بوصلة سيدي النّا... / 5 مسمار من وراء الأفق

سنتي على جناح السّرد 35 من 53 // بوصلة سيدي النّا... 5 من 23– 31 أكتوبر 2008
المسلك الأوّل
قطبيّ نجمي

الوجهة الخامسة
مسمار من وراء الأفق

"علاقة هذا بالواقع محض خيال"- الهكواتي

لا تخافي يا خدّوجة، مازلت أحلم.
لا تخافي، سأظلّ قادرا على الحلم ولو شتّتت الرّياح كلّ الصّور وأغرقت في أعماق البحر كلّ الرّؤى. مازلت أحلم يا أميمتي. وعندي من الأحلام أنهار. عندي منها عدد الأمواج، مدّا وجزرا. لا ينكسر حلم على شاطئ اليقظة إلاّ ليولد من زبده حلم جديد.


فاصفحي عنّي يا "دي جي"، واسمعيني، وفكّري ولا تغرّنّك آراء الآخرين.
اصفحي عنّي، يا "دي جي"، وصدّقيني. إنّما أعتزم السّفر لتنفيذ وصيّة سيدي النّا... وليست لي منه أيّ غاية أخرى. لقد كذب عليك من قال إن دافعي إلى الرّحلة فشلي مرّة أخرى في الكاباس. دعيهم يستنتجون، ويعلنون من النّتائج ما يحلو لهم. أنا أعرف قدْرَ نفسي، يا خدّوجة، وأعرف ما يضمره هؤلاء المشكّكون.
اصفحي عنّي، يا "دي جي"، وصدّقيني. سأتّجه شمالا، إلى قرية لا أعرفها. لقد ذكرها لي سيدي النّا... اسمها تازمران أو تامزران. على كلّ، سأجد طريقي إليها، وسأبحث فيها وفي القرى المجاورة لها حتّى أجد صاحب البوصلة. فأمدّه بها، ثمّ أعود إليك في الحال. هذا كلّ ما في الأمر.
لقد كذب عليك من قال إنّ حلمي بالأفق يكشف رغبتي في "الحرقة". فلماذا "أحرق"، وأجمل الأوطان أوطاني، وأجمل الحومات الرّبط، وأجمل الأبواب باب تونس، وأجمل الأزقّة زقاق بريقشة ؟ لماذا أحرق، يا "دي جي" وأجمل الأمّهات أنت، يا خدّوجة الجعيّد، يا امرأة الرّايس بريقشة ؟
هيّا، ابتسمي واصفحي عنّي. ما فات مات. والله يخلف عليك. كلّ ما يقال تحمله الرّياح إلى الفناء. وحدها تبقى الأحلام. وأبقاها، يا أميمتي، حلم الأفق.


ما الذي حصل يا "دي جي" ؟ أكلّما حلمت و بدأت أقصّ عليك رؤاي، سطا واحد من خارج خيالي على خيط الحكاية. فجذبه إليه، وفرض عليّ الصّمت، وأصبح ناطقا باسمي ؟ أكلّما دخلوا على الخطّ هكذا، فانقضّوا على أحلامي، وذهبوا بها بعيدا، أعرضتِ أنتِ عن قولي وأصغيت إليهم ؟ هل هم يعرفون حقيقة أحلامي، وتفاصيلها ومراميها أكثر منّي؟ أم هل مازلت غاضبة منّي لثورتي عليك، يوم لم تصدّقي فشلي في المناظرة من جديد؟
... كنت أتقلّب على الجمر في انتظار إعلان النّتائج. ليلتها، كان اطمئنان خدّوجة الجعيّد غريبا، بل كان مريبا. وحين طلع صباح الغد، وصدر القول الفصل بإقصائي مجدّدا، رأيت أمّي تنهار ولا تصدّق أنّ تلك هي النّتائج النهائية فعلا. حينها أُصَبت بالجنون. فقد كان واضحا أنّها انـخدعت، وأنّها سقطت في الفخّ كما سقطت عديد الأمّهات من قبلها. وكان لا بدّ لها من الاعتراف.
كيف لا أثور إذًا، يا أميمتي، وقد رهنت كلّ مصوغك وأعطيت امرأة غريبة كلّ ما تملكين ؟ كيف لا أثور، وقد كنت نبّهتك من العام الأوّل إلى أنّني سأرفض مباشرة العمل لو كان وراء انتدابي تدخّل من أيّ كان؟ فهل يعقل أن أرفض "الأكتاف" وأقبل أن ترهني مصوغك، وتدفعي مالا مقابل انتدابي؟ رشوة هذه يا "دي جي"، رشوة. هل كان يرضيك أن أكون أنا، محمّد الأمجد بريقشة، أستاذا بالرشوة ؟ كيف لا أثور؟ ثمّ أين هي فاعلة الخير الآن تسترجعين منها أموالك ؟ أين هي، بعد أن اتّضح أنّها لا تشتغل في إدارة التعليم، ولا يعرف أحد عنها شيئا؟
...كنت قاسيا على خدّوجة الجعيّد. وما كنت قد قسوت عليها من قبل أبدا. ولا سبق لي أن رفعت صوتي في حضرتها. كنت أصرخ وأنطح عمود السّقيفة حتّى سال الدم من رأسي.
لقد كان جرح كبريائي أعمق، يا "دي جي". فاغفري لي ثورتي. ويخلف الله عليك في ما ضاع منك. وإن شئت، "فعزّريني واضربي بالكفّ"، كما قال المغنّي. هيّا، اصفعيني فعلا، واصفحي. فأنا لا أملك غير رضاء الوالدين. فلا تغضبي عليّ إذًا ولا تحرميني من ابتسامتك. ولا تعرضي عن سماع أحلامي. فمن لي يسمعني إن أنت أعرضت يا أميمتي؟
دعيك منهم، يا "دي جي"، واسمعي منّي أنا، ثمّ أوّلي الحلم كما يمليه عليك حدسك. وإذا طغت على صوتي أصوات الآخرين، فاقرصيني حتّى أستيقظ من كابوس واقعي، وأستعيد حلمي الجميل، فأسترجع خيط الحكاية منهم، وأكمل لك رؤيتي. وحين أصمت، يا "دي جي"، فلا تحسبي أنّ الخرس أصابني كما أصاب "البّيه"(1) صبرية بنت الملسن.
آه... تذكرت "البّيه" صبرية، يا "دي جي". هل تعرفين أنّ صمتها ليس خرسا، وأنّها ليست عاجزة عن الكلام كما تظنّون؟ صدّقيني، لقد تكلّمت. نطقت صبرية بنت جارتك يا خدّوجة. لقد سمعت صوتها في منامي. كان لها صوت عذب وكان لسانها طليقا ليس كطلاقته ألسنة المتكلّمين. وكان ذلك أجمل حلم في حياتي، يا "دي جي". ألم أقل لك إنّ أجمل أمنياتي منذ بدأت أفهم، كانت أن أرى "البّيه" صبريّة الملسن تتكلّم فتفصح عمّا نراها تفكّر فيه ولا يبلغنا منه شيء أبدا ؟...

*****

ماذا أقول لخدّوجة الجعيّد عن حلمي "بالبّيه" صبرية، وماذا أخفي عنها منه ؟ أعرف أن من تفاصيل أحلامي ما يزعجها. ولكن، كيف أخفي عنها حدثا كهذا الحدث ؟
... على حافّة السّور أمشيه سراطا، من زاوية جدار الصّمت إلى سطح سقيفة باب تونس، والأفق دائما سواد يتراءى بعيدا وراء بحر تدرك صورته الذّاكرة ولا تميّز العين ماءه من سمائه... أمشي، قبلتي نجمة الشّمال والقمر في منتصف الخسوف... خائفا، أتقدّم بعسر، واضعا برفق قدما أمام قدم، فاتحا جناحيّ للرّيح أتّبع مسلكا وسطا، لأحافظ على توازني، فلا أسقط يمينا في بعض المجاري الغائرة فيلتهمني ظلامها، ولا أهوي يسارا على بلاط رصيف السّور، فتتهشّم عظامي.
... التفتّ فجأة إلى ناحية السّطوح. دارنا ودار الملسن توأمان. لا حدّ يقوم بين سطحيهما. مساحة فسيحة تشعّ بنور أبيض لا تشوبه شائبة. ومن حولها السطوح غارقة في الظّلام. مساحة تصّعّد منها رائحة جصّ نديّ وبخور فوّاح، ويعلو فوقها بخار شفّاف رقراق يطاول قبّة السّماء بمصابيحها المتناثرة كحبّات اللؤلؤ.
قرب غرفة المهملات فوق سطحنا، جسم نـحيل ملفوف في إزار أبيض يستقبل القبلة ويرفع يديه متضرّعا بدعاء كأنّه تراتيل جدّتي الدّرعيّة الجعيّدة في حلقة ذكر قادمة من زمن أبعد من أفق طفولتي المبكّرة.
لي مع زمن أحلامي علاقة مدّ وجزر شاطئها ليلة نومي وأفقها يوم مولدي. فليس غريبا بالمرّة أن أراني يافعا أو طفلا أو حتّى رضيعا في حضن خدّوجة الجعيّد، وأن أصدّق حلمي دائما. ما ينقصني فقط، هو أن تدفعني أمواج المدّ إلى ما بعد ليلة نومي، فأرى ما يحمله الآتي.
...فجأة، رأيتني صبيّا، أقفز من سور المدينة العالي إلى سطح بيتنا. صوت خدّوجة الجعيّد وهي تصيح ملتاعة يأتي من ورائي ساعيا إلى انتشالي من حتفي. وأنا أجري ولا أعبأ بالخطر. أسعى إلى الارتماء على ظهر جدّتي، أهرب إليها من أمّي آملا أن تقطع صلاتها وتأخذني من ظهرها إلى حضنها كما كانت تفعل دائما لتخبّئني. ولكنّ الجسم النّحيل التفت إليّ فجأة. فإذا صياح خدّوجة يئزّ في أذنيّ كصوت مكابح السّيّارات قبيل ارتطامها، وإذا حركتي المنطلقة تنقطع، وإذا أنا أقف متجمّدا أمام المشهد مكتشفا أنّني كبُرتُ في مثل لمح البصر. وإذا مزيج رائحة الجصّ النّديّ والبخور يعود ليغمر خياشيمي.
... لم تكن المرتّلة جدّتي الدّرعية الجعيّدة. بل كانت "البّيه" صبرية بنت الملسن، جارتنا. أي نعم، كانت هي بشعرها الفضّيّ المخوّص، ووجهها الأسمر المستطيل، وأنفها المستقيم النّاتئ الحادّ كنصل السكين، وتجاعيدها الغائرة قرب زاويتي عينيها. حين رأتني "البّيه" صبرية أُصَابُ بالدّهشة والهلع، ابتسمت لي دون أن تكفّ شفتاها عن تلاوة خواتم الفاتحة. فإذا سكينتها تغمرني أنا أيضا، ولكن دون أن تذهب دهشتي :
- "سبحان ربّك ربّ العزّة عمّا يصفون ..."
- أوَ تنطقين يا "ابّيه" وأنت الخرساء ؟
رفعت "البّيه" صبرية صوتها مواصلة:
- "وسلام...."
ففهمتها واستغفرت ربّي. ومددت يديّ متضرّعا معها. وهكذا ختمنا الفاتحة سويّا : "...على المرسلين والحمد لله ربّ العالمين."


... لم أشعر، وأنا أمسّح على وجهي وصدري، كيف انتقل بنا المشهد من سطوح المدينة إلى الجبّانة. فوجدتني واقفا وراء "البّيه" صبرية وهي ممدّدة على قبر سيدي النّا... تحتضن المرمر بحنان، وتغطّي رأسها بالإزار الأبيض، عاجزة عن كبح بكاء مرّ، سرى له بين القبور صدى.
رفعت رأسي مستقبلا مقام سيدي المازري فبدا لي الفجر زاحفا من البحر إلى صومعة الرّباط. وظللت هكذا شاخصا أنتظر أن ينتشر نور الصّباح، وينكتم نشيج "البّيه" صبريّة أخيرا. عندها طرحت عليها السّؤال، فقط لأختبر من جديد قدرتها على الكلام : "أمازلت تحبّينه يا "ابّيه"؟" فإذا هي تردّ عليّ بكلّ وضوح :
- ربّي وحده يعلم بهذا يا مجدة. لوعتي عليه ما تزال حارقة كما لو أنّه مات البارحة. هكذا الدّنيا. أنا أحبّه كما كنت أحبّه منذ الأزل. ولكنّه كان يحبّ راضية بنت كحلة. وراضية بنت كحلة كانت تحبّ فلوس النّاجي العجل. والنّاجي العجل لا يحبّ أحدا غير وجهه في المرآة. وكلّ هذا والكلام يتطاير، تحمله رياح باب تونس إلى حيث لا ينام أحد هانئا.
كدت أغتنم الفرصة فأسألها إن كانت عيشوشة بنت العجل في الحقيقة ابنة من صلب سيدي النّا... كما تهمس به بعض رياح باب تونس. ولكنّني خجلت من نفسي فكتمت سؤالي وطأطأت رأسي. فماذا يعنيني من أصل النّطفة التي منها خلقت عيشوشة ؟ المهمّ أنّها خلقت لتحبّني أنا، وأنّ قلبها اليوم يخفق لي، وأن قلبي لا يخفق إلاّ لها. ولكن كيف أقول هذا لخدّوجة حين أستيقظ وأروي لها حلمي؟
... حين رأت "البّيه" صبريّة أنّني سرحت بخيالي بعيدا، ابتسمت لي وسحبتني من يدي. فإذا نـحن على سطح بيتنا من جديد وغرفة المهملات مفتوحة الباب كما تركتها البارحة قبل أن أنزل لأنـحشر في غرفتي وأنام...
لقد مرّت عليّ شهور وأنا أتفقّد غرفة السّطح من حين لآخر فأبحث عن بوصلة سيدي النّا... بين الأكياس والصّناديق الخشبية وعلب الكرتون وأكداس المهملات فلا أعثر لها على أثر. كنت كلّ ليلة أحلم منتظرا أن يقتحم عليّ سيدي النّا... غرفتي ويأخذني إلى السّطح ليدلّني على مكان البوصلة بالتّحديد. ولكنني لم أره في منامي منذ حلم المائدة الكبرى.
كدت أسلّم بأنّ وصيّته مجرّد أضغاث أحلام كما قالت خدّوجة. أمّا أمّي، فكانت كلّما طلبت منها أن تبحث معي، تتعلّل بعذر مقنع وترفض ارتقاء السّلّم إلى السّطح. وكلّ خوفها من أن أعثر على البوصلة فأسافر في الحين. وأنّى لي أن تبحث معي خدّوجة عن البوصلة، وما البوصلة عندها إلاّ أداة لركوب البحر ؟ وكيف أنتظر منها مساعدة على السّفر. والسّفر عندها مرادف "الحرقة" منذ أن أوّل لها حلمي الآخرون ؟
... واقف على السّطح، وقد غربت شمس وبزغ قمر. أنظر إلى أكداس المهملات، و"البّيه" صبرية تمسكني من يدي وكأنّها تقرأ ما أفكّر فيه فتجيبني عليه في الحين:
- إذا عاقت عاطفة الأمومة خدّوجة عن فهم حلمك، فأنا من أفهمه. وإذا أخّرَتْها عن مساعدتك على الانطلاق نـحو هدفك، فأنا من أساعدك بما أستطيع. وإذا منعَتْها من تصديق وصيّة سيدك النّا... فأنا من أصدّقها. كنت أعلم أنّك لم تجد البوصلة التي أوصاك بالبحث عنها. ففكّرت طويلا في الأمر. إذا كان حلمك رؤيا، فلا يمكن للنّا... أن يوصي بشيء مستحيل. البارحة جاءتني فكرة. فطلعت إلى السّطح ليلا لأتأكّد من وجاهتها. سألت نفسي : ألا يمكن أن يكون علينا البحث في الظّلام لنرى البوصلة ؟ وفعلا، رأيتها بين الأكياس والصناديق دون أن أبحث عنها. كانت تلمع ببريق فريد في ضوء القمر. لففتها في خرقة ودسستها في صندوق. ثم نزلت فتوضّأت وصعدت إلى السّطح من جديد لأصلّي لربّي حيث وجدت البوصلة ولأشكره من أجلك.
... غمر كياني شعور عارم بالفرح ذرفت معه الدّمع من عينيّ رغما عنّي. فارتميت في حضن "البّيه" صبريّة شاكرا. فضمّنتني إلى صدرها، فوجدت من حنانها مثلما أجد من صدر خدّوجة الجعيّد. مرة أخرى تعبر صورة أمّي خيالي. ومرّة أخرى يلحّ السّؤال عليّ مؤذنا باقتراب الحلم من نهايته: كيف لي أن أروي لأمّي تفاصيل حديث "البّيه" صبرية ؟ أم هل يجوز لي الآن أن أحمل بوصلة سيدي النّا... خلسة، وأنطلق دون علمها؟
... لكأنّ "البّيه" صبريّة نفذت إلى أعماقي وسمعت في نفسي أصداء السّؤال. فإذا هي تمدّ لي من أحد الصّناديق الخشبيّة قطعة نـحاسية صلبة باردة ملفوفة في خرقة، وهي تجيبني:
- "بل تترك وصيّة عند رشيدة وتنطلق قبل طلوع الفجر، وتدع أمر مصالحة خدّوجة إلى ما بعد عودتك.
... نزعت الخرقة أخرج منها البوصلة فإذا هذه تلمع كما لو أنّها صنعت اليوم بالذات. لا الرّطوبة أتت على معدنها ولا فعل الزّمن فعله في لونها. ولكن، ما إن فتحتها لأبصر كيف هي من الداخل، حتّى سقط غطاؤها الدّائريّ على السّطح وأخذ يتدحرج في اتّجاه سور المدينة، محدثا رنينا كقرع النّاقوس. وبقي قلب البوصلة في يدي. نظرت إليه فإذا إبرة من فضّة تحت البلّور تلمع مرتـجّة وتشير في اتّجاه سقيفة باب تونس. رفعت رأسي فرأيت "البّيه" صبرية تجري وراء الغطاء لتلتقطه. وفجأة أقبل سيدي النّا... عليها من سطح سقيفة الباب. فإذا هما في عناق طويل، وأنا أنظر إليهما مندهشا.
... كان سيدي النّا يحدّثها بالهمس. ولكنّني كنت أسمع كلّ ما يقوله لها. فقد أخبرها بأنّ فاتحتها وصلته، وبأنّه سعيد بحرصها على مساعدتي. وقال إنّ تدحرج النّحاس على السّطح نبّهه إلى انفصال الغطاء عن البوصلة فجاء يحمل إليها مسمارا لولبيّا ذهبيّا دقيقا بحزقة من فضّة كان يحتفظ بهما، في بيته في عالم الغيب، في انتظار أن أعثر أنا على البوصلة. ثمّ مدّ لها شيئا دقيقا ينبجس النّور منه بين إبهامه وسبّابته، وضعه في كفّ يدها اليسرى، فأطبقت عليه أصابعها. ثمّ استدار بسرعة عائدا من حيث أتى، دون أن يوجّه إليّ ولا حتّى نظرة عابرة.
... كيف يدخل سيدي النّا... حلمي ويخرج منه دون أن يكلّمني؟ هل كان غاضبا عليّ هو الآخر ؟ ضيق شديد يطبق على صدري. شعرت بالهلع يكاد ينتزع قلبي من موضعه. وأحسست في رجلي كمثل لدغة العقرب. فصرخت : "سيدي النّااااااااااا..."

*****

غالبا ما تنتهي أحلامي الجميلة بشكل كابوسي، فينقطع مجراها حيث لا أريد لها أن تنتهي. و غالبا ما يكون ذلك بتأثير خارجي. فما دفعني في الواقع إلى الصّراخ، كان سحب رشيدة الغطاء من فوقي بعنف وقرصها رجلي حتّى أستيقظ. فقد كانت أختي مكلّفة بتنظيف غرفتي، وقد أضحى الوقت متأخّرا فعلا.
سألت عن أمّي فوجدتها قد خرجت إلى شأن لها في إحدى بيوت الحومة. ففكرت في اغتنام الفرصة للحديث مع رشيدة على انفراد عن كيفية استعدادي للسّفر. ولكن من قال إنّني سأجد البوصلة حيث رأيتها في المنام ؟ جريت أرتقي السّلّم إلى السّطح. ومباشرة، قصدت الصّندوق الخشبي الذي كنت أحلم به. فإذا البوصلة في نفس المكان الذي أخرجتها منه "البّيه" صبرية. بل هي ملفوفة في نفس الخرقة التي رأيتها في الحلم.... نزعت الخرقة فوجدت البوصلة نظيفة ولكن من دون غطاء. لقد كان الحلم رؤيا إذًا.
عدت إلى رشيدة جاريا، أزفّ إليها بشرى عثوري أخيرا على البوصلة. كانت منهمكة في نفض الغبار عن المفارش. فطلبت منها ترك ما بيديها قليلا. إذ كان الوقت ضيّقا وكان عندي كلام أريد أن أفضي به إليها قبل عودة خدّوجة. ولكنّها كانت هي المبادرة بالحديث. فقد كانت تريد بدورها أن تغتنم الفرصة لمناقشة موضوع لا تريد أن تعلم به خدّوجة قبل أخذ رأيي فيه لآخر مرّة. لقد قيل لها إنّ عامر "البينتو" ربح قضية سانية صوّانة. وقيل لها إنّه علينا استئناف الحكم قبل فوات الأجل القانوني.
لم تكن الإجابة تستدعي منّي أيّ تفكير. رشيدة تعرف موقفي النّهائيّ من هذا الموضوع. ولكنّها تريد أن تضغط منتهجة طريقة الإلحاح لتغيير رأيي، كما تفعل خدّوجة. فما كان منّي إلاّ أن أجبت على الإلحاح بالإلحاح وأعدت عليها ما قلته لها مرارا :
- ليس لي وقت أضيعه في سفاسف ولد خالتي قميرة. فليضع عامر "البينتو" يده على ما شاء من ميراث دار الجعيّد. يكفيني أنّ سانية صوّانة ملكي أنا في واقع خيالي وفي ذكرياتي. فما أملكه منها عسير المنال عليه، لا أحتاج فيه إلى شهادة ملكية، ولا يمكنه أن ينازعني فيه ولو حكمت له بالسّانية الأمم المتّحدة، لا المحكمة الإبتدائية.
فجأة، طرق الباب ولم أصل بعد إلى ما كنت أعتزم الخوض فيه مع رشيدة. تركتها تنظّف الغرفة، وأخفيت البوصلة بسرعة، وذهبت لأفتح. كنت متهيّئا لاستقبال خدّوجة. لقد هيّأت نفسي للانقضاض عليها واحتضانها وتقبيلها لأفرض عليها المصالحة بقوّة ذراعيّ. قلت لها وأنا أفتح الباب :
- هيّا يا "دي جي"، يكفيك من الغضب أسبوع واحد. فلا بدّ الآ...


ولكن كم كانت دهشتي حين وجدت "البّيه" صبرية أمام الباب عوضا عن خدّوجة. وكم زادت حيرتي وعظم شكّي في أنّني لم أستيقظ من حلمي بعد، حين مدّت لي "البّيه" صبرية غطاء البوصلة الذي رأيتها تلاحقه في منامي. كدت من دهشتي أن أصيح : "أقرصيني يا أميمتي". ولكنّ "البّيه" صبرية أطبقت على شفتيّ بسبّابة يدها اليمنى، ودلفت إلى السّقيفة وهي تخاطبني بالهمهمة والإشارة، تطلب منّي الصّمت والمحافظة على السّرّ بينها وبيني، وتضع في يدي غطاء البوصلة. أمّا الأغرب من كلّ هذا فأنّها فتحت أصابع يدها اليسرى، فإذا وسط كفّها مسمار لولبي دقيق من الذّهب الخالص، مشدود إلى حزقة رقيقة من الفضّة، يشعّ منهما بريق يخطف البصر.

الهكواتي .../... يتبع

(1) "البّيه" (تنطق كحرف الباء بالفرنسية): وهي الطريقة التي ينطق بها الأخرس حرف الباء، يغصّ به الكلام قبل خروجه من حلقه. وهي تسمية محلّية يطلقها النّاس على الأبكم كاللقب أمام اسمه أو لمناداته بما لا يتضمّن نية نبزه أو الحطّ من شأنه.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

القصة والتراث

تكريم الهكواتي

أنا أيضا ... حوماني