بوصلة سيدي النّا... 4 رياح باب تونس

سنتي على جناح السّرد 34 من 53 // بوصلة سيدي النّا... 4 من 23– 24 أكتوبر 2008


المسلك الأوّل
قطبيّ نجمي

الوجهة الرّابعة
رياح باب تونس

"علاقة هذا بالواقع محض خيال"- الهكواتي

ليس كباب تونس مجرى تهبّ عبره الرّياح. معروفة رياح باب تونس. تهبّ دائما في اتّجاه واحد، دخولا ولا خروج. تصل "شرقي-برّاني" لتعبر الباب السّقيفة وهي تنكسر في زاوية القبو فتتّجه "جنوبي-باش"، في خطّ مستقيم ينحدر مع النّهج موازيا لسور المدينة. فيكاد صداها لا يصل إلى آخر نهج الباب. وحتّى إن وصل، فمُنْهَكا يصطدم بالسّور الأصمّ فيعدّل اتّجاهه، وينحرف الصّدى من جديد. فإذا نـحن "اسكت، اصمت، أغلقْ، سدّ". و"الباب الذي يأتيك منه الرّيح..." و"قدّر الله وستر"....


والواحدة منّا تعيش الهبوب في باطنها "ريحا معكوسا"، وقد استنشتقه ملء الرّئتين، فإذا منه لظى داخليّ مفاجئ تتمنّى تنفيسه رجعا مدوّيا "جنوبيّا-غربيّا-شِرْشْ قَطَّاعْ غْزَلْ". ولكن، ما حيلة الخرساء، لا يظهر من وقعه عليها سوى كمثل نسيمٍ "شْلُوقْ"، يسيرِ الهضم ؟ ما حيلة الخرساء، لا تملك إلاّ أن تَحبِسَ الآهة في الصّدر، وحتّى إن أخرجتها، فزفرةً مكبوتة لا يصل صداها، عَوْدا إلى الباب، أبدا ؟


في زقاق بريقشة أبواب ثلاثة. باب دارنا على يمين الدّاخل. تجد وراءه دائما من يردّ الجواب، ولو بالإشارة والهمهمة. فأنا دائما في السّقيفة أو في رأس الزّقاق. ولا أغادر الحومة إلاّ لقضاء شأن عاجل، وأعود سريعا. وباب دار زينوبة على اليسار، مغلق من عشر سنين. تكاد جدران البيت تنهار، وما من كار يكتري ولا من مالك يتفقّد أو يريد أن يبيع. وباب دار بريقشة، بالطّبع، في الصّدر. باب "بالخوخة" في قوس عال وعريض يتّسع لدخول عربة بحصانها، ولكن ذلك كان أيّام زمان. الباب يؤدّي إلى سقيفة فسيحة عميقة، كانت في أيّام العزّ مخزنا لأدوات الصّيد بأنواعها وورشةً لرتق الشّباك. والسّقيفة تفضي إلى فناء شاسع "يرتع فيه الخيّالي" كما يقال.


تطرق باب دار بريقشة فلا يسمعك أحد. رشيدة تعمل في حومة الشّراقة، في الطّرف الآخر من المدينة. فهي لا تعود إلاّ لساعة واحدة عند الظّهر. وزوجها العيّادي التّهامي، ينطلق بشاحنته الصّغيرة قبل الفجر، ليعود بعد انتشار الظّلام. أمّا "لَلَّة"، خدّوجة المسكينة، فكرسيّها المتحرّك لا يصلح إلاّ لمن يريد مساعدتها على التّنقّل. فحين تعود رشيدة عند الزّوال لتتغدّى وأمّها، فهي غالبا ما تجدها حيث تركتها عند خروجها صباحا. إلاّ إذا طلبت منّي للّة أن أغيّر موضعها. فأنا الوحيدة التي أدخل إلى دار بريقشة في غياب رشيدة. أعرف كيف أفتح الباب. ولكن لا أدخل إلاّ لأساعد "للّة" على قضاء حاجتها.


لذلك، فحين جاء الشّرطيّ وهمّ بطرق الباب، جذبته من يده وركبت وراءه على درّاجته النّارية وأشرت له بيدي أدلّه على طريق حومة الشّراقة. حتّى إذا وصلنا إلى الدكّان، أخذته من يده مباشرة إلى رشيدة. فإذا الرّياح تبدأ عصفها في الحال. وإذا أطفال باب تونس يرقصون في حلقات ويغنّون للرّيح :


" دقّ الباب نهار خميس

صبريّة ادّاها البوليس"

حين تهبّ الرّيح في باب تونس، فالخرَس يغدو عموما خصلة حميدة لدينا لا ننفرد بها نـحن معشر البكم. ولكن، يحدث أحيانا أن تهبّ العواصف بعنف شديد. تقتحم الباب السّقيفة اقتحاما. فيبلغ من عنف اصطدامها بزاوية القبو المظلم أنّها تدخل إلى الحومة دوّامات تثير الكلام غبارا ونثارا، حلقات مصطخبة، ترقص فيها "عفاريت سيدنا اسكندر" وقد انطلقت من عقالها، تكشف المستور وتطيّر الكلام شتات حكايا، ولا حكايا.

فمن قائل إنّهم كتبوا عنه في الجرائد دون أن يذكروا اسمه. ومن قائل إنّه حين أحسّ بالشاطئ محاصرا، ترك أهل البلاء في البلاء وامتطى قاربه المطّاطيّ واتّجه رأسا إلى لمبادوزة في بلاد الطّليان. ومن قائل إنّ رجال الأمن كانوا مستعدّين لكلّ طارئ فطاردوه بخافرات السّواحل وحاصروه حتّى قبضوا عليه أخيرا، كما في الأفلام البوليسية. ومن قائل إنّ ضحاياه كانوا ثلاثين، أخرجهم رجال الشرطة من مخابئهم كالفئران وإنّهم اعترفوا بأنّهم كانوا جميعا يعتزمون "الحرقة" وبأنّهم دفعوا للوسطاء آلاف الدّنانير وبأنّ أحد أفراد العصابة العاملة على تهريبهم كان هو. أمّا آخر نكتة تداولتها الألسن في باب تونس فتقول إنّه، حين حوصر ولم يجد منفذا للهرب، صار يغنّي لحرس الحدود "الورد جميل" و"يا قمرة الليل إضوي عليّ". وأخذ يتظاهر بأنه مجنون وينكر أنّ القارب المطّاطيّ قاربه.

... وتمتلئ سقائف بيوتنا بأخبار مهموسة، مأخوذة من مصادر مجهولة الهويّة غامضة النّوايا. هنا أخبار لا عارف يرتّبها أو يضبط شكلها، ولا أمين يكشف عن جذورها أو يتأكّد من صحّتها، تفيد بأنّ الرّجل صاحب ذكاء مفرط، وبأنّه لم يجد كيف يوظّف عبقريته في تعميم الخير على أهله، فاختفى عن الأنظار وتفرّغ لاستنباط حيل مبتكرة يزرع بها بذور الشّر حيثما مرّ. فإذا جرائمه أوفر عددا من أن تحصى وأكثر تنوّعا من أن تحصر في مجال.

وهكذا، فإنّ عصابة سرقة الغسيل من الحبال وخطف الحلوى والقطع النّقدية الصّغيرة من أيدي الأطفال... هو. وعصابة "الحرقة" الوهميّة، تلك التي تتحيّل على الشّبّان الحالمين بعبور الحدود فتسلبهم أموالهم ثمّ لا تفي بتعهّداتها تجاههم... بالتّأكيد هو. وعصابة سرقة السيّارات، وتهريبها عبر الحدود أو تفكيها قطع غيار... أيضا هو. والمتحيّل الذي يتنكّر في زيّ رجل أمن للإيقاع بضحاياه من المواطنين الأبرياء... لا محالة هو. وفتاة الإثني عشر ربيعا، تلك التي اغتصبت وقتلت خنقا بلفّ رأسها في كيس بلاستيكي، والتي ما يزال البحث عن قاتلها جاريا... كذلك هو. وجثة المرأة التي عثروا عليها على قارعة الطّريق مشوّهة الوجه مهشّمة الجمجمة... طبعا هو. وتهريب البضائع الممنوعة عبر الحدود، وخطف الأطفال للمطالبة بالفدية، وسرقة الدّراجات النارية، وتعهّد أوكار الخناء في الأحياء الشعبية، وسرقة نـحاس الكهرباء، التي صارت موضة العصر، كلّ هذا لا يمكن أن يكون إلاّ من تدبيره هو.

عجبا لرياح باب تونس، تهبّ فتحرّككم في كلّ اتّجاه تشاء. أما كنتم تشيدون باستقامة محمّد الأمجد بريقشة وأمانته وحسن أخلاقه وتعفّفه عن أيّ امتياز يمكن أن يحصل عليه دون وجه حقّ؟

هل يمكن أن يصبح الفتى، بين عشيّة وضحاها، رمزا لكلّ أنواع الانـحرافات التي يدفع إليها الفقر والكبت والبطالة ؟
هل يعقل أن تجعلوا منه مشجبا تعلّقون عليه كلّ الجرائم التي ارتكبت في المدينة منذ اختفائه والتي عجزت الشّرطة حتّى اليوم عن كشف مقترفيها ؟

... تسري الأسئلة في الرّبط. تتدافع، تعبر الأزقّة، وتجوب "الحْوِمْ". ثمّ تعود إلى باب تونس. فإذا الحُبَيْبات قبابا تكبر وتكبر. وإذا من الأسئلة أجوبة جاهزة تفيض عبر أبواب المدينة. وإذا الأسرار كلّها خارج الأسوار. ويا فضيحتك يا للّة، يا خدّوجة، يا امرأة بريقشة، يا أخيّة الصّمت. الكلّ يسمع ليتكلّم بعد ذلك، فيُنقص من هنا و يزيد من هناك. إلاّ أنت وأنا، فنسمع لنغصّ بما يصطخب من أفكار وهواجس في رأسك ورأسي.

*****

استوطنت العاصفة في زقاق بريقشة. فإذا دوّامتها تسكن مباشرة في دماغي. وإذا أنا لا أنقطع عن التّفكير ليلا ولا نهارا.

كنت أولى من سمعت بتوقيف محمّد الأمجد بريقشة. ومنذ أعلمتنا الشرطة، صار باب دارهم مفتوحا صباحا مساء، والزّائرون بين قادم ومغادر. أمّا أنا، فقد كان من الطّبيعيّ أن أرابط من يومها بحذاء للّة، أفتح الباب كلّما جاء زائر، وأدفع الكرسيّ المتحرّك جيئة وذهابا بين غرفتها والسّقيفة.

كنت أجلس إلى جوارها وأسمع. وتسمع هي، ولا تجيب أحدا، ولا حتّى بإشارة أو بحركة من عينيها. وحين ينصرف الزّائر، أعود بللّة إلى غرفتها. فتشير إليّ بعينيها، فأساعدها، فتنزل من الكرسيّ وتستلقي على الحشيّة المفروشة على الأرض. وعندها فقط، تدفن رأسها تحت المخدّة وتنخرط في البكاء لا تنقطع عنه. وأجلس أنا على عتبة غرفتها، أدير لها ظهري متظاهرة بعدم سماع نشيجها.

هبّت رياح موت وبعث محمّد الأمجد بريقشة على باب تونس هبوبا لا تعادل عنفه إلاّ عاصفة موت الرّايس النّاصر الجعيّد. كلمات نشأت ريحا معكوسا ثمّ راجت لتصبح شغل المدينة الشّاغل، كما حدث من سنين، حين أمر الطّبيب بتشريح جثّة سيدي النّا... في تلك الفترة، سرت في المدينة إشاعتان. واحدة تزعم أنّه انتحر، والأخرى تلمّح إلى أنّ غريما كان ينافسه على عشق امرأة متزوّجة، دسّ في خمره عقارا غامضا يقتل على مهل. ولكن هذه حكاية أخرى.


هبّت رياح موت وبعث محمّد الأمجد بريقشة على باب تونس. فلا حديث اليوم في المدينة كلّها من الرّبط إلى حومة الشّراقة، ومن السّواني إلى القرّاعيّة وسطح جابر، ومن سقانص إلى العقبة وتخوم خنيس، إلاّ عن ولد بريقشة الذي بعث من جديد. كانت المدينة كلّها تعتقد أنّها طوت نهائيّا صفحة محمّد الأمجد بقبول عزائه. فقد كنّا جميعا بكيناه، وتحسّرنا على جماله وشبابه ونبوغه. وتهيّأ لنا أنّنا بذلك ساهمنا في دفع ضريبة عجزنا عن افتكاكه من مخالب البطالة والخصاصة والكفر بالسّراط المستقيم، ضريبة فشلنا في إبعاده عن الوسواس الخنّاس الأمّار بركوب البحر على زوارق "الحرقة". ولأنّه قيل إنّ محمّد الأمجد قد لحق بوالده الرّايس الحبيب بريقشة في أعماق البحر، فقد تخيّلت المدينة قبرا دفنته فيه افتراضيّا، واستراح الجميع. وعاد الأهالي إلى رتابة عيشهم اليوميّ، متّفقين على كلّ شيء، مسلّمين أمرهم إلى حياتهم في كنف الاطمئنان. يعترضهم في الطّريق من أمثال محمّد الأمجد بريقشة العشرات فلا يتعرّفون عليهم. وحتّى إن تعرّفوا على بعضهم فإنّهم يقطعون الطّريق لمتابعة سيرهم على الرّصيف المقابل ويعودون إلى بيوتهم مطمئنّين إلى أنّ "الرّيح لبرّة وبعيد" وأنّ العدوى لا تصيب إلاّ الآخرين.


ولكن، ها أنّ الرّجل يعود إلى الحياة فجأة. فإذا الأهالي يختلفون في شأنه. شِقّ يلوذ بالصّمت ويقول "سبحان الله، يحيي العظام وهي رميم". وشقّ لا ينام الليل من هول المفاجأة. هذا يزعم أنّ ظهور محمّد الأمجد بريقشة من جديد سيفضي إلى حلّ كلّ المشاكل العالقة. وذاك يدّعي أن محمّد الأمجد بريقشة هو أصل المشكل، وأنّه لو بقي دفين الأمواج لكان كلّ شيء بقي في كنف ستر الله.


فسبحانه، يفتح الجرح القديم بعد اندماله على تعفّن. ويَجري المشرطُ في دمّل عظُم، فينفقئ، ويخرج قيحه، وينفتح اللحم الحيّ للرّياح. لا يهمّ إن كان الهبوب مطهّرا أو إن كان حمّال جراثيم جديدة تزيد العفن تعفّنا. فسبحانه ربّ العاطلين، ربّ الحائرين، ربّ الحانقين، ربّ الخائفين، ربّ المنتظرين، ربّ اللاّمبالين، وربّ الآخرين... يطلق الألسنة من عقالها. فيهبّ الكلام خروجا من الأزقّة والأنهج ويتدفّق نـحو باب تونس ليعيد صدى الرّيح القديم إلى خارج الأسوار. سبحانه، يحيي العظام وهي رميم، ويعيد إلى دار بريقشة جحافل الزّوّار. فلا تعرف إن كانوا يأتونها مهنّئين أم معزّين، متعاطفين أم شامتين، مخاصمين أم معتذرين.


هبّت رياح موت وبعث محمّد الأمجد بريقشة على باب تونس. فانتفى الصّبر من المدينة. وراح كلّ واحد يسابق السّاعة سعيا إلى ترتيب الخرافة في ذهنه قبل أن تقول المحاكم قولها الفصل. معلومات شحيحة ولكن واضحة تتجوّل خلسة من هنا، وأخرى يشوبها اللبس تتدفّق جهرا من هنا وهناك. والأهالي "ذراعك يا علاّف". كلّ يتنسّم الأخبار من كلّ القنوات. هذه الجرائد تنتقل من طاولة إلى طاولة في المقاهي، وهذا كلام تتناقله الأفواه والآذان، وهذه رسائل قصيرة تتبادلها الهواتف الجوّالة، وهذا بريد رقميّ ينتقل بين الحواسيب عبر شبكة الإنترنت. الكلّ يقرأ والكلّ يحلّل ويتنبّأ ويربط أحداث اليوم بأحداث الأمس ويستنتج ما سيستقرّ عليه الأمر غدا.


والقريب القريب يأتي إلى باب تونس على أطراف الأصابع. هذا لأداء وجب ثقيل، وذاك ليرى بعينيه ما لم تصدّقه أذناه، وآخرون يأتون لرمي صنّاراتهم. فمن يدري لعلّهم يظفرون بصيد. هذه راضية بنت كحلة، مثلا، جاءت تعود صديقتها لأوّل مرّة منذ صدمتها بخبر حمل عيشوشة، حسب دعواها، من محمّد الأمجد:


- والله، يا خدّوجة، ما حسبت هذا يصير عليك وعليّ. أنت أختي وأكثر. والله يعلم كم تمزّق قلبي عليك. مصيبتك ومصيبتي واحدة. كان ينبغي أن تشدّ كلّ منّا أزر أختها، لا أن نزيد الجرح عمقا بالقطيعة. الحمد لله الذي أخرج وجهينا للنّور، على كلّ حال. السّجن خير من الموت، و"الحيّ يروّح"... سمعت أنّ الحكاية فيها "كاباس". لماذا، يا خدّوجة، لم تقولي لي هذا من البداية، من قبل أن يفكّر ولدك في "الحرقان". سي النّاجي "واصل" وعنده "الأكتاف". كلّهم يبنون، وكلّهم يلجؤون إليه لشراء موادّ البناء بالتقسيط. لو تكلّمتِ من البداية لفُضَّ المشكل من قبل أن تهبط علينا الكارثة...
وهذا عامر "البينو" جاء، هو الآخر، ليرى خالته لأوّل مرّة وهي في كرسيّ متحرّك:


- "بحرام ذراعي"، يا خالتي، ما سمعت بمرضك. قالوا إنّهم عثروا على محمّد الأمجد، فجئت أبارك وأهنّئ. ورحمة قميرة، يا خالتي، ما كنت أظنّ أنّني سأجدك جالسة هكذا في كرسيّ متحرّك. سأتفاهم مع رشيدة، وسآخذك إلى أحسن الأطبّاء. أنت امرأة طيّبة وستشفين.


وهذا الكاباس، يا خالتي، "بحرام ذراعي" ما كنت أظنّ أنّه يشترى ويباع في السّوق السّوداء. مجدة أخي، ولو قلتم لي من البداية، لدفعت لأشريه له من مليون إلى عشرة...


أمّا عن سانية صوّانة التي ربحتها بالمحكمة، فلا تحملوا همّها. "بحرام ذراعي"، يا خالتي، ورحمة قميرة، ما دام قد ظهر أنّ أخي مجدة حيّ، فالسّانية حرام عليّ حلال عليه، إذا كانت هذه رغبته طبعا. أنا مستعدّ للتّنازل له عنها. فقط أسترجع ما خسرته ولا أربح فيها دينارا. يشتريها منّي برأسمالها وأنا أبيعها له في الحال.


وهذان شابّان لا أعرفهما ولم أرهما في باب تونس قبل الآن. قالا إنّهما رفيقا محمّد الأمجد في نادي السّينما. ولكن يظهر أنّهما قليلا حياء. فقد جاءا هذا الصّباح لزيارة للّة، ولكن لرمي صنّارة كالآخرين:


- ربّي يفرّج عليك يا للّة خدّوجة. محمّد الأمجد صديقنا. نـحن نعرف أنّه بريء من كلّ التّهم التي تروّجها الإشاعات بشأنه. المشكلة ليست في "الحرقان"، بل في الكاباس. هذا هو الموضوع الأساسي. وكلّ ما تبقّى، يا للّة خدّوجة، حديث "تراكن" وهامشيّات. محمّد الأمجد نفسه كان ينوي اقتراح سيناريو شريط وثائقي عن هذا الموضوع.


لأوّل مرّة، يا للّة خدّوجة، تنتظم أيّام قرطاج السّينمائية ولا يسافر هو معنا إلى العاصمة. كلّ السّينمائيين الهواة، لم يكن لهم حديث، ونـحن نستعدّ للسّفر، إلاّ عن غياب محمّد الأمجد بريقشة عن هذه الدّورة.


لهذا قرّرنا أن نكرّمه بأن نصوّر الشّريط الذي كان يحلم به. وسنكتب في "الجينيريك": "الإهداء إلى محمّد الأمجد بريقشة الذي حلم معنا بتصوير هذا الشريط".


كلّ الهواة سيسألوننا عن محمّد الأمجد. نريد أن نعلن لهم عن مشروع الشريط أثناء المهرجان. لقد رأينا أن لا نسافر قبل أخذ موافقتك. وها نـحن في بيتك، يا للّة خدّوجة. حضورك في بعض لقطات من شريطنا على كرسيّك المتنقّل، سيزيد عملنا قوّة ومصداقيّة، ستكونين مؤثّرة جدّا وأنت لا تستطيعين الكلام للإجابة عن أسئلتنا... سيكون...

... للّة هناك، متجمّدة في كرسيّها المتحرّك، كقطعة من رخام لا تعبّر ملامحها عن شيء. وأنا هنا في السّقيفة أفتح باب الدّار عريضا وأشير عليهما بالخروج وهما لا يفهمان. أكاد أنفجر ولا يخرج لي صوت.
ما الذي بقي أن تصنعيه بنا يا رياح باب تونس ؟ كنّا نكرات نعيش في زقاقنا والصّمت يغطّينا ويستر عيوبنا. فإذا الفجائع تخرسنا، وإذا الجرائد تفضحنا، وإذا الإشاعة تنهش لحومنا. ولم يبق غير أن تصوّرنا السّينما وتفرّج في مآسينا الخلق. ملعونة أنت يا رياح باب تونس.

الهكواتي .../... يتبع

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

القصة والتراث

تكريم الهكواتي

أنا أيضا ... حوماني