عمّ إدريس في "واب شخصون"

سنتي على جناح السّرد – النّص 23أ من 53 – 11 جويلية 2008


عمّ إدريس في "واب شخصون"

محاولة في السّرد النّقدي (1 من 3)

توطئة :

لكم أن تغضبوا منّي، أيّها الأعزّة، ولكنّني أريد أن أصدقكم القول، وأعترف لكم بذنبي من البداية، على الأقلّ لتسعفوني بظروف التخفيف. وأوّلها صبرُكم على هذه التّوطئة حتى نهايتها.
وإلى حضرة الأستاذ الرشيد إدريس كلُّ اعتذاري، فأنا، مع كلّ التقدير الذي أدين به لعلوّ مقامه مجاهدا كبيرا، في سبيل استقلال هذا الوطن العزيز، ثمّ على درب بناء دولته الحديثة، ومع فائق اعتباري لتجشّمه عناء الكتابة في الحقلين السّياسي بمعناه الشّامل والأدبي بمعناه الأضيق،،، مع كلّ هذا، قلت، فإنّني لن أقدّم هنا كتاب "عم سعيد في باب سويقة". بل أصارحكم القول إنّ أمر هذا النّصّ السّردي لم يشغَلني إلا بصفته وثيقة في ملفّ مؤلّفٍ.
كذلك، لن أقدّم شخص الرّشيد إدريس. فمَن أنا حتّى أتجاسر على مثل هذه المهمّة ؟ فالرّجل من جيل البناء والتّشييد وأنا من جيل التّمتّع بالسّكنى. وهو من جيل الغارسين وأنا من جيل القاطفين الآكلين المتنعِّمين. وهو، على صعيد مختلف تماما، من المدافعين عن القرطاس والقلم بما هما خشخشةُ ورق ورائحةُ حبر، وأنا، على تقدّمي في السّنّ، من دعاة الأخذ بناصية الإنترنت، المؤمنين بفضلها على تطوير الأدب، الخوّاضين غمارَها تجريبا ومحاولة تجديد، والمغامرين في دروبها حتّى حدث لي ما أجدني مضطرّا لأحدّثَكم عنه بدلا من تقديم الكتاب وكاتبه حسب الاتّفاق.
أعترف بأنّ في تراجعي هذا ما يبعث على العجب، خاصّة متى علمتم بأنّني أوّلُ من سعى إلى عقد هذه الجلسة ومن اقترح نفسه لتناول الكلمة فيها، ومن طلب بإلحاح الحصول على نصوص للرّشيد إدريس عسيرةِ المنال، ومن أتعب في تصويرها بعض أعضاء النادي الحاضرين هنا. كلّ هذا من أجل تقديم هذا الإصدار الجديد بالذات. ومع هذا فإنّني للأسف لن أفي بهذا الالتزام.
ولكن، ما دمتم قد تجشمتم مشقّة المجيء، ودعوتم الأستاذ الرّشيد إدريس شخصيّا وتجمّعتم هنا حوله، فإنّي أقترح أن أحدّثكم... عنّي أنا، أنا الهكواتي. وأنا كما يعلم العديد منكم نذرت سنتي الحالية لكتابة السّرد دون سواه. ولكن اطمئنّوا فلن أطنب في الإشهار لشخصي أو لمشروعي الأدبيّ. ولن أتحدّث عنّي إلاّ بقدر ما فرضه عليّ ارتباطي بموقع غامض على الشّبكة العنكبوتية، وجدتني أبحر فيه أسيرا، وعنوانه : دوبلفي آر دي، نقطة، السّالي سعيد، نقطة، هيك.
أعترف بأنّني فهمت من البداية، كما فهمتم ولا شكّ، أنّ السّالي سعيد دمج واضح بين شخصيتي "عم سعيد" و"السّالي"، وكلاهما من ابتكار الأستاذ الرّشيد إدريس في كتابيه : "عم سعيد في باب سويقة" و"السالي هرب". كما أعترف بعلمي أنّه لئن كان ممكنا أن يوجد من الشّبكات السرّية للإنترنت ما يحمل مدخل دوبلفي آر دي، مثلا، فإنّ نطاق "نقطة هيك" هذا، لا وجود له على الواب الرّسمي، على غرار "نقطة كوم" و"نقطة نات" و"نقطة أورق" وغيرها. ولكن، كوني أنا من ابتكرت كلمة "هيك" هذه لإطلاقها في العربية على نوع من الشّعر ذي الجذور اليابانيّة، أو كوني من أُمضي نصوصي باسم الهكواتي، أو كونُ مدوّنتي تسمى ورشة الهكواتي، كلّ هذا لا يثبت عليّ أيّ تقصير أو تواطئ مع أيّ كان.
ذلكم أنّني لم أكن أعلم، إذ نقرت على العنوان المذكور، بأنّ الوصلة تؤدّي إلى موقع حقيقيّ وبأنّ هذا الموقع إنّما أعدّ لإقامة محاكمة غريبة الأطوار، وبأنّني كنت سأقع في الأسر، ضحيّةً لثورة الشّخوص القصصيّة على بعض مؤلّفيها ممّن وجدت كتبهم صدفة على رفوف مكتبتي الشّخصيّة المتواضعة. ولكن، حتّى لا أصبحَ بدوري متّهما بخرق ما ضبطه منظّرو السّرد من قواعد تقنيّة، دعوني أسردْ عليكُمُ الأحداثَ من بدايتها فصلا، فصلا.

الفصل الأوّل : في قبضة قراصنة الواب

"عاجل جدّا... عاجل جدّا ... قرأنا كلّ نصوصك وعرفنا أنّك من المدافعين عن المظلومين والمزمَّرين أمثالِنا. لذلك، اخترناك لتأخذ لنا حقّنا. للاطلاع على قضيّتنا، وحتّى يسلم موقعك ومدوّنتاك من القرصنة، نؤكّد عليك أن تزور موقعنا على الإنترنت بأقصى السّرعة على العنوان التالي : دوبلفي آر دي، نقطة، السالي سعيد، نقطة، هيك. والسّلام من كاتب الجواب عمّك سعيد".
لقد حصل أن ترك بعض زوّار مدوّنتي تعاليق عابثةً من هذا القبيل. أمّا أن يدّعي أحد أنّه "كاتب الجواب عمّي سعيد" والحال أنّ كلّ أعمامي ليس بينهم سعيد واحد، وأن يُقْحِم بين عناوين الواب علامة جديدة يختار لها من بين كلّ الأسماء اسم "الهيك" وهو من مقترحاتي الأدبيّة، فهذا ما جعلني أقدّر أنّ في الأمر مزحة من صديق حميم. لذلكم نقرت دون تردّد على وصلة العنوان، غيرَ عابئ بكونها كانت ملوّنة بالأزرق ومتلألئة. نقرت هكذا، لمجرّد التّأكّد من أنّها وصلةٌ لا تشتغل. وإذا أنا أحصل فجأة على شاشة زرقاء أصابني منها الذّعر، ليقيني أنّني تعرّضت لهجمة من قراصنة الواب واعتقادي أنّهم تمكّنوا من محو كلّ ما كان بذاكرة حاسوبي.
ولكن كم كانت دهشتي حين نهضَتْ من عمق الشّاشة كتابةٌ باللغة العربيّة ترقص بتقنية الفلاش لتقول : "مرحبا بكم في واب شخصون". وما كدت أتأكّد من أنّ الأمر لا يتعلّق بباب سعدون حتّى ظهرت على الشاشة أسطر مكتوبة بالأحرف اللاتينية تتتابع بسرعة جنونية، وتستقرّ من حين لآخر، لتظهر لوحةٌ بالعربيّة تطلب منّي الانتظارَ ريثما يتمّ تنصيب نظام تشغيل لحاسوبي يؤهله للعمل بتكنولوجية "الهيكواب"، أو لتشرح لي أنّ هذا النّظام الجديد باهظُ الثّمن وأنّ تنصيبه على حاسوبي هديّةٌ من عمّي سعيد وأنّني محظوظ إذ أحصل عليه قبل أيّ أحد، أو أنّ نظام "الهيكواب" جاء أخيرا ليزيل الحواجز تماما بين عالمي الواقع والافتراض. وهكذا، إلى أن جاءت أخيرا لوحة بالخطّ العربيّ الفنّيّ تبشّرني بنجاح عمليّة التّنصيب وتدعوني إلى الاستعداد نفسيّا للتّنقّل جسديّا لزيارة عمي سعيد في موقعه أو لاستقبال عمي سعيد بشحمه ولحمه في بيتي في كلّ حين.
بقيت أنتظر مندهشا، غير مصدّق. وما هي إلاّ دقائقُ حتّى أضحت شاشتي نافذة تفتح على عالَم متعدَّدِ الأبعاد. ويظهر فيها مشهد يمثّل صحن دارٍ عربي بسيطةٍ من تلك التي توجد إلى اليوم في حيّ باب سويقة. وإذا رجل لا سنّ له، مبتورُ السّاقين، ظهر في الصّحن "وأخذ يلبس جلاّبيّته البيضاء ذاتَ الخطوط الصّفراء ويغطّي رأسه بطربوش الجلاّبية. ثمّ جلس على خشبته ذات العجلات ووضع صندوقَه وأمتعَته على الخشبة وهمّ بالخروج من المنزل"(عم سعيد في باب سويقة ص62). ثمّ التفت إلي فقرّبَته الشّاشة حتّى غاب عن الصّورة صحنُ الدّار بأكمله فإذا الرّجل يبتسم ويمدّ يده مصافحا ويقول :
- مساء الخير، يا هكواتي، أنا عمّك سعيد جئت أرحّب بك في "واب شخصون" وأشكرك على تلبية النّداء. أرجو أن تتعاون معنا على ما فيه الخير. تشجّع يا رجل ومدّ يدَك إلى داخل الشّاشة وسترى كيف تسهل عليك مصافحتي.
قبل أن أمدّ يدي عبر الشّاشة هممت بقرص وجهي، للتأكّد من أنّني لست أحلم ولكنّني خفت أن أفوّت على نفسي فرصة تجربة جديدة فمددت يدي في الحال لأصافح الرّجل. فإذا يدي تخترق الشّاشةَ فعلا وإذا يدُه دافئة وإذا أصابعُه تشدّ على يدي بقوّة ما حسبت مُقعدا مثلَه يتمتّع بها. قال :
- أتدخل أم أدخل ؟
- إلى أين ؟ قلتُ
يبدو أنّه لم يرد إضاعة وقته في أسئلة وشروح فقرر وحده أن يكون هو مضيّفي. وما هي إلاّ نترةٌ واحدة فإذا أنا أُسحب من مكتبي عبر شاشة حاسوبي إلى صحن دار عربي في باب سويقة الأربعينات من القرن العشرين. وما كدت أحدّد موقعي في الزّمان والمكان حتّى قرأ الرّجل ما خطر ببالي وأجابني موضّحا :
- لا يا هكواتي، لا... لسنا في باب سويقة ولسنا في أربعينات القرن العشرين. ستتعوّد تدريجيّا على طريقة التّفكير الملائمة لوضعك الجديد. إنّما نـحن في عالم الافتراض والتّاريخ شهر جوان من سنة ثمانية وألفين وهذا موقع "السالي سعيد، نقطة، هيك" على "واب شخصون". وحده المشهد على هذا الموقع يمثّل دارا "عربي" في باب سويقة الأربعينات، وتحديدا في نهج الكبدة. فهذه هي الدّارُ التي جعلها الرّشيد إدريس مُقامي في قصّته "عم سعيد في باب سويقة". ولقد أجليت منها كلّ سكّانها ما عدا الزّهرةَ زوجتي الزّنجيّةَ التي هيّأت لك غرفة مريحة والتي ستقوم على راحتك في كلّ ما تحتاج إليه.
- ما هذا ؟ - قلت – أهي عمليّة اختطاف ؟ وما معنى أن تهيّئ لي غرفة ؟ هل أنت تحتجزني أسيرا ؟
- أرجوك – قال – أن تعبّر بشكل آخر. كأن تقول مثلا إنّك ضيفُنا. سنجعل من هذا البيت مقرَّك الافتراضي، يكفيك أن تستحضره في خيالك لتعود إليه من أيّ موقع يمكن أن تتوه فيه، وستقيم بيننا معزّزا مكرّما حتّى تكمل مهمّتك.
- عن أيّ مهمّة تتحدّث – قلت - وما المطلوب منّي ؟
- سيحدّثك عن كلّ شيء – قال- صديقي السّالي. لقد دعوته ليقيم معنا فترة لتسهُل المهمّة علينا جميعا. هو مثلي شخصيّة من إنشاء الرّشيد إدريس. أنت، قطعا، تعرفه.
- بل أعرف الأستاذ الرّشيد إدريس– قلت – أمّا السّالي فلا أعرفه. بل حتّى أنت، لا أعرفك جيّدا. فأنا لم أقرأ بعد أكثر من بعض صفحات من كتاب "عمّ سعيد في باب سويقة" ولست مستعدّا لـ...
هنا قاطعني رجل، نزل لتوّه من الطّابق العلوي. الرّجل يبدو في العشرين من عمره أو كثر قليلا، يرتدي جلاّبيّة مغربية من تلك التي يلبسها بعض حرّاس العمارات بالعاصمة. بيده هراوة غليظة قال إنّه يستعملها لردع اللصوص عن الاقتراب من سوق البركة. كانت هيأته توحي بأنّه هو مدبّر عمليّة اختطافي. فهو قويّ البنية. وقد أراد له مؤلّفُه أن يكون على قدر من الثّقافة فجعله في نفس الوقت طالبا بجامع الزّيتونة. ولقد فهمت، فيما بعد، أنّ إقامته في بيت "عمّ سعيد" لم تكن لمجرّد تسهيل مهمّتي. وإنّما كانت كذلك محاولةً لمواصلة الاختفاء من قوات الاستعمار التي تفطّنت لوجوده داخل المدينة ومازالت تبحث عنه منذ نهاية القرن التّاسع عشر لتنفيذ حكم الإعدام فيه من أجل قتله صحافيّا فرنسيّا صاحَب الحملة الاستعمارية على الجزائر.

الفصل الثّاني : ثورة الشّخوص

تقدّم السالي منّي وصافحني ولخّص لي مهمّتي في بِضْعِ كلمات. فأعلمني بثورة حصلت في مطلع الألفيّة الجديدة، قادتها شخصيات قصصية على مؤلفيها لمحاسبتهم على كلّ نقيصة في بنائها أو تناقض في تصرّفاتها. كما شرح لي ، كيف بنت الشّخوص شبكة إنترنت موازية لشبكة الـ3 دوبلفي، من أجل تحصين هذه الثورة من الاختراق، وكيف أصبحت تقام على بوّابات هذه الشبكة كلَّ يوم محاكمات أدبية بمبادرة من شخوص ترفع على مؤلّفيها قضايا يفصل فيها من عالم الواقع كتّاب ونقاد محايدون. وبيّن لي أنّ الشّخصيات الخيالية في كلّ بلد من بلدان العالم استقلّت ببوابة خاصّة ببلدها، وأنّ بوّابة الشخوص التونسية تسمى "واب شخصون" على وزن باب سعدون. أمّا عن سبب إحضاري من فضاء الواقع إلى هذا الفضاء الافتراضيّ فقال إنّه إجماع الشخوص التونسية على اختياري لأفصل في أوّل قضيّة تقام على هذه البوابة.
ودون أن يسمح لي السّالي بطرح أدنى سؤال، نادى بلهجة حازمة "يا دادا". فهبّت، من غرفة تفتح على الصّحن، امرأة "إفريقية جميلة الوجه مشرقة الابتسامة لينة الحركة تنتقل في البيت وكأنها تستجيب لمن دعاها"(عم سعيد في باب سويقة ص 61) . وما إن وصلت حتّى قال لي عم سعيد :
- أقدّم لك الزّهرة زوجتي. يمكنك أن تناديها أيضا "دادا" كما فعل سي السّالي. اتبعها الآن وستقودك إلى غرفتك.
فتبعت "دادا" وأنا موقن بأنّني وقعت أسيرا في قبضة عصابة وبأن لا فائدة من أيّ معارضة أو نقاش. سبقتني "دادا" إلى الطّابق العلوي وهي تقول بصوت خافت كما لو كانت تبوح بسر تخفيه عن السالي :
- ستفهم كلّ شيء دون حاجة للسّؤال.
أمّا السّالي فكان يلقي إليّ بأوامره من الفناء :
- تأمّل غرفتك جيّدا حتى تستطيع استحضارها في خيالك متى شئت العودة إليها. فهي من الآن صفحتُك الرّئيسيةُ. ولا يمكنك التّنقّلُ على "واب شخصون" دون العبور منها.
كانت الغرفة بيضاء أرضا وسقفا وجدرانا. تماما كصفحة بيضاء، لا أثاث فيها، ولا شيء يميزها عن الصفحة البيضاء سوى عنوان مكتوب في صدر الجدار: "غرفة الهكواتي". ألقيت إلى الزّهرة نظرة متسائلة فردّت قائلة:
- سترى أنك لست أسيرا كما تظنّ، وأنّني سأسهر شخصيّا على راحتك بما يرضيك. ويكفيك أن تتخيّل هنا أيّ نوع من الأثاث أو المرافق حتّى تراني أحضره لك في مثل لمح البصر. المهمّ أنك في الوقت الحاضر لن تحتاج أكثر من هذا.
ثمّ مدّت يدَها بملفّ لم ألاحظ وجوده عندها من قبل. فتحته فإذا به كتابان جديدان أحدهما عنوانه "عم سعيد في باب سويقة" والآخر عنوانه "خيار العمر". كما به أوراق مصوّرة غير مسفّرة عن كتابين آخرين "السّالي هرب" و " أرق على ورق". وكلّها من تأليف الرّشيد إدريس. فكرت في أنني أحتاج على الأقل إلى الجلوس لأتمكّن من القراءة. فإذا "دادا" تدخل بطاولة وكرسي. ولكن السالي هبّ من ورائها يتظاهر بمساعدتها ويلح عليّ في ترك الكتب وشأنها والإسراع بالخروج معه، شارحا أنّ إشارة وصلت من أواسط سنة 1987، من داموس الكرّيطة بقرطاج، تأمره بأن يقتحم قاعة المحكمة في الحال للقبض على المتهم متنكرا في دور ضحيّة.
لم أفهم شيئا ولكنّني قدّرت أنّ الوقت حان لأُسمع السالي كلمة "لا" وأفرض شخصيتي وأعرف بالضبط مكانتي في هذه اللعبة. قلت للسّالي :
- اسمعني جيّدا يا سي السّالي. إمّا أن أكون أسيرا في فضائكم الافتراضي، وإما أن أكون قاضيا لأفصل في قضية كما تزعمون. وفي كلتا الحالين فأنا أرفض مشاركتكم اقتحامَ المحاكم والقبضَ على أيّ كان وافعلوا بي ما تريدون.
أطرق السالي هنيهة وكأنّه يفكّر في ما سمعه منّي أو يستمع إلى هاتف يخاطبه من بعيد. ثمّ ابتسم وقال :
- بل أنت حرّ . وستقتنع بأنّنا لا نـحتفظ بك أسيرا. وإنما نريدك فقط أن تكون قاضيا فتقضي بيننا.
- شرطي إذًا – قلت - أن أجري محاكمة عادلة، لي فيها مطلق الحرية في إعطاء الحق إلى أصحابه والحكم على المذنب ولو كان من استضافني في بيته.
مرةً أخرى، أطرق السّالي مفكّرا. ثمّ أعطاني وعدا بضمان حرية القضاء ضمانا كاملا. وانصرف إلى داموس الكرّيطة. وبقيت وحدي مع "دادا" التي أرسلت إلي ابتسامة تقدير وإعجاب قبل الانصراف بدورها لتركي مركّزا على دراسة ملفّي.

الفصل الثّالث : محكمة الدّاموس

غصت في قراءة مكوّنات الملفّ فلم أتفطّن كيف امتلأت عليّ غرفتي بما لا طاقة لغرفة صغيرة مثلها على تحمّله. رفوفٌ من الكتب ولا رفوف المكتبة الوطنيّة، وعدد لا يحصى من علبِ الأرشيف، ولا مركز التوثيق الوطني، وصناديقٌ مفتوحةٌ مكسّرةُ الأقفال تكشف عن كنوز من الصّور القديمة، بعضها لشخصيات أثّرت في الحركة الوطنية وأخرى لمظاهرات حاشدة أو اجتماعات سياسية وأخرى التُقطت لمجرّد التّأريخ لمنطقة باب سويقة وجامع الزيتونة وبطحاء الحلفاوين ومقام سيدي محرز ولعشرات المقاهي والمدارس ومبيتات الطلبة. كما كان هناك مئاتٌ من عقود ملكية قصور ودور عتيقة وملفاتٌ من محاكم الشّرع، وألبوماتُ صورٍ تمثّل عشرات عواصم العالم. كلّ هذا يتعايش مع مئاتٍ من المقالات والتحاليل الثّقافية عن الموسيقى الغربية والمالوف التونسي والفنون التشكيلية والأدب القديم والحديث العربيّ منه والغربيّ، وأكداسٍ من الوثائق والملفّات الشّخصية وكرَّاساتٍ يعود بعضها إلى سنوات مراهقة صاحبها وأمواجٍ متلاطمةٍ من الأوراق الصّفراء ما كنت لأراها لو لم "يطلع منها فأر يجري ويلُفّ بها لفّا وهو يصيح بصوت حادّ : اسألني عن السّالي، اسألني عن السالي ... حاولت أن أسكته ... لم أستطع نُطقا ...سبحان من أنطق فأرا. وهل ينطق الفأر حقّا. وهل يمكن إسكاتي..." (السالي هرب... ص 15)... "رقص الفأر رقصتين أو ثلاثة واستقر على ساقيه وحدّق فيّ النّظر..." (السالي هرب.... ص16) ثمّ حيّا كما يحيّي الممثلون وقال:
- أنا آسف، يا سيادة القاضي، إن كنت أفزعتك بصراخي. فأنا حاجب المحكمة. ولقد أردت فقط أن أنبّهك إلى ما قد يفيدك في عملك. ولكن دعني أكتفِ بإيقاظِك من شرودك وأرحّبْ بك في المحكمة.
ثمّ تنحنح وصاح بصوت ارتجّ له داموس الكرّيطة بما حوى :
- محكمة...
انتبهت إلى أنّني انتقلت فجأة من غرفتي بدار عمّ سعيد إلى مغارة غريبة قد هُيّأت بما يشبه الدّيكور المسرحي. فانتابني ما يشبه رهبة الخشبة ونظرت إلى هيأتي فإذا أنا على منبر القضاء أرتدي بزّة رئيس المحكمة وعلى يميني السالي وعلى يساري سعيد وكلاهما يرتديان زيّ قاض مستشار، وبين أيدينا الفأر في زيّ حاجب المحكمة، وكلُّ الأضواء مسلّطةٌ علينا.
نظرت أمامي فإذا على اليمين بنك طويل لا يجلس عليه أحد، وعلى اليسار قفص حديديّ يقبع في زاوية منه شيخ على ركبتيه مبلّل الثّياب، في يديه ورجليه أصفاد مشدودة بالسّلاسل إلى قضبان القفص. وفي الزّاوية المقابلة شيخٌ آخر ومراهق لا يتجاوز عمره السنة الثالثة عشرة، كلاهما خائف وفي يديه مثل أصفاد الشيخ الأوّل، وإلى جانبهما امرأة ورجل لا عمر لهما، لا يكفّان عن الضّحك ولا عن استعراض قدرتهما على سحب الأغلال من أيديهما وإرجاعها، وعلى العبور بين قضبان القفص خروجا ودخولا متى عنّ لهما ذلك.
ألقيت نظرة إلى عمق القاعة فإذا مدارج ولا مدارج المسرح الأثري، مليئة بجمهور من الشّخوص القصصية من مختلف الجنسيات، بدا لي رغم انبهاري بالأضواء أنّني أعرف منها عددا لا يستهان به. والكلّ يجلس وراء لافتة عملاقة كتب عليها "يحيا العدل".
كنت قد عدت تدريجيّا إلى هدوئي. ولكنّ قراءتي هذه اللافتة زادتني شحنة من قوّة الإرادة ورباطة الجأش لا عهد لي بها. فنظرت إلى الفأر الحاجب ونطقت أخيرا بعض الكلمات ولكن بصوت جهوري ردّدت أصداءه جوانب الدّاموس :
- فليدع أوّلا المدّعيان المسمّيان السّالي بن محمّد المغربي وسعيد اليوسفي مسّاح الأحذية.
فاتّكأ عليّ السّالي ليهمس في أذني بأن لا حاجة إلى النّداء عليهما وبأنّ كِلاَ المطلوبَيْنِ حاضران يجلسان إلى جانبي. فخاطبت الحاجب من جديد، وكأنّني لم أسمع ما قاله السّالي، صائحا في الفأر دائما بنفس الصّوت الجهوري:
- ماذا يصنع على منبر القضاء وفي بزّة القضاة من هو طرف في القضية ؟ فليُخلع عنهما الزّيُّ الأسودُ وليُلقَ بهما مصفّدين في قفص مقابل لهذا القفص، أو فلتحرّروا من القيود كلّ المتّهمين حتّى تُضمن المساواة فيحيا العدل كما تقول اللافتة.
في مثل لمح البصر، طار القفص وسط عاصفة من التّصفيق، وزالت الأصفاد والقيود وأصبح أمامي بنكان أحدهما يجلس عليه السالي وسعيد والآخر يجلس عليه في كنف الاحترام كلّ من الشيخين والطّفل والرّجل والمرأة الضّحوكان. عندها ألقيت السّؤال على الحاجب، وعلى رؤوس الملأ دائما :
- ولكن، أين كاتبة الجلسة ؟
أجاب الفأر بأنّ السالي لم ير موجبا لتعيين كاتبة. فصحت فيه :
- أنا القاضي هنا وليس السّالي. أين دادا الزّهرة؟ ما لي لا أراها بين الحضور ؟
كاد السالي يسمح لنفسه بالاعتراض ولكنّني أسكتّه حتى آذن له بالكلام وأفهمت الجميع أنّ زمن الرّقّ وبقاء المرأة في البيت قد ولّى. وأمرت بإحضار دادا التي فرحت بمنصبها الجديد ولبست الزّيّ الأسود وأقسمت على الإخلاص للقضاء دون سواه وعلى أن لا تتلقّى أمرا من أحد غيرِ القاضي حتّى تنتهي المحاكمة. عندها فقط أذنت بإعلان افتتاح الجلسة للنّظر في القضيّة.

الهكواتي - تونس المدينة

...(يتبع)

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

القصة والتراث

تكريم الهكواتي

أنا أيضا ... حوماني