. فقلت "طيّب، نربح نـحن، ويربح هو. أكلّفه بالبالانصي فيكون عيني على بحّارتي، وأتفرّغ أنا للمطعم العائم." وعرضت الفكرة على خالتي خدّوجة. زرتها خصّيصا لهذا الغرض. قلت لها "أدفع له مائتي دينار في الشّهر ويأخذ مرقته على عكس الآخرين". مسكينة خالتي. هي على الأقل لا تكرهني. ربّي يفرّج عليها. قالت لي بالحرف الواحد: "فكرة جيّدة. أنتما في النّهاية أخوين. تتصالحان وتضعان اليد في اليد، خيرا له من البطالة". وعرضت عليه فكرتي.
هل كان في هذا ما يجعله يركب رأسه ويختال كالطّاووس ورجليه في الخراء ؟ لقد رفض "الملقوط" حاشا خالتي. نعم، مرّت عليه آنذاك سنوات ثلاث وهو بلا شغل. ومع ذلك سمح لنفسه بأن يرفض عرضا سخيّا كعرضي. قيل لي إنّه قال بالحرف الواحد "ولد بريقشة صاحب أستاذيّة، ولا يشتغل عند عامر "البينتو"." فماذا يعني أن يكون صاحب أستاذية ؟ وقيل لي أيضا إنّه قال: " لو كان سيدي النّا... حيّا، فإنّه كان سيمنعني من أيّ تعامل مع ولد خالتي قميرة".

لقد أوجعني منك موقفك هذا يا وليّد خالتي. وأنت يا سيدي النّا...، هل كنت فعلا ستمنعه من العمل معي لو كنت حيّا ؟ هل أنت تسمع ؟ قل لي يا خالي، يا ناصر يا جعيّد، هل أنت هنا فتسمعني؟ وأنت، يا محمّد الأمجد، هل أنت فعلا حيّ في السّجن، كما تدّعي رشيدة، أم أنّك ميّت، كما شاع عنك في المدينة؟ هل هي روحك هذه التي ترفرف هنا، في ظلام سانية صوّانة ؟ مازلت أشعر بالمرارة كلّما تذكّرت ردّك على عرضي يا مجدة يا وليّد خالتي. إنّه يطنّ في أذنيّ وكأنّك تقوله الآن. ما له عامر "البينتو" ؟
...ها أنا صرت أتكلّم وحدي بصوت مرتفع. لا بدّ أن تتحكّم في أعصابك. لا شكّ في أنّك ستجنّ إن تواصل هذيانك بهذا الشكل، يا عامر ياولد أمّي. هل تكون السّانية مسكونة بالأرواح، كما كانت تقول جدّتي الدّرعيّة جعيّدة؟ لا شكّ إذًا في أنّ روح سيدي النّا... تسكن هنا. وروح محمّد الأمجد بريقشة أيضا، بالتّأكيد. أم تراها الخمرة بدأت تعبث برأسي؟
ما الذي يشين ولد خالتك قميرة، يا "مجيدة القرّاية"؟ ما الذي يشين ابن خالتك يا "خَنُّوتَهْ"، يا مجدة "المْطَرْوَشْ"، يا "مْصُولَحْ" ؟ وأنت يا سيديّ النّا...، ما الذي يشين ابن أختك؟ ما الذي يشين ولد قميرة يا رايس ناصر يا جعيّد، يا خالي الغالي ؟
...اسكت يا عامر يا "بينتو". ما لك تصرخ هكذا في هذه الليلة المشؤومة؟ قد يمرّ أحد من هنا فيسمعك. تحكّم في أعصابك قليلا، يا رجل. فمن قال إنّ محمّد الأمجد بريقشة فعلا حيّ ؟ ومن رآه سوى أخته رشيدة ؟ لو كان فعلا في السّجن لسمحوا لنا بالزيارة. هي التي تقول إنّ زيارته ممنوعة، وإنّها حصلت على ترخيص استثنائي لأسباب إنسانيّة كي تراه. ولكن من يضمن أنّها ليست مجرّد إشاعة تطلقها الشرطة بالتواطئ مع رشيدة للإيقاع بأحد المضنون فيهم ؟



الاحتراز واجب في كلّ الأحوال، يا عامر. ولكنّها غريبة. غريبة فعلا. محمّد الأمجد بريقشة حيّ. سبحانه، يحيي العظام وهي رميم.


الهكواتي .../... يتبع
-------------

(1) "الكاباس"، مناظرة يجتازها الحاصلون على الأستاذية، للحصول على شهادة الكفاءة المهنية للتدريس بالتعليم الثانوي.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

القصة والتراث

تكريم الهكواتي

أنا أيضا ... حوماني