بوصلة سيدي النّا... اقرصيني يا أميمتي

سنتي على جناح السّرد 31 من 53 // بوصلة سيدي النّا... 1 من 23– 3 أكتوبر 2008

المسلك الأوّل : قطبيّ نجمي
الوجهة الأولى : اقرصيني يا أميمتي


"علاقة هذا بالواقع محض خيال"- الهكواتي


انتهى الحلم.
انتهى.
أنا أعرف أحلامي تمام المعرفة. أحلم في اليقظة وأحلم في المنام. وأحلامي منظّمة دائما بإحكام، وفق بناء دراميّ محبوك.


أنا أسيطر على أحلامي تمام السّيطرة في اليقظة، ككلّ الذين يحلمون وأعينهم مفتّحة، ومن حولهم الحياة تتركهم على ضفافها وتجدّ في سيرها، أنهارا وسواقي. فلا هي تخطئ مجراها ولا هم يشعرون بأيّ رغبة في متابعة سعيها المسعور، كما لو أنّها لا تعنيهم في شيء.
أمّا في المنام فهناك قوى خفيّة لا تضاهي مهارتَها عبقريّةُ أكبر كتّاب السّيناريو، هي التي تتولّى أمر أحلامي، فلا تترك لي مجال التّحكّم في سير أحداثها. إلاّ أنّني، وإن فشلت دائما في اقتناص لحظة انطلاق الحلم وانسياقي معه، فأنا غالبا ما أتفطّن، قبل أن أستيقظ، إلى أنّ الحلم على وشك أن ينتهي. فأستعدّ لتأمّله وهو ينطفئ كشمعة اكتمل تفحّم فتيلها، أو يغيم كمشهد سينمائيّ يتدرّج من ساطع النّور إلى حالك الظّلمات، أو ينهار في صخب عارم كصرح شامخ يدكّه الزّلزال، أو ينكتم متلاشيا ببطء كنداء غريق غمره الموج وسحبته الأعماق...
... سكنت أمواج الليل من حول المائدتين. وهبّت أنوار القرّاعية تعانق على صفحة الماء أنوارا آتية من المارينا والوسطانية. وتهيّأ لي أنّني، من حركة عناق الماء للماء، في وسطها. يغمرني النّور السّائل من كلّ جهات البلد، أو يسند ظهري إذ ألتفت إلى الدّيجور، والأفق سواد لا تميّز ماءه من سمائه... ثمّ تهيّأ لي أنّني لست في الماء ولكن فوق الجبل، متفرّجا على العناق من فوق المائدة الكبرى، تصليني جمرات الليل الحالكة ويستبدّ بي التّوق إلى السّباحة. العرق يبلّلني والماء من حولي وما من طريق إلى الغطس ...

انتهى الحلم.
انتهى.
أنا أعرف بالتّعوّد متى وكيف يستسلم الحلم إلى نهايته المحتومة. هناك علامات لا تخطئ أبدا. ومن الواضح في هذه اللحظة أنّ الحلم انتهى، وأنّني سأستيقظ منه قريبا جدّا وسأشرع في رواية تفاصيله لأمّي العجوز.
وحدها خدّوجة تعرف كيف تؤوّل أحلامي بما يخفّف من حزني وانكساري، ويهوّن عليّ مجابهة ساعات اليقظة المرعبة. وربّما أعادت لي بتأويلها بعض الأمل. فأشرع هكذا في ملء فراغ نهاري بمزيد من أحلام اليقظة، أو بالغوص في كتاب جديد أستعيره من المكتبة العمومية. فالقراءة مهربي الوحيد. ولا مناص من الهرب من مجالس لغو العاطلين في "السّاباط" ومن حلقات تكحيل العيون بقدود التّلميذات أمام المعاهد ومن مقابلات "البيلوت" وخصوماتها الكلامية العقيمة فوق دكّانة "السّاباط" أو في المقاهي.
أنا متعوّد على أحلام تستغرق أحداثها شهورا طويلة أو حتّى بضع سنين. يمكن لي أن أروي، مثلا، حلما رأيته في قيلولة قصيرة، ولكنّ أحداثه تمتدّ على فترة أحدّدها بكلّ دقّة، من يوم كذا في شهر كذا من سنة كذا، إلى يوم آخر في شهر آخر من سنة أخرى. كلّ ذلك والحلم خفيف الوطأة واضح التّسلسل سهل الاسترجاع. ولكن هذه أوّل مرّة أشعر فيها بأنّ حلمي يطول ويثقل ويتشعّب ويتمطّط إلى ما لا نهاية.
يتوالى عليّ الليل والنّهار دوالا، وأنا هنا، في نفس اللحظة الزّمنية، وفي نفس النّقطة من عرض البحر. يحملني الماء كرها والبحر لا هائج ولا ساكن وأنا كالمشلول لا أغرق ولا أجد القوّة على الانطلاق. هذه أوّل مرّة ينتابني فيها القلق وأنا في الحلم. أمتنع عن الخروج منه خشية أن يحدث شيء إيجابيّ ما في غيابي، فأندم على عدم حضوره. وأريد أن أستيقظ، فلا أجد إلى الواقع سبيلا.
...فجأة لمعت في السّماء نجمة القطب تسمو ببريقها فوق كلّ النّجوم الأخرى، تغمزني مبتسمة تهبني نفسها كعذراء جائعة تعلن شهوتها ولا تستحي. وأنا خائف من أن أستجيب لأتون رغبتها...


...وفجأة بدأ الشّك ينتابني في أنّني أحلم. وهذا هو طرف الخيط المؤدّي إلى نهاية الرّؤيا. تفطّنت إلى أنّني أعيش مشهدا يكاد يكون مقتطعا من قصّة أعدت قراءتها منذ أقلّ من شهر. لعلّها قصّة سودانيّة. بل هي بالتّأكيد ، "موسم الهجرة إلى الشّمال"، رواية الطّيّب صالح. والمشهد بالتأكيد مشهدها الأخير، حين يترك الرّاوي وراءه بيت مصطفى سعيد ويقطع النّيل سباحة من ضفّته الجنوبية نـحو ضفّة شمالية، متوقّفا في منتصف المسافة بين الضّفتين...
أنا دائما أحلم بأنّني أعيش مشاهد ممّا أقرأه من نصوص أدبيّة في النّهار. فلقد سبق لي أن لبست ثوب القائد المغربي في "عطيل" شكسبير، لأعيش كابوس اكتشافي خيانة ياقو وبراءة عيشوشة، ديدمونتي الوفيّة، بعد قتلي إيّاها خنقا بيديّ هاتين، في غرفة جدّتي.
كما سبق أن رأيتني أعيش أحداث "حديث الكلب"، عوضا عن "أبي هريرة" المسعدي، فوجدتني طريح الصّخور أسعى إلى حتفي في إحدى الغرف البونيّة المنقورة في صخر جزيرة الغدامسي، وأهذي بالمقولة الشّهيرة : "أوهكذا يزنى الدّهر بالأمل البكر؟" فأشعر بكهلان يتّخذ ملامح عامر "البينتو"، ابن خالتي قميرة، محاولا إيقاظي من غيبوبتي. وأنا أصرخ فيه : "دعوني ... يا أوضع من وهاد... يا أضعف من عباد ... يا أحقر من بعوض، يا بني الإنسان".
إلاّ أنّني لا أحلم مثل هذه المشاهد كما قرأتها أبدا. بل إنّ القوّة الخفية المتحكّمة في أحلامي، تصوّر لي أحداثها في محيطي الطّبيعيّ، ملتصقة بواقعي الشّخصيّ أشدّ الالتصاق، فأكاد أصدّق أنّ هذه الأحداث لا يمكن أن تصير إلاّ عليّ أنا، ولا يمكن أن تدور في مدينة غير مدينتي أنا.
... كانت الحركة منطلقة كهبّة أمل، ثمّ تجمّد المشهد فجأة. فوجدتني أرى في منامي، لأوّل مرّة، ألاّ شيء يحدث من حولي. وأوقن بأن لا شيء سيحدث إطلاقا. وتهيّأ لي أنّني انتقلت من عرض بحر القرّاعيّة ليلا إلى عرض بحر السّواني والشمس في كبد السّماء. ورأيتني في نقطة الوسط تماما بين حجرات الأجفان غربا وجزيرة الغدامسي شرقا ومنتزه الفالاز جنوبا، أتردّد في اتخاذ قرار بشأن الاتجاه الأسلم للوصول إلى برّ الأمان.
حرارة الشّمس تثقب رأسي. أنا خائف من أن أسقط في سوء التّقدير، فأجد المسافة بعيدة جدّا ولا أصل إلى أيّ من هذه السواحل الثلاثة. سأندم عندها على أنّني لم أطع الرّغبة الجنونيّة التي تملّكتني بالليل في اتّخاذ الماء والظّلمة كفنا، والاتّجاه شمالا، سعيا إلى بلوغ الأفق كما يفعل الآخرون.
من المعروف عن الأحلام أنّها حركة دائبة وأحداث متسارعة. فمن ذا يصدّقني إذ أقول إنّني الآن أحلم صورة ثابتة على شاشة لا تنقصها إلاّ عبارة "نعتذر عن انقطاع البثّ" ؟
الصّورة أنّني مشلول، أطفو على موج مشلول، وأرنو إلى أفق مشلول، ولا أستطيع السّباحة في اتجاه أيّ من اليابسات ورائي ولا على جانبيّ. ويستبدّ بي الهلع. يا خوفي من أن تكون اليابسة قد شلّت هي الأخرى، مثلي.
- اقرصيني يا أميمتي. اقرصيني حتّى أستيقظ من هذا الكابوس. أو اقرصيني حتّى أتأكّد من أنّني أفقت أخيرا.

*****

... وجه خدّوجة الجعيّد أخيرا. وعيناي تنفتحان. أخيرا بسمة "دي جي"، أميمتي. بسمة حزينة قلقة. تتصنّع راحة البال. تحاول أن تبثّ فيّ الأمل. شفتاي تنفرجان. بسمة تجيب بسمة. حزن يخفي حزنا عن حزن. قلق يوهم قلقا بألاّ داعي للقلق.
- كنت أصرخ في المنام "أقرصني يا أميمتيي". هل تصدّقين ؟
- طبعا أصدّقك يا كبدي. ولكن، من قال إنّك لست تحلم بأنّني قد استجبت لصراخك فقرصتك، وأنّك قد استيقظت ؟
وضحكت أمّي. تريد بضحكتها أن تجرّني إلى الضّحك، أنا الآخر. هكذا أمّي دائما تمزح وكأنّها تقرّ حقيقة ثابتة. فمن يثبت لي أنّني قد أفقت فعلا ؟
كم مرّة حلمت بأنّني أحلم وحلمت بأنّني أستيقظ، وبأنّني أحكي حلمي لأمّي. وبينما أنا في ذروة إيماني بأنّني أعيش واقعا مختلفا، كلّه تفاؤل وأمل، وأحتفي به وأمّي، في منتهى البهجة، وإذا واقعي الأزليُّ المرُّ يقتحم عليّ احتفالي، فيوقظني موصدا في وجهي أبواب الأفق من حيث فتحها الحلم.
- انتصف النّهار. أفلا تنهض أخيرا يا مجدة يا وليدي ؟ على الأقلّ لتتفقّد... إن كنت ما أزال حيّة، أم التحقت بسي الحبيب وسيدي النّا... ؟
- رحمهما الله يا أميمتي، وأبقى لي "الدي جي" متاعي، أحسن خدّوجة في باب تونس، بل في الرّبط بأسره. ما الذي ذكّرك هكذا بموتانا ؟ ولماذا هذا الفأل الأسود على صباح ربّي ؟
أعرف أمّي جيّدا. إذا بدأت تحكي لي عن المرحوم أبي سي الحبيب، أو عن المرحوم خالي سيدي النّا...، فمعناه أنّها في ضائقة مالية، وأنّها تتحسّر على زمان لم يكن فيه أحد منهما يتركها تعبّر عن حاجة. ومعناه أيضا أنّ أختي رشيدة قد خرجت هذا الصّباح ولم تترك لها ملّيما واحدا، وأنّها في النّهاية تلومني بصفة غير مباشرة على أنّني لم أذهب إلى مكتب تشغيل الإطارات لأتفقّد... ما إذا وجدوا لي حلاّ.
تريد حلاّ،"دي جي". أنا أيضا أريد حلاّ ولكن... ستّ سنوات والسّابعة بعد أيّام، وهي لم تفقد الأمل بعد في مكتب تشغيل الإطارات هذا. ولولا علمي بأنّني سأجرح مشاعرها، لقلت لها إنّني أفهم تلميحها، وإنّ العودة إلى هذا الموضوع أصبحت ترهقني، حتّى وإن كانت مجرّد تلميح، لأنّها تشعرني بالمهانة، وإنّني أكثر منها قلقا ألف مرّة، وإنّني لم أعد أطيق هذا الوضع، وإنّها قد تستيقظ ذات يوم، فتجدني قد مزّقت هدومي وخرجت من باب تونس أحمر عريان وتركت الصِّبْيَةَ يتحلّقون من حولي تحت السّور ويرقصون حتّى أجنّ فعلا أو يفعل الحاكم بي ما يشاء.
ولكنّني كبتّ انفعالي ورسمت على شفتيّ ابتسامة تريد أن تكون حالمة لذيذة. وهممت بأن أحكي لها حلمي.
- ما لابتسامتك حزينة يا الأمجد ؟ ما الذي رأيت في المنام فأزعجك ؟
لا شيء يخفى عن خدّوجة الجعيّد. مهما رسمتَ من أقنعة باسمة على وجهك، فإنها ستراه بقلب الأمّ، لا بعينيها وحدهما، وستجده عاريا من كلّ قناع. كيف ستحكي لها عن حلمك بعيشوشة بنت العجل إذًا ؟
سأبدأ بالمهمّة التي كلّفني بها سيدي النّا... ولمّا أصل إلى عيشوشة سأحكي لها تلميحا أو أكتم عنها أمرها تماما :
- لا ... لا شيء مزعج يا أميمتي. ولكن هناك مهمّة رأيتها توكل إليّ في المنام وأريدك أن تفتيني فيها. فلا يمكن إلاّ أن تكون في غاية الأهمّية.
- عيشوشة ؟
- ما لك تتوتّرين هكذا، يا "دي جي"؟ دعينا من عيشوشة الآن. إنّه سيدي النّا...
... نائم في غرفتي، في غرفة جدّتي منّانة التي أصبحت غرفتي وحدي منذ توفّي سيدي النّا... الباب نصف مفتوح. الليلة مقمرة والنّور رواق، يربط بين فناء الدّار وباب الدّكّانة التي أنام عليها. النّور يرتقي، يعبرني ويمرّ فوق الإزار حتّى يبلغ صورة جدّي، سيدي البحري بريقشة، المعلّقة على الحائط في عمق الدّكّانة. صورة كالحة بالأبيض والأسود لرجل لم أره في حياتي ولم يكن يتصوّر وهو حيّ أن تحبل بنت الجعيّد بعد موته بأقلّ من شهر، وأن تضعني أنا.


غالبا ما يدخل الحلمُ فضاءَ واقعي وأنا ما أزال مفتّح العينين، أتأمّل هذه الصّورة التي حافظت عليها جدّتي منّانة في مخدعها. أتصوّر سيدي البحري بريقشة يخرج من الإطار في الليل ويخلع كدرونه ويندسّ تحت الغطاء ليؤنس وحدة جدّتي حتّى الصّباح. وقبل أن أتصوّره يعود إلى الإطار، صورةً كالحة كما كان، أجدني قد غرقت في الحلم من حيث لا أدري.
... هذه المرّة، دخل الحلم من باب الغرفة. وقف في رواق النّور القمريّ المتدفّق من الفناء. حجب عنّي صورة جدّي. التفتّ فجأة. كان سيدي النّا... يدعوني بحركة من يده، ويضع سبّابة يده الأخرى على فمه طالبا منّي السّكوت. كنت شبه واثق من أنّه حلم يقظة. ولكنّني قمت ونزلت من الدّكّانة واتّبعت خطى سيدي النّا... اخترقنا الفناء وأنا لا أكاد أصدّق أنّني أحلم. كان السّلّم مسندا إلى الجدار حذو مدخل السّقيفة. ارتقى سيدي النّا... السّلّم. أشار عليّ باتّباعه إلى فوق. فعلت. أشار إلى غرفة السّطح :
- افتحها يا مجدة.
- ليس عندي مفتاح.
- اخلع القفل إن لزم الأمر.
- الناس نيام. أخشى أن نوقظهم هكذا.
- اخلعه غدا أو بعد غد. هذا لا يهم. وافتح الباب. ستجد أشياء احتفظتُ بها من زمان. كلّ ما تجده هنا فهو لك. بعه إن شئت. فربّما حصلت به على بعض المال. إلاّ البوصلة القديمة، فهي ليست لي أصلا. ابحث عنها جيّدا وستجدها.
صاحبها أستاذ فلسفة من جماعة اليسار. قال إنّه من تازغران أو من الهوّاريّة أو لست أدري من أيّ قرية من الوطن القبلي. لقد طال عليّ العهد الآن. قصدني في الميناء في ساعة مبكّرة من الصّباح وأنا أتهيّأ للإبحار بزورقي الصّغير. صارحني بأنّه كان هاربا من الشّرطة وأقسم لي أنّه كان بريئا. كان يبدو من ملامح وجهه أنّه متعب لم ينم، وأنّه فعلا بريء. لذلك اطمأنّ له قلبي. طلب منّي أن أهرّبه إلى الشّواطئ الجنوبيّة فقبلت. وحين أوقفني في عرض سواحل الشّابّة واستعدّ للغوص حتّى يصل اليابسة سباحة كما طلب منّي، وضع البوصلة في يدي ورجاني أن أوصلها إلى من إذا غنّيت له "الورد جميل" فتح صدره هكذا ليكشف عن مثل هذا الوشم.
وفتح سيدي النّا... أزرار قميصه. فإذا على صدره وشم لا أستطيع أن أصفه، ولكنّه انطبع في ذاكرتي بحيث يستحيل عليّ أن أنساه. ثمّ مدّ لي يده مصافحا فضغط على يدي بقوّة وقال :
- عاهدني على أن تصدّق الرّؤيا. عاهدني على أن تقوم بالمهمّة ولو تطلّب منك العثور على صاحب البوصلة أن تفتّش تراب البلد كلّه، شبرا شبرا.
عاهدته بامتثال من لا يرد لسيدي النّا... طلبا. فتهيّأ لي فجأة أنّنا لسنا على سطح بيتنا ولكننا نتمشّى على الممشى الإسمنتي المؤدّي إلى "الكانار" والفاصل بين بحرَي القرّاعيّة. ضمّني إلى صدره طويلا وقال :
- سأنسحب الآن وأترك لك بقيّة الحلم هديّة منّي. ليتبيّن لك أنّك لم ترني في حلم عاديّ ولكن في رؤيا، عاهدتني على أن تصدّقها وعلى أن تقوم بالمهمّة أحسن قيام.
ما كاد سيدي النّا... ينسحب، حتّى أبصرت، على رمل شطّ المائدة الكبرى، حلقة على رشم الماء، بدت لي فيها وجوه أعرفها. وفي الماء أجسام تطفو وتغطس تحت القمر تبين لي من بينها جسم عيشوشة بنت العجل وهي تهبّ من تحت الماء، وتقصد الحلقة جريا، و...
- لا... عيشوشة لا... إن شاء الله خير يا كبدي... إن شاء الله خير ... قلت لك رجاء يا وليدي. لا ... لا تحلم بها فلا عائلتنا كفؤ لعائلة العجل ولا هي بنت لك. أمّا عن حكاية البوصلة فهي أضغاث أحلام لا أكثر. الليلة، اذهب إلى الجبّانة قبل النّوم. واقرأ فاتحة لروح جدّك وأخرى لروح أبيك. وخصّص فاتحة مستقلّة لسيدي النّا...
كنت واثقا من أنّ أمّي ستغضب لمجرّد ذكري اسم عيشوشة. فلا تصدّق "دي جي" لحظة أنّني أحلم فعلا بعيشوشة. ولكنّها تعتقد أنّني أدّعي الحلم بها لألمّح لها، حتّى تتجرّأ فتخطبها لي من صديقتها راضية بنت كحلة. ماذا كانت ستقول إذن لو علمت بتفاصيل الحلم ؟
... الرّمل تحت رجليّ حرير. وناجي العجل شخصيّا يهبّ بشحمه ولحمه لاستقبالي، تسبقه ابتسامة عريضة لم يرها على وجهه أحد قبلي. وراضية بنت كحلة تقدّمني لضيوفها :
- محمّد الأمجد، ولد الحبيب بريقشة، من جماعة باب تونس. أمّه خدّوجة بنت الجعيّد، أختي الرّوح بالرّوح. مجدة أستاذ كبير. مازال بطّالا. ولكنّه أستاذ حقيقي وكبير، قدّ سوسة والمستير. أعطى دروسا خصوصيّة في العربيّة لعيشوشة. فحصلت على أربع عشرة نقطة من عشرين في الباكالوريا.
بدأت أحسّ بأنّ هذا لا يحدث إلاّ في المنام ولكنّني تذكّرت سيدي النّا... حين قال إنّه يترك لي بقيّة الحلم هديّة منه. فاستسلمت لأحداث هديّته أعيشها بكلّ جوارحي.
عيشوشة، عيشوشتي الحلوة. قدّ ولا قدود عارضات الأزياء. جسم زاده ابتلاله بالماء والتماعه تحت ضياء القمر فتنة. فكاد الجوع يشلّني فأبدو طافئا أمام جماعة المتحلّقين. بسمة رضاء من ناجي العجل. بسمة مقرونة بغمزة من زوجته راضية بنت كحلة. وقهقهة متواطئة من الوجوه الغائمة في الحلقة. ويد عيشوشة تمتد نـحوي معلنة جوعا مثل جوعي.
فجأة ظهر عامر "البينتو" وكارلا بيكولو زوجته الطّليانة، قادمين نـحو الحلقة. وقام ناجي العجل وراضية يستقبلان صديقيهما الوفيّين، نديمي لياليهما الحمراء الشهيرة. فاغتنمت الفرصة وتسلّحت بكلّ شجاعتي وارتميت في الماء. فلحقتني عيشوشة وسبحنا كالحيتان نبتعد بعيدا، بعيدا. حتّى تهيّأ لي أنّنا بلغنا الأفق، وأنّنا في نقطة بين المائدة الكبرى والوسطانيّة، وأنّنا في وسط حركة الأضواء التي يعانق الماء بها الماء،. يغمرنا النّور السّائل من كلّ جهات البلد، ويبارك غطسنا ورقصنا ودوراننا وابتعادنا واقترابنا وعناقنا.
- وهبتكِ بقية عمري ملك يمين لا ألتفت لسواكِ.
- وهبتكَ نفسي قصرا عليكَ، وإلى الأبد.
- عديني بأن تنتظريني حتّى انفراج الكرب.
- بل تقطف الآن زهرتي، عربون ارتباط يلزمني ويلزمك، ويترك الأهل أمام الأمر المقضيّ.
... أخذتها وأخذتني. فسكنت أمواج الليل تبارك عناقنا. وطفت على صفحة الماء زهرة قانية الحمرة، تربطنا إلى الأبد. وفجأة لمعت في السّماء نجمة القطب تسمو ببريقها فوق كلّ النّجوم. فإذا عيشوشة تغيب عن المشهد تماما. وإذا الحلم يتجمّد تماما بعد أن نقلني من بحر إلى بحر ومن ليل بهيم إلى شمس تثقب الرّأس...

- "إن شاء الله خير يا كبدي... إن شاء الله خير..."
كان غضب خدّوجة الجعيّد من إثارة موضوع عيشوشة في المنام منتظرا. أمّا ما لم يكن منتظرا فهو ردّ فعلها على المهمّة التي كلّفني بها سيدي النّا... أن تعتبر كلّ ما يمتّ بصلة إلى البوصلة مجرّد أضغاث أحلام، فهذا يبدو لي غير معقول.
- اقرصيني يا أمّيمتيي. فلربّما كنت أحلم أيضا بأنّني أروي لك حلمي. اقرصيني لأستيقظ. لأنّني إن لم أكن أحلم فمعناه أن العاقبة مرارة وسواد.

الهكواتي .../... يتبع

تعليقات

أريد أن أوجه إليك تحية خاصة أيها الهكواتي الرائع

الحقيقة لقد استمتعت بقراءة نصك هذا و قد أردت أن ابدأ رحلة بوصلة سيدي النا... من بداياتها . رغم علمي المتأخّر بما عزمت عليه من كتابة النصوص باللغتين العربية و الفرنسية كل أسبوع .
واعذرني على ذلك لأنه لم يكن لي سابق معرفة بك أو بما أنجزته في عالم الأدب إلا منذ التقيت بك بمناسبة تكريمك بالملتقى الأول للأدباء الأنترنات ببن عروس أو كما تسميه أنت الأدباء الأنترنوتيون .
الحقيقة أجّلت قراءة نصوصك هذه لحين توفر الوقت اللازم لقراءتها و هو ما تحّحق اليوم.
كما قلت لقد استمتعت بهذا النص الأول وهو ما حفّزني لأكتب هذا التعليق ،و بالمناسبة هذه أول مرة اكتب تعليقا على نص قرأته.

هذا النص أو هذا الحلم الذي يحمل القارئ ليعيشه معك بكامل تفاصيله و يجعله يحلم هو بدوره أحلامه الخاصة الكامنة بداخله و التي تفطن لوجودها بمجرد قراءة نصك هذا.
لقد استوقفتني جمل كثيرة و معاني عديدة:
- كالهروب إلى عالم الحلم الذي هو عالم متناقض مع الواقع ،واقع "الصباط" الغارق في التفاهات
- تلك الرغبة في مواصلة عيش الحلم" خشية أن يحدث شيء ايجابي في غيابي فاندم على عدم حضوره"
- ما أحلى هذه الجملة " ...فجأة لمعت في السّماء نجمة القطب تسمو ببريقها فوق كلّ النّجوم الأخرى، تغمزني مبتسمة تهبني نفسها كعذراء جائعة تعلن شهوتها ولا تستحي. وأنا خائف من أن أستجيب لأتون رغبتها...
- كم هي معبّرة صورة اليائس من الحصول على عمل الذي يرغب في فعل شيئ يحمله لعالم المجانين
- كم هي جميلة أيضا صورة الجد( الذي لم يٌرى قط) يخرج من صورته المعلقة ليؤنس ليل جدته حتي الصّباح.

اشكرك في الأخير على هذا النص الممتع و الشيّق و الذي يشجعني حقا على متابعة كامل انتاجاتك.

ذاكر العكرمي
رئيس مصلحة العمل الثقافي بالمندوبية الجهوية للثقافة و المحافظة على التراث بولاية بن عروس

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

القصة والتراث

تكريم الهكواتي

أنا أيضا ... حوماني