عمّ إدريس في "واب شخصون"(3 من 3)

سنتي على جناح السّرد – النّص 23ج من 53 – 25 جويلية 2008

عمّ إدريس في "واب شخصون"
محاولة في السّرد النّقدي (3 من 3)
الفصل السادس: شقّ المسالك

كان يمكن أن تنتهي الجلسة بإعلان سحب القضيّة أثناء المحاكمة. ولكنّ أمّي سيسي اعترضت على هذا الإيقاف المفاجئ لسببين. أوّلهما أنّ شفاء السّالي من عمليّة غسل الدّماغ التي تعرّض لها ومن صدمة قطع الاتّصال بمخّه، لن يتمّ قبل أن تصل المحاكمة إلى نهاية طبيعيّة، فيها مرافعة مكتملة وتصريح بالحكم. وثانيهما أنّ ما قيل أمام المحكمة فيه إهانة لموكّلها ليس من العدل أن تتوقّف المحاكمة قبل الرّدّ عليها لإعادة الاعتبار لأهله. لذلك كان لا بدّ من الإذن بمواصلة الجلسة وإعادة الكلمة إلى أمّي سيسي فقالت :
- لقد تضمّنت لائحة الاتّهام، يا سيّدي الرّئيس، أسئلة توحي ضمنيّا بأنّ موكّلي مجاله الكتابة السياسية وحدها، وبأنّه إذ يمارس الكتابة الأدبيّة فبدون موجب شرعيّ. ولأنّ هناك من يشيع أنّ السّاحة صارت تعجّ بالدّخلاء، فليتّسع صدر المحكمة للتّثبّت ممّا إذا كانت هذه التّهمة تنطبق على موكّلي. ولا مجال إلى هذا دون الاستماع إلى نماذج من سرده.


وأخذت أمّي سيسي تقرأ بالصدفة، ومن مواطن مختلفة من كتب الرّشيد إدريس، فقرات طويلة شدّت اهتمام الجميع وصفّقت لها طويلا جماهير الشّخوص من خارج "واب شخصون" (تقرأ بعض هذه الفقرات على هذا العنوان :
http://alhakawaty.blogspot.com/2008/07/blog-post_24.html). ثمّ نظرت إليّ وقالت :
- تأمّلوا يا سيادة القاضي هذه النماذج واحكموا. انظروا إلى قصر الجملة وسلامة اللغة. انظروا إلى دقة الوصف، انظروا إلى القدرة على شدّ القارئ، وإلى والنفاذ إلى عمق الحالة النفسية للشخصية. غوصوا في هذه النّصوص وتأمّلوا بنزاهة ثراء الخيال وسلاسة الانتقال بين الواقع كما لا يقدر على وصفه إلاّ ملاحظ محنّك خبير، وبين المعلومة الصّحيحة كما لا يقدّمها إلاّ شاهد نزيه أو بحّاثة متبحّر، وبين الحلم كما لا يخوض غماره إلاّ من بقيت فيه الطّفولة تملأ نفسه براءة وقدرة على الاندهاش والإدهاش.
إذا كانت هذه الكتابة غير أدبيّة أو كان هذا النوع من الجمل دخيلا على السّرد فما الأسلوب الأدبيّ وكيف تكون الجملة السردية؟ وإذا سلمتم بأن هذه الكتابةَ أدبيّةٌ، أفلا يكون من النّزاهة والتواضع العلمي أن يتساءل المرء عمّا إذا لم يكن مُرُوقُ الكاتب عن قواعد وتقنيات السّرد الصّارمة كما نُظِّر لها في الغرب وكما هي اليوم مقبولة في كلّ مكان ، يشكّل اختيارا منه واجتهادا لنحت أسلوب شخصيّ قد نـحكم له أو عليه، ولكنّه في كلّ الأحوال جدير بأن ننتبه إليه فنتأمّله ونعتبره ؟ أليس الأديب الحقّ هو من يشقّ لإنشائه مسلكا خاصّا به انطلاقا من قناعاته ومن عمق انتمائه إلى ثقافته ومن فلتات حكمته وجنونه ؟ أم أنّ الأديب لا يسمّى أديبا إلاّ إذا كتب مكتفيا بتعهد صورته في وسائل الإعلام مترفّعا عن قراءة الكتب معرضا عن التّوقّف عند مسألة ليعمل فيها الفكر، يرى وقته أثمنُ من أن يضيعه في البحث عن أصول كلمة في المعاجم أو عن جذور قضيّة في الملفّات المحفوظة ؟
كان لا بدّ أن أتدخّل لأطلب منها الاختصار والإجابة على قدر نقاط الاتهام. قلت لها :
- هل لكِ إجابة على نقطة الراوي الحاكم بأمره، هذا الذي يحكم على شخوصه متى شاء بالتّجمّد في انتظار أن يقدّم هو درسا في التّاريخ أو شهادة على مظاهرة حضرها أو تحليلا علميّا لموسيقى بيتهوفن ؟
- سيدي الرّئيس هذا أصل الحكْيِ في تقاليدنا. فالرجل ينتمي إلى بيئة لا تحكي خرافة من أوّلها إلى آخرها دون توقّف أو مقاطعة. وفي ذلك كلّ حكمة مجتمعنا الذي كان يجعل من الجلسات العائليّة حول الحاكي، أوّلا وأساسا فرصة لتعلّم الحياة والتّثقّف. فالحكاية الأساسية، في تراثنا كما في سرد الرّشيد إدريس، مجردُ تعلّة. فالفداوي كان معلّما يستحضر بطلا يقوده إلى حيث يوجد علم يمكن نقله إلى مستمعيه بواسطة السّرد. وتلك تقنية الرّشيد إدريس الذي لا تهمه تقنيات السّرد الغربيّ إطلاقا، بقدر ما يهمّه أن يكون، ككاتب، شاهدا على عصره يتوسل إلى ذلك ما تيسر من السرد المتخيَّل، تماما كما توسَّل المذكِّرات الشخصيةَ والدّراسات الدّبلوماسية.
فالرجل يحكي ويفكّر، بل يحكي منتظرا فرصة ينقضّ عليها لإعطاء معلومة تاريخية أو التعريف بعلم من أعلام الحركة الوطنية والسّاحة الفكرية والأدبية في عصره أو من خلال قراءاته، أو لشرح كلمة أو تفسير آية من القرآن الكريم أو إبلاغ موقف من قضية أو تقديم شهادة على واقعة عاشها.
ولعل الرشيد ادريس يقول بصفة غير مباشرة إن الحكايا، كلَّ الحكايا، لا تهم لذاتها ولكن لما يغنمه منها السامع أو القارئ من عِبَرٍ ومعلومات، ولما يستغله الرّاوي أو الكاتب من أحداثها للانزياح من التسلية بالقصّ إلى التّثقيف، والمراوحة بين المهمّتين على مدى السّرد.
قد يُعجب هذا التّوجه بعض القرّاء وقد لا يعجب آخرين. ولكنّه توجّه يدعو إلى التّأمّل. ومن الطبيعي أن يعارض هذا التّمشّي من الكتّاب من لا يريد أن يتعب نفسه في البحث والتثقّف ومن يوقع بالشخوص ويملي عليها عبر أقراص التّلصص ما به تتجنّى على مؤلفيها...


هنا قاطعت أمّي سيسي راجيا منها عدم العودة إلى هذه المسألة. وحتّى أبقى محايدا وأضمن توازن المحاكمة قلت لها :
- قد يوجد من بين معارضي هذا التّمشّي أيضا من هم قادرون على التركيز على مواضيعهم إلى درجة الارتقاء بنصوصهم لتكون في حدّ ذاتها ثقافة وفكرا. وهذا من أسمى الأدب.
فأجابت أمي سيسي بسرعةِ بديهةٍ :
- ولكنه أدب لا تزدحم به أرصفة نهج زرقون على حدّ علمي. إنّه استثناء لا يمكن سحب مواصفاته على كلّ ما يُكتب من الأدب.
طلبت منها أن تجيب على نقطة تحميل الشخوص من الثقافة ما لا تحتمل في أصل تركيبتها. أي عن هذا العامل البسيط الذي يتحدّث عن المتاحف حديث ناقد فنّي وعن الأدب حديث أديب، والذي لا مناص له مهما كانت جنسيته من أن يحلّ بباب سويقة ويمر من نفس الكتّاب الذي مر منه الرّشيد ادريس وأن يجلس على حصائر جامع الزيتونة أو مقاعد الصّادقيّة طالبا كما جلس الرّشيد إدريس. ولكنّ أمي سيسي ابتسمت ولم تجب. فقلت لها إنّ صمتها إقرار بأنّ الكمال لله وحده. فردّت على الفور :
- ومن قال إن الرشيد إدريس يعتقد نفسه كاملا ؟ أنا مضطرة لتقديم بعض الشواهد بسرعة في هذا الغرض. ففي "عم سعيد في باب سويقة"، وفي الصفحة 95 تحديدا يقول الرّشيد إدريس "...وإنما أكتفي بالكتابة وألقي ما أكتب ضمن ما كتب من قبلُ وما يكتب من بعد وأنا لا أدّعي الإجادة. وقديما قيل عاش من عرف قدره." فانظروا يا سيدي الرّئيس إن كان مثل هذا التواضع شائعا بين روّاد السّاحة التي...
فقاطعت أمّي سيسي طالبا منها إجابة سريعة عمّا قد يكون من افتعال في تركيب الشخوص انطلاقا من شخصية حقيقية في حين كان يمكن أن يركّبها بصفة مستقلة، خاصّة وأن المتّهم أثبت قدرة عجيبة على التّحليق في عالم الخيال. فقالت إنّ الإجابة بين سطور كتبه. وانتقت شاهدا من قصّة "السالي هرب" (ص11) حيث يقول: "...فإن هذه القصة المستمدة من واقع تاريخي والمتجلية فيما أملاه الخيال من تصورات ومفاجآت تنبه إلى إمكانية استلهام التراث الوطني وخاصة وقائعَ الحركة الوطنية ونوادرَها، في تأليف روايات شيقة...". وأضافت :
- هذا اختيارٌ يا سيدي الرّئيس. والانطلاق من شخصيات واقعية أو من الخيال ثانوي في الأدب. بل لعل ما دأب عليه الرشيد إدريس كان من باب التواضع العلمي. فهل يخلُق الكاتب شيئا إذ يستنبط شخصية أو موضوعا أو حدثا ؟ هذا هو السّؤال. أليس من النزاهة الاعتراف بأن لا أحد يمكنه أن يأتي بجديد وبأن كلّ المواضيعِ طُرقت وكلَّ أصناف الشخصيات موجودةٌ في الواقع أو صاغها الأقدمون من زمان، وألاّ فرق بين مُحْدِثٍ وقديم إلاّ في الأسلوب وزاوية النّظر وكيفية القول أو الصّياغة ؟ فلنتأمّل جيّدا هذه القولة من قصة "عم سعيد في باب سويقة" (ص95): "ولعلّ هذه القصةَ قد ساهمت في أدب القصّة، بما نسجه الخيال بدأً بواقع حقّ، بالاستفادة من أحد مسالك السّبق، وإن كان السّبق تكرارا لما سبق"
- هل تقصدين أنّ المتهم ، على ما يبديه نصُّه من تواضع، أراد تأسيسَ مدرسة والدّعوة إلى استكشاف اتجاه جديد في الكتابة الأدبية ؟
- لا يا سيدي الرئيس. أنا لا أقول إنّه قد أتى للسّرد بما لم تستطعه الأوائل أو إنّه فتح فيه فتحا مبينا. ولكنّي أقول إنّه جدّ واعيا وصادقا. وفي هذا أكثر من الكفاية. وما هي إلاّ بداية مسلك شقّه للاحقين. فهاتوا من يكمل المسيرة إن كنتم مؤمنين.
حين أنهت أمّي سيسي مرافعتها، تفطّنت إلى أنّ السّالي كان قد أفاق من إغمائه والتحق بسعيد وفائق. فكان ثلاثتهم متعانقين. ولكنّ تململا كان يلاحظ في المدارج. لذلك أمرت بألاّ يسمح لأحد بمغادر القاعة. وأعلنت رفع الجلسة مؤقّتا وانسحاب هيأة المحكمة للتفاوض وقبل لتصريح بالحكم.


الفصل السابع : كفّارة يا قاضي


وجدتني و"دادا" في غرفتي بمنزلها العربي نختلي لإعداد الحكم في القضية. فطلبت منها قبل كلّ شيء أن تخلي الغرفة من كلّ ما يزيد عن الكرسي والطاولة فنفّذت في الحال ما طلبت. وعادت الغرفة إلى ما كانت عليه من هدوء وبياض ناصع. ثم أمرتها بإحضار حاسوب فتحوّل لون وجهها من البنّي إلى الأصفر وقالت مرتعشة :
- آسفة يا سيدي القاضي، فهذا ما حرّمه السّالي عليّ قبل إحضارك إلى عالم الافتراض. لأنه يكفيك أن تحصل على حاسوب لتتمكن من العودة عبر شاشته إلى عالم الواقع بمجرّد تخيّل المكان الذي سحبك منه زوجي عبر شاشة حاسوبك.
ابتسمت لأطمئنها وذكّرتها بقَسَمِها في قاعة الجلسة على ألاّ تأتمر بغير أوامري حتّى يصدر الحكم. وشرحتُ لها أنّ السّالي عاد إلى أصل شخصيّته المستقلّة عن الإيحاءات الخفيّة، وأنّه بإمكاني عند العودة إلى قاعة المحكمة أن أطلب حاسوبا من أيّ من الشخوص المتنتمية إلى بوّابة "واب شخصون"، فأحصُلَ على ما أريد. فهدأ روع "دادا" وجاءتني بحاسوب محمول وضعته على الطّاولة. وانسحبت لتمكّنني من التفرّغ لصياغة حكمي، تاركة لي كلّ ما سجّلَتْه من وقائعِ المحاكمة.
وما هي إلاّ ساعةٌ أو بعضُ ساعةٍ حتّى دعوت "دادا" ووضعنا يدا في يد لننتقل معا إلى قاعة المحكمة وننتصبَ من جديد على منبر القضاء، أمامنا الحاسوب، هذه المرّةَ. عندها، أَعلن الحاجب-الفأرُ بصوته الحادّ عن استئناف الجلسة، وساد الهدوء القاعة. فقرأت على الحاضرين نصّ الحكم التّالي :
"نـحن، الهكواتي، المعروف في سجلات الحالة المدنية باسم سالم اللبّان والمنتصب هنا للقضاء، حاكما فرديّا في القضية المرفوعة من قبل المدعوَّيْن السّالي بن محمّد المغربي وسعيد اليوسفي المقعدِ مسّاحِ الأحذية، على مؤلّفِهِما المدعوِّ الرّشيد إدريس والممثّل هنا في شخصية فائق التي اعترفت بتطابق الهويّة وقبلت المثول بين أيدينا، بعد دراسة ملف القضية من كل جوانبه الممكنة في هذا الحيّز الضّيّق، وبعد تسجيل تراجع المدّعيَيْن عن مقاضاة المتّهم، وبعد قبول تواصل المحاكمة بناء على طلب الدّفاع، أصدرنا حكمنا بما يلي:
أوّلا : بالاعتراف للمتهم بشرعية ممارسة الكتابة الأدبية على النّحو الذي يرتئيه وبحرّية بنائه شخوصَه على النّحو الذي يقتضيه هاجسه الإنشائي.
ثانيا : بثبوت مسؤوليّة القاضي في طرح القضيّة من أساسها وفي قبول الجلوس للقضاء في محكمة ليست إلاّ تتمّة لتلك التي بدأت في الفصل الأخير من كتاب الرّشيد إدريس "أرق على ورق" والتي أقيمت لمحاكمة أمّي سيسي.
ثالثا : بإخلاء مسؤولية كلّ من المدّعيين السّالي وسعيد والإقرار بعدم جواز متابعتهما بتهمة العقوق. لأنّ بناءهما كشخصيّتين قصصيتين كان فيه من الاتصال بالثقافة الغربية ما يشرّع لهما الحلمَ بواقع قابل للمقارنة مع واقع شخوص الرّوايات الغربية. ولكن لم يكن فيه من الحصانة ما يكفي ليقيهما من مؤثّرات ثورة شخوص الغرب، الذين برهنوا عن قدرتهم على إملاء ما يشاؤون على شخوص بوّابة "واب شخصون" عبر أجهزة الاتصال الحديثة.
رابعا : بضرورة ردّ اعتبار المتهم وفرض كفّارة على القاضي بإلزامه بما يلي :
1 - توجيه الدّعوة، حال العودة إلى فضاء الواقع، إلى الباحثين وبقية المعنيين حتى يعملوا على إخضاع سرد الرشيد إدريس إلى الدّراسة العلمية، لبيان ما قد يكون فيه من هنات هي من طبيعة العمل الإنساني، ولمزيد إبراز ما كشفت عنه هذه المحاكمة من تفرّد يميّزه عن كلّ النصوص السّردية التونسية المعروفة إلى اليوم. فمن شأن هذه الدّراسات أن تسمح باستكشاف مسالك قد تؤدّي إلى كتابة سردية جديدة تستلهم أحداثها وشخوصها من وقائعِ التّاريخ وشخصيّاته وأساليبها من تقنياتِ القصّ الشّفويّ الشّعبيّ.
2- العمل شخصيّا، في ممارسته الكتابة الأدبية، على الاقتداء بما للمتّهم من خصال فكرية وأدبيّة، أوّلها شعورُه بأنّه صاحب رسالة يبلّغها لوطنه وللأجيال اللاحقة، عن طريق الأدب، وأخذُه مسألةَ الكتابة الأدبية من زاوية كونها مهمّةً جدّيةً تتطلّب جهودا للاطلاع على الأفكار والأحداث، وعناءً في البحث والتّوثيق لإثراء النّصّ بالمعلومة الصّحيحة والموقف المبنيّ على التّفكير السليم.
3 - تحقيق أمنية المتّهم الرّشيد إدريس الذي "ودّ (أرق على ورق ... ص149) لو استمرّ به الحلم ليعلم مصيره ومصير المحكمة ومن ضمّت وخاصّة مصيرَ المسكينة التي اتُّهمت بقتله وهي صاحبة الفضل عليه منذ طفولته الأولى. والعملُ لهذا الغرض على تخيّل تتمّة لتلك المحاكمة يعاد فيها الاعتبار لأمّي سيسي، ويثمّن فيها تأثير تعلّق المتّهم بها، على أدبه.
4- كتابة وقائع محاكمة الحال في شكل قصصي يستلهم أسلوب المتّهم في القصّ ويستوحي من شخوص كتبه أحداثا مبتكرَةً مستقلّةً، اقتداء بهذا المؤلّف إذ يعيد إنتاج القصص الشعبيّ مثل خرافة جحا والقِدر أو خرافة أمّي سيسي، ويعمل فيه خيالَه الخلاّق (انظر أرق على ورق ص 28 وما تلاها).
5 - قراءة النصّ المتضمّن هذه الوقائع على الملأ، في جلسة استثنائية لنادي القصّة، مع التنصيص على نسبة أبوّة الشّخوص القصصية إلى مؤلّفها الرّشيد إدريس، والإشارةِ إلى ما ضُمّن في النّصّ من شواهد. ثمّ ترجمةُ النّصّ إلى اللغة الفرنسية ونشرُه باللغتين ضمن منشورات ورشة الهكواتي، في سياق "سنته على جناح السّرد".

الفصل الثّامن : عودة الابن الضّالّ

رفعت رأسي حال إتمام تلاوة الحكم فإذا علامات الارتياح باديةٌ على الجميع بمن فيهم الشخوص الجالسة على المدارج من عرب وأجانب، ما عدا بعضِ شخوصِ الرّوايات البوليسية المعروفة بالسعي إلى فرض سلطان التقنيات الغربية على الجميع، والتي بدأت تتململ في أماكنها ولا تستطيع مغادرة كراسيها حتى لا يُفتضَح أمرها.
ابتسمت ثمّ أعلنت عن رفع الجلسة وأشرت إلى الشخوص التي كانت متنازعة بأن تقترب وهمست في أذن عمّ سعيد :
- باستطاعتي كما تعلم أن أعود إلى عالم الواقع دون حاجة إلى مساعدة أحد. ولكنّني مصرّ على ألاّ أعود قبل مصافحتك وترك المجال لقبضتك الحديدية أن تحتفظ بي هنا أسيرا أو أن تعيدني سالما من حيث جَذَبَتْني.
ازدحم منبر القضاء بكلّ من كان في قاعة المحكمة من شخوص "واب شخصون". وشدّ عم سعيد على يدي كما فعل حين مددتها له من شاشة حاسوبي. وهمس بدوره في أذني:
- لن أترك يدك يا هكواتي حتّى تعود معنا جميعا إلى موقع باب سويقة في نهاية أربعينات القرن العشرين. في ذلك اليوم لاحظت "بتسريح نظري في السّاحة أنّ حركة جديدة دبّت في أرجائها ومجموعاتٍ من الشّباب يمرّون وهم ينشدون نشيدا جديدا لم يسمع به أحد من قبل"(عم سعيد في باب سويقة ص 92).


ولم يكد عم سعيد ينهي تمهيده للمشهد، حتّى وجدتني بين النّاس وقد نزلوا إلى البطحاء في مظاهرة حاشدة شاركت فيها حتّى النّساء. وقد انـحشرت بينهنّ الزّهرة وأمّي سيسي كما انـحشر بين الجموع السالي وسعيد. وبدا فائق في ريعان الشّباب وقد رُفِعَ على الأعناق، وأخذ يطلق الشّعارات ويحثّ المتظاهرين على ترديدها. ولم أدر كيف ترك عم سعيد يدي فإذا أنا أنسلّ من شاشة حاسوبي إلى مكتبي، يتردّد في أذنيّ صدى النّشيد الجديد الذي يقول :
"حماة الحمى يا حماة الحمى*** هلمّوا، هلمّوا لمجد الزّمن // لقد صرخت في عروقنا الدّماء *** نموت، نموت ويحيا الوطن".

ولقد بدا لي أنّني سمعت من بين الشعارات التي ردّدها المتظاهرون: "تقنيات تونسية*** للكتابة القصصية".
ولكن، لأكون أمينا إلى نهاية اللعبة، فإنّني لا أستطيع الجزم بأنّ هذا الشّعار لم يكن ممّا أوحى لي به خيالي لحظة احتكاكي من جديد بعالم الواقع. إلاّ أنّ الحقيقة التي أرادني عمّ سعيد أن أحتفظ بها حين أصرّ على ألاّ يترك يدي قبل تشريكي لحظاتٍ في تلك المظاهرة بالذّات، هي أنّه إذا كان حبّ الوطن من الإيمان، فإنّ حبّ "أمّي سيسي الأمسِ واليومِ والغدِ" لهو من حبّ الوطن.

(انتهى)

الهكواتي – تونس المدينة

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

القصة والتراث

تكريم الهكواتي

أنا أيضا ... حوماني