عمّ إدريس في "واب شخصون"(2 من 3)

سنتي على جناح السّرد – النّص 23ب من 53 – 18 جويلية 2008


عمّ إدريس في "واب شخصون"
محاولة في السّرد النّقدي (2 من 3)

الفصل الرّابع : طريق اليقين

كدت أنسى أنّ الماثلين بين يديّ والجالسين على بنك المتهمين كانوا في القفص الحديدي بأمر من السّالي. ولكن "دادا" لفتت انتباهي. فبدأت بأمر السالي بالوقوف وطلبت منه أن يحمل سعيد بين ذراعيه احتراما للمحكمة وأن يتحدّث واحد منهما ليخبر المحكمة عن اسمهما وصفتهما وعمّا ألجأهما إلى القضاء. فامتثل السّالي وقال:
- أنا السّالي بن محمّد المغربي. وهذا صاحبي سعيد اليوسفي، نـحن شخصيّتان من تأليف الرّشيد إدريس، جئنا مدّعيين على هؤلاء الجالسين على بنك المتّهمين.
سألته أن يفصّل ما يدّعيه على كلّ واحد منهم. فأشار إلى صاحب الثياب المبلّلة وقال إنّه شيخ يدّعي أنّ اسمه "فائق" في حين أنّه الرّشيد إدريس بشحمه ولحمه، مؤلّفُه ومؤلّف كلّ الماثلين بين يدي القضاء في هذه الجلسة. وأضاف أنّ هذا الشيخ قد تسلّل إلى كتاب "أرق على ورق"* منتحلا صفة شخصيّة قصصيّة، وأنّه هو المتّهم الرّئيسي في القضيّة. ثمّ أشار إلى المرأة وقال إنّها أمّي سيسي التي كان كلّ "واب شخصون" متضامنا معها ضدّ مؤلّفها الذي افتعل لها قضيّة واتهمها بقتله وهو حيّ يرزق.

وأضاف السّالي أنّه يتّهم أمّي سيسي بتغيير شكلها ومظهرها تماما وبالتّنكّر لبني جنسها من الشخوص والوقوف إلى صفّ المؤلّف. وقال إنّه يوجّه نفس تهمة خيانة الجنس إلى جحا، ذلك الرجل الذي يجلس إلى جانبها. أمّا الشيخ الآخر والطّفل المراهق فقد اتهمهما بتعاطي نشاط على سبيل الهواية، بإيعاز من المتّهم الرّئيسيّ، يخصّصه القانون قصرا للمحترفين المحلّفين، مبيّنا أنّ الأوّل جلس للقضاء وهو فلائكيّ بينما لبس الثاني ثوب المدّعي العامّ وهو بائع جرائد بسيط.
بعد إتمام السالي كلامه، أمرت بجلوس المدّعيَيْن ووقوف الشيخ الأوّل وطرحت عليه السّؤال :
- من أنت ؟
- اسمي فائق ولا أعرف لي لقبا. وأنا الشخصيّة الرّئيسية لكتاب "أرق على ورق". ومؤلّفي الرّشيد إدريس. بعبارة أخرى أنا أخ للمدّعيين.
- أنت إذًا تنكر كونَك تنتحل صفة شخصيّة قصصية، وكونَك في الواقع الرّشيد إدريس ؟
- أنا شخصية قصصية، يا سيدي الرّئيس. واتهامي بانتحال هذه الصّفة دليل جهل تامّ بالأدب من قبل من ادعى عليّ. ولكن هذا لا يمنعني من الاعتراف بأنّني في الواقع الرّشيد إدريس. وما كنت متخفّيا وراء شخصيّة فائق بل بحت بهويّتي الحقيقية على مدى صفحات الكتاب، من نضالي في صفوف الحركة الوطنية والحكم عليّ بالإعدام غيابيّا من قبل الاستعمار في 26 مارس 1946 (انظر "خيار العمر"** ص 31) إلى هجرتي وتيهي بين عواصم الدّنيا وحتّى مسؤولياتي السياسية والدبلوماسية والإدارية، كل شيء بما في ذلك سكناي في قرطاج على بعد مسافة قصيرة من داموس الكرّيطة، يشير إلى أنّني لا أكون إلاّ الرّشيد إدريس. بل إنّني عمدت، في آخر مشهد من هذه القصّة إلى إهداء كتاب من تأليفي إلى زوجتي عنوانه "أرق على ورق". فهل من اعتراف أكثر صراحة من هذا يا سيّدي الرّئيس، حين تقرؤون على غلاف الكتاب اسم الرّشيد إدريس ؟
- يتضح من كلامك أنّك شخصيّة قصصية في سيرة ذاتيّة. هل تطلب بناء على هذا إيقاف التّتبّع وإنهاء المحاكمة برفض القضيّة من حيث الشكل ؟
- بالعكس يا سيدي الرئيس. فالكاتب الذي شرّفني بجعلي نسخته القصصيّة، لا يرجو من ممارسة الأدب إلاّ أن تتكثّف مثل هذه المحاكمات. فهي وحدها طريق اليقين.
- طيّب هل كلّفت محاميا عنك أم أنّك تريد الدّفاع عن نفسك بنفسك ؟
- لا هذا ولا ذاك يا سيدي الرّئيس. سأسكت الآن تماما. لقد انتهت شهادتي بوصفي شخصيّة قصصية من تأليف الرّشيد إدريس. وفي ما تبقّى أترك لكتبي أن تدافعَ عنّي أو أن تديننَي كما تشاء أحداثها وشخوصُها. وأقف بكلّ احترام أمام رغبة السّالي وسعيد في الادعاء عليّ بما يريدان، وفي القول كما قلت أنا في رسالة كتبتها لوالدي حين ادلهمّ الأفق أمامي وأنا في ديار الغربة، ثمّ عدلت عن إرسالها: "هذا جناه أبي عليّ...***" (أرق على ورق ص 56) .
استسمحني فائق في الجلوس بعد أن أكّد للمحكمة أنّه لن يجيب على أيّ سؤال جديد. فسمحت له وطلبت من المرأة التي كانت بجانبه أن تقف وسألتها عن هويتها فقالت:
- أنا فعلا أمي سيسي، كما قال المدّعي، يا سيدي الرّئيس.
- ولكنّك لا تشبهينها. فقد قرأت في ملفّ القضيّة أنّ أمي سيسي "امرأةٌ عجوزٌ كانت جالسة تنتظر وكانت تلبس ملابسَ عتيقةً ذاتَ ألوانٍ، قميصها ذو أكمام فضفاضة ولها فوطة مزركشة وعلى رأسها منديل أحمر" (أرق على ورق... ص 136).
- كان ذلك في ما مضى يا سيدي الرئيس، حين كنت أقطن في شارع قاع المزود. وقد كان عندي مكنسة قد يكون تقريركم سها عن ذكرها. ولقد تطوّرت بزّتي بعد انتقالي إلى حيّ الزّهور، أيّام كان لم يزل للعجائز بعض دور في تربية الأبناء. أمّا اليوم فقد تغيّر كلّ شيء. انتقلتُ بالسّكنى إلى حيّ النّصر وأجريت عملية تجميل جعلتني أصغُر بمائتَيْ سنةً أو ما يزيد، وأنافس ملكات جمال هذا العصر. ولكنّني بقيت "أنا، أمّي سيسي الأمسِ واليومِ وغدا"(أرق على ورق ص141). حتّى وإن استبدلت مكنستي بفأرة حاسوب يمكن أن أصنع بها العجب. انظر
ووقفت أمّي سيسي في وسط القاعة وبحركة بهلوانيّة، فصلت رأسها عن جسدها وأرسلته في الهواء كما تفعل الصّور المتحرّكة. ثمّ استرجعته وهي تقهقه. فسرت في القاعة فوضى مرحة. وصارت كلّ الشخوص تصفّق لها. فكان لا بدّ من أن أتدخّل بحزم لإعادة الهدوء. فأمرتها بالجلوس وطلبت من مرافقها الألعبان أن يقف ويقدّم نفسه باحترام فقال:
- جحا ... أنا جحا.
- أنت الآخر تركت القفطان الأحمر والعمامة الخضراء. واستبدلتَهما بسروال الدجين تماشيا مع العصر. طيّب اختصر وتجنّب المزاح. ماذا تفعل هنا ؟
- جئت محاميا في قضيّة أمّي سيسي فأمَر السالي بإيقافي وحبسي معها في قفص الحديد.
- طيب وما دفاعك في قضية أمّي سيسي ؟ أقصد كيف كنت ستثبت أنّها لم تقتل فائق في النّهاية ؟
- هل تمزح سيدي الرّئيس ؟ هل جحا أنا أم أنت؟ الرّجل أمامك حيّ يرزق. ثمّ لنفترض أنّه مات، "فكيف تكون قد قتَلَتْه بدون شفقة ولا رحمة بدفعه إلى اليمّ، وهو الذي أحبّها وأحبّته منذ طفولته؟ كانت تستقبله في صحن بيتها حين كان يلتقي بالسلحفاة والقطط الصّغيرة ويعجب بنوّار العشيّة والياسمين" (أرق على ورق...ص139).
- يبدو أنّ مرّ السّنين قد أتى على كلّ ما كان لجحا من فطنة في غابر الزّمن. ألا تعرف أنّ من العشق ما قتل، وأنّ من العشّاق من نراه بيننا حيّا وهو شهيد نـحرناه بأيدينا ونـحن عمّا نفعل غافلون ؟
أذنت لجحا بالجلوس ودعوت أمّي سيسي من جديد سائلا :
- وأنت يا أمّي سيسي هل مازلتِ تزعمين أنّك بريئة من قتل فائق ؟
طأطأت أمّي سيسي رأسها وقالت :
- ما دمت قد طرحت السؤال جادّا فأنا لم أعد واثقة من شيء يا سيّدي الرّئيس. بل قد أكون قتلته بعض الشّيء، ولكنّ هذا أمر يطول شرحُه. ثمّ إنّني لست المتهمةَ في قضية الحال بل هو. وما دام يرفض الدّفاع عن نفسه فإنّي أقترح على جناب المحكمة أن أكفّر عن قتلي إياه قليلا، بأن أتقدّم للدفاع عنه تطوّعا، متى قبِلَتْ المحكمةُ اعتمادي محاميةً.
نظرت إليها فإذا هي ما تزال فاتنةً كما عهدتها أيّامَ صباي. بل لقد صارت شخصيّة أعمق وأكثر إغراء من كلّ الشخصيات العميقة والمغرية التي عرفت بعدها. ودون أن أخرج عن وقار القاضي ابتسمت لها وقلت:
- من قال إنّك "فيلسوفةٌ وشاطرة" (أرق على ورق... ص141) فقد صدق يا أمّي سيسي.
- كان لا بد أن أكون كذلك "بالضّرورة يا سيدي الرّئيس" (أرق على ورق... ص141)
- قبلت المحكمة نيابتك عن المتهم فائق. فلتبقَيْ حيث أنت. أمّا أنت يا سيد جحا فإننا نخلي سبيلك وكذلك نخلي سبيلكما أيها الفلائكي وبائع الصّحف، فقد كنتم جميعا تلعبون وما ذلك بانتحال صفة بل مجردُ تقمّصِ أدوار.

الفصل الخامس: وبراءة الأطفال في عينيه

لم أدر كيف سرت بعض الضّجة في الجهة التي تجلس فيها شخوص الرّوايات البوليسية من المدارج. وإذا السّالي يرفع يده ويطلب الكلمة. قال إنّه يحتجّ على اعتماد أمّي سيسي محامية للمتّهم. فأجبته إنه لا يحقّ له الاعتراض ولكن من حقّه متى أراد أن تسخّر له المحكمة محاميا هو الآخر.
واقترحت عليه أن يختار بين السندباد البحري ودون كيخوتّي دي لا مانشا فالأوّل جاب البلاد طولا وعرضا وله دراية بكلّ موضوع، والثاني رجل متعوّد على محاربة طواحين الرّيح. وقد تفطّنت إلى أنّ هذين الشخصيتين جاءتا للشهادة أو المرافعة في قضية سابقة ولكنّ الجلسة توقّفت ثمّ ألغيت المحاكمة تماما فمكثتا في فضاء المتقاضين ولم تلتحقا بمدارج المتفرّجين. قبل السّالي مقترحي في البداية وكاد يعلن اختياره. ولكنّه سرعان ما أطرق مفكّرا كما فعل منذ حين، وإذا هو فجأة يصيح:
- لا يا سيدي الرئيس أفضّل التّعويل على نفسي.
حين أخذ كلّ واحد مكانه وهدأت القاعة من جديد طلبت من سعيد اليوسفي أن يتناول الكلمة فيلخّص ما يعيبه على مؤلّفه. فنظر إلى السّالي يستعينه فحمله هذا الأخير بين ذراعيه ووقف ليمكّنه من الكلام على راحته. فقال عم سعيد :
- للشخوص أيضا مشاعرُ وأحاسيس، يا سيدي الرّئيس. وأنا لا أعترض على القدر الذي جعل منّي مقعدا ولكن تألّمت كثيرا حين علمت بأنّ مؤلّفي أقصاني في كتابه "أرق على ورق" من المشاركة في محاكمة أمّي سيس، تماما كما أقصى رفيقي السّالي. في حين حضر هذه اللعبة الأجانب ومنهم السندباد البحري ودون كيخوتي دي لا مانشا، هذا الذي كنت تريد تعيينه لتمثيلنا. يمكن أن أسامح الشِّــــــــيخْ رْشـــيد على أنّه أنشأني على ما أعانيه من عوز وإعاقة، ولكن لن أغفر له أنّه أقصاني عن هذا الموعد الهامّ وكأنّني وصمةُ عار اقترفَها ويريد نسيانَها بأيّ ثمن. هذا فقط ما يؤلمني شخصيّا وما أرجو أن أفهم سببَه. أمّا ما زاد على هذا فلست مثقّفا بما فيه الكفايةُ لأخوض فيه. ولقد وافقت من البداية على أن أعطي تفويضا في أمري كلّه لصديقي السّالي.
أذنت للسالي بالكلام فوضع سعيد على البنك وتنحنح وقال :
- هذا المؤلّف منشِئُنا ولا نستطيع إلاّ تقدير أبوّته لنا حقّ قدرها. ولكنّه شوّهنا، يا سيدي الرّئيس، وقزّمنا. ليس فقط بإقصائنا من محاكمة أمّي سيسي، كما قال رفيقي سعيد، ولكنّه لم ينشئنا إلاّ ليوظّفنا في صالح مخطّطاته الشخصيّة. فهو رجل يؤثر ذاته على شخوصه الذين يقومون في حياته في مقام أبنائه، ويرغب في تسجيل سيرته الذاتية في التاريخ على حساب تركيبتِنا ومصداقيةِ تصرفاتنا في فضاء قصّتنا.


فحين أنشأنا، شدّ وثاقنا إلى شخصيتين عاشتا في الواقع. فقد استمدّ اسمي أنا وأصل قضيّتي من مجلّة فرنسيّة. حتّى صورتي أخذها من المجلّة ونشرها على غلاف الكتاب كما نشر صورة ضحيّتي. أمّا سعيد فقد أخذه كذلك من بين الشخصيات الحقيقية التي عاشت معه في باب سويقة، وصرّح بأنّه مسح حذاءه مرّة أو أكثر عند عمّ سعيد الحقيقي. ولكنْ، تلك كلُّ العلاقة بين كلّ منّا وبين واقعه الأصليّ. علاقةٌ كانت مجرّد تعلّة لخلق شخصية جديدة. أمّا ما تبقّى، كلّ ما تبقّى، فمن نسج الخيال.
هل تعرف سيدي الرّئيس أنّ مشكلتنا الأساسية كشخوص تكمن في عدم...
وهنا سكت السّالي وأطرق وهو يحكّ أذنه في حرج. وقبل أن أضطرّ إلى السّؤال عمّا جرى له، انفرجت أساريرُه من جديد. ولكنّه واصل بشكل يدعو إلى الحيرة وكأنّه لم ينقطع عن الكلام أو أنّه يقرأ من ورقة والورقةُ ليست بين يديه. فقد بدأ جملته هكذا :
- ... كشخوص، تكمن في عدم إقدام مؤلّفنا على بنائنا في استقلال تامّ عن الواقع ؟ فلو كنّا كذلك لاستطاع أن يشكّلنا على قياس شخصه كما أراد، دون أن يبدو علينا أيّ تناقض. ولكنّه أعطانا ملامح الفقراء والجهلة والمشرّدين والمقعدين ليحرّكنا في قصصه تحرّك الأغنياء والمثقّفين المحتكّين بكبار السّاسة والسّائحين في أرض الله من أجل تعميق ثقافتهم لا من أجل البحث عن لقمة العيش.
فمؤلّفنا يا سيدي الرئيس أراد من البداية أن يرى فينا صورته هو، وأنشأنا لنكون نسخة منه، وإن كان لا يعترف بمطابقتها للأصل. فنحن مثل فائق، إن شئتم، ولكن، شتّان ما بيننا وبينه. فلئن كانت كلّ تصرّفات فائق، حتّى الغريبةِ منها، تبدو متطابقة مع طبيعة تركيبته الظّاهرة، فإنّ مؤلّفنا يستغلّنا نـحن غالبا للحديث عن أشياء لا تعنينا بالمرة ولا نفهم فيها أصلا. في حين أنّه يغضّ الطّرف عن وصف ما لا يعرفه من محيط شخصيّتينا الطّبيعي. أقصد، على سبيل المثال، محيط شغل صديقي سعيد حين كان في فرنسا.
خلاصة القول سيدي الرّئيس أنّ مؤلّفنا راوٍ صارخُ الحضور، حاكم بأمره على حساب طبيعة تركيبة شخصيتَيْنَا. أليس في هذا تجنّ علينا وعلى الكتابة الأدبيّة من خلالنا ؟ وإذا كانت له شرعية في كتابة المذكرات السّياسية، فمن أين يستمدّ شرعيّة ممارسته الكتابة الأدبيّة ؟ هل يكفي أن يأخذها غلابا، لأنّ قدمه رسخت بعد في الكتابة السّياسية ؟ وهل يشعر بأنّه يتحكم جيّدا في تقمي... تقمينات... آ تقنينات... بل آ... تقنيات الكتابة الأدبية الحديثة، والسعديّة...آ والسردينة...آ بل والسردية منها على وجه الخصوص ؟ أليس يقحم في القصّة في كلّ مرّة فقرات يحرّرها بأسلوب الدّراسات الإس... الإستمنتية... آ...الإسترا...تيجية والخطب السياسية وأحيانا يقفز من موضوع إلى آخر دون مبرّر دامي... آ درّامي... آ درامي...؟
كنت أتساءل في نفسي وأنا أستمع إلى مرافعة السالي، كيف وصلته كلُّ هذه المعلوماتِ عن تقنيات الكتابة وأساليبها، وهو الذي يقرّ بأنّ شخصيّته مبنيّة أساسا على الجهل. ولكن حين وصل به الأمر فجأة إلى اللخبطة في نطق بعض العبارات، فصارت التقنيات تقمينات والسرديّة سردينة، شككت في أنّ في الأمر سرّا. هممت بمقاطعته والتعليق على أقواله، ولكنّني تذكّرت ضرورة البقاء على الحياد. فسحبت الكلمة من السّالي وأعطيتها للسان الدّفاع.
تنحنحت أمّي سيسي وقالت :
- سيدي الرّئيس، يعطيك الخصم أحيانا من وسائل الدّفاع ما لا تنتظر. ولكن، لأنّني أمّي سيسي، ولأنّ لا شرعيّة لأمّي سيسي إذا لم تكنس وتكنس. فاسمح لي بأن أقصّ قصّة حدثت لي ولها بالقضيّة صلة وثيقة :
أمّي سيسي تكنس تكنس، وجدت، خلافا لعادتها، قرصا صغيرا يلمع وما هو بفليّس. كيف أصفه لك يا سيدي الرّئيس ؟ هو يشبه إلى حدّ كبير من حيث الحجم، بطّاريّة ساعة يدويّة الكترونية. ولكن لتكون الصّورة واضحة، أرجو منك دعوة السّالي إلى الاقتراب والوقوف على مسافة أقلّ من متر منك. فهذا مهمّ جدّا.
قلت إنّني لا أرى مانعا. وطلبت من السّالي أن يقترب. ولكنّه بقي مطرقا كالعادة كأنّه ينتظر وحيا أو يرفض القيام. صحت فيه أن يقف فلم يستجبْ إلاّ حين همزه رفيقه سعيد. ولم يفهم أنّني أدعوه للاقتراب إلاّ حين خاطبتُه بالإشارة. وما إن وصل بقربي حتّى مسكته أمّي سيسي من كتفه وهو ينقاد كالحمَل الوديع، وكأنّه ليس ذلك الذي كان، قبل دقائق معدودة، يترافع بطلاقة ويظهر من قوّة الشّخصية ما أبهر الحضور.
أدارت أمّي سيسي السّالي حول نفسه حتّى صار قفا أذنِه اليسرى متجلّيا لناظريّ. فإذا قرصُ سماعٍ والتقاطٍ لا سلكيٍّ مغروزٌ في وريده تحت الأذن. مسكت أمّي سيسي القرص بين سبّابتها والإبهام وسحبته بنترة واحدة فإذا السّالي يشهق شهقة ويسقط على الأرض مغشيّا عليه. وإذا أمّي سيسي تفرض على كلِّ الحضورِ ملازمة الصّمت وهي تطلق صيحة الظّفر :
- لا تخافوا. فأمّي سيسي تعرف كيف تنقذ أهلها. والسّالي من بقيّة ناسي كما يبدو أنّ بعضهم لا يعلمون. هو الآن نائم وسيستيقظ سليما معافى قبل نهاية مرافعتي.
بهذا القرص إذًا، يا سيدي الرّئيس، كان طرف خفيّ يملي على السّالي حركاتِه وسكناته وينطقه بما يعلم وبما لا يعلم. ثمّ فصلوا الخطّ فجأة فأخرسوه. اسألوني أنا وسأخبركم كيف جاؤوا يهنّئونني على انتقالي إلى حيّ النّصر وعلى نجاح عملية التّجميل، وكيف اقترحوا عليّ زرع قرص مماثل مقابل تحويلي إلى أكبر نجمة صور متحرّكة في العالم ومنحي اسم "سيسي غيرل". ثمّ كيف تنكّروا لي حين أجبتهم بأنّ انفتاحي ليس قبولا بالمسخ ولا تنكّرا للجذور. فجنّدوا ضدّي حتّى الأحلام. وأوعزوا بمحاكمتي بتهمة السعي لاغتيال القصّاصين المعاصرين، ومنهم المتهمُ الماثلُ أمامكم.
لمّا رأيت أمّي سيسي تسترسل في الكلام، نبّهتها إلى ضرورة اختصار قصّتِها الشّخصيةِ والمرور مباشرة إلى الدّفاع عن المتّهم. فقالت :
- لتسمح لي عدالة المحكمة بالإجابة أوّلا على سؤال عم سعيد حتّى أطيّب خاطره من شعوره بالغبن. فإذا كان شخص عم سعيد (أي الإنسان الأصل) قد عاش في ثلاثينات القرن العشرين وشخص السّالي في أواخر القرن التاسع عشر، ما يجعلهما منطقيّا أكبرَ سنّا من فائق، فإنّ شخصيتك يا عزيزي عم سعيد (أي تلك المبنية على الإنسان الأصل) لم تُعلَن ولادتُها إلا في هذه السنة، أي سنة 2008. كذلك شخصية السالي فهي لم تظهر إلاّ في سنة 2004، في حين أُنْشِئَت شخصية فائق وحلمت بمحاكمتي منذ أواسط سنة 1987. سؤال بسيط يا عزيزي عم سعيد : لو لم تكن هناك مغالطة ودسيسة للإيقاع بينكما وبين فائق، فهل كانت هناك أيّ مدعاة للغضب من عدم دعوتكما لحضور محاكمة دارت في حلمٍ عاشه فائق قبل أن توجدا أصلا، بسبعَ عشرةَ إلى عشرين سنة ؟

حين أنهت أمّي سيسي سؤالها، رفع عم سعيد يده وأخذ يلوّح بها بإلحاح. فأعطيته الكلمة ليردّ عليها. ولكنّه قال وهو يكاد يذرف الدّمع من شدّة النّدم :
- أريد أن أعتذر لفائق عن هذا العقوق الذي صدر منّي ومن صديقي السّالي، وأن أطلب باسمي، وباسمه ما دام مغمى عليه، حفظ القضيّة شكلا وأصلا. الآن فهمت أصل المؤامرة، يا سيدي الرّئيس. إنّما نـحن طفلان غرّروا بنا من حيث خلناهم يتعاطفون معنا.


ودون أن يطلب منّي الإذن، زحف على البنك حتّى طرفِهِ وقفز منه ليزحف حتّى بنك المتّهم ويرفع يديه طالبا من فائق أن يصفح عنه ويحمله. فما كان من هذا الأخير إلاّ أن استجاب له وانـحنى لأخذه إلى حضنه وظلاّ هكذا متعانقين.

(يتبع)
الهكواتي - تونس المدينة

*الرشيد إدريس، "أرق على ورق" – دار التّركي للنّشر – تونس 1990
**الرّشيد إدريس، "خيار العمر" – نشر على الحساب الخاصّ – تونس 2008

تعليقات

‏قال abdesslem zayane
أستاذ سالم

تحية طيبة وبعد

اني استفاد من قراءة ما تكتبونه لاني أتعلم منكم اللغة العربية

حاولت ان أبعث لكم برسالة لكن الساحرة الانترنات رفضت ذلك، رسالة أمس 18 جويلية 2008 وصلتني قي شكل أرقام .....

Delivery Status Notification (Failure)
Från: postmaster@mail.hotmail.com
Skickat:den 19 juli 2008 05:40:35
Till: abdesslem_zayane@hotmail.com



Säkerhetskontroll vid hämtning details00...txt (0,4 kB), RE Al Hak...mht (9,6 kB)


This is an automatically generated Delivery Status Notification. Delivery to the following recipients failed. salem@afrikart.net

- Vidarebefordrat meddelande som bilaga -
From: abdesslem_zayane@hotmail.com
To: salem@afrikart.net
Subject: RE: Al Hakawaty / Haikuteur : 3 en 1
Date: Sat, 19 Jul 2008 05:40:31 +0000


فما هو عنوانكم أو ان لا يزعجكم طلبي ولكم متسع من الوقت هل يمكن لمن ارسال الرسالة مرة أخرى

تحياتي الصادقة

عبدالسلام زيان

abdesslemzayane@hotmail.com

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

القصة والتراث

تكريم الهكواتي

أنا أيضا ... حوماني