مكتوب

سنتي على جناح السّرد – النّص 22 من 53 – 04 جويلية 2008

مكتوب

ما ولدت إلاّ لتلقاه ولم يولد إلاّ ليعترض سبيلها. كان هو يسكن حدائق الجنوب. أمّا هي فكانت تقطن جنوب الحدائق. ومنذ جاءا إلى الدّنيا تجنّد الجميع لتعليمهما الصّبر في انتظار لحظة اللقاء الحتميّ، ذلك الذي سيربطها بسموّ أمير فاتن على حصان ناصع البياض، وسيجمعه بجميلة أعجوبة في الغاب نائمة.

لَكَم حلم كلّ منهما بالآخر. فتمثّلته في خيالها فجرا وضّاحا وتصوّرها في أحلامه بدر تمّ ليلة صيف. ولأنه كان مقدَّرا أن يكبر كلّ في بيئته، فلقد علّمه محيطه أن يخرج، في الانتظار، للنّزهة على مشارف جنوب الحدائق، ومشاهدةِ الرّيح تنفخ في تلافيف الفساتين. وتعلّمت هي من وسطها أن تنشغل بالعمل في حدائق الجنوب لتحصيل بعض الدّنانير ثمنا لجهاز العرس، على أن تنتبه جيّدا كي لا تسمح أبدا للريح بالنفخ في تلافيف فستانها.
ولكن، لأنّها لم تكن تعرف لظهور أميرها من موعد، ولأنّه كان يجهل كيف تعمل الصّدفة لجمع العاشقين، فلقد جرّب هو أن يبتعد قليلا عند التجوال في حدائقه جنوبا، وتعلّمت هي العودة بشيء من التّأخير من الحدائق إلى جنوبها. حتّى جاء أخيرا يوم شهد تقاطع طريقيهما. ولكنّه تسلّح بكامل مروءته ليمنع من الخفقان قلبَه، وتسلّحت هي بكلّ حيائها لتمتنع عن سماع قلبها إذ يخفق.
ولَكَم نقم من فرط عفّته على نفسه التي سوّلت له أن يقول لها "مساء الخير"، ولَكَم وبّخت هي نفسَها على أنّها من فرط خجلها توقّفت تسمع منه التحيّة. فكان أن عاجلته بقول "مع السلامة" دون مزيد انتظار. وشرحت له أنّها موعودة لأمير حقيقي على حصان ناصع البياض. فأكّد لها بدوره أنّ جميلة نائمة حقيقية بصدد انتظاره في بعض الغاب.
ولكن، حين وجد كلّ منهما نفسه أمام مرآته، كانت قد تشكّلت في ذهنه أخيرا صورة مثاليّة لتلك المنتظرة في الغاب، وأضحت هي تعلم على وجه الدّقّة لمن يشبه أميرُها الفاتن.
إلاّ أنّه كان مكتوبا عليهما أن يكونا من النّاس المؤمنين. وما كان لأحد أن يعتبر جاهلا بما شرّعه المكتوب. لذلك فقد فعل هو كلّ ما في وسعه كي يكفّ عن الحلم بجميلة جنوب الحدائق. ونسجت هي على نفس المنوال حتّى تطرد من حافظتها ذكرى لقاء في حدائق الجنوب. ولكن عبثا كانا يحاولان النّسيان. فلحظات السّعادة القصيرةُ تظلّ في الذّاكرة منحوتة إلى الأبد.


*****

ومرّ الوقت بأسرع ممّا يسمح بتجاهل ثقل مروره. وكلّما تتالت الأيّام تبيّن لهما بمزيد من الوضوح أنّ الانتظار كان أسوأ اختيار. فكان من عاجل الشّؤون أن يصرف كلّ منهما اهتمامه إلى ما خطّه له القدر. فاستأنس هذا وتلك بنصائح من كان حولهما أكثر خبرة منهما. فقيل له إنّ لقاء المكتوب يقتضي التّرحال للبحث عمّا أخفاه له القدر في أرض الله الواسعة. وأُجيبت هي بأنّ المكتوب هو الذي من شأنه المجيء لطرق بابها لكشف المستور من السّطور، وأن لا جدوى من كثرة قطع الصّحارى والتنقّل بين البراري.
ولأنّ كلاّ يؤمن بربّه كما علّموه، فقد أعدّ هو زاده وبارح حدائق الجنوب في رحلة مرهقة طويلة. وقنعت هي بالبقاء في جنوب الحدائق، مسلّمة أمرها لانتظار مؤلم مقلق. وهكذا تكفّل الزّمان بتعليمهما أنّ الحياة تُهدي من يبتعد عن بيته، ساعاتِ سعادةٍ كثيفةً وأخرى مليئةً بالحزن والألم، كما تهَبُ من لا يبرح مكانه أيضا، ساعاتٍ مشحونةً بنفس القدر من الفرح يأتي من حيث لا يُنتظر وأخرى مترعةً بنفس الجرعة من الألم ينبع من حيث لا يُتوقّع.
*****
ثمّ كان من السّنّ أن تقدّم، فقضى على من كان مغتربا بأن يعود وعلى من ملّت في بيتها الاختناق بأن تتأخّر في شمّ الهواء أكثر فأكثر، كلّ يوم. وإذ كان متاحا لكلّ من يبتعد قليلا متجوّلا في حدائقه جنوبا، أن يعترض بعض من يتأخرون في العودة من الحدائق إلى جنوبهم، فقد كان مسطورا أنّ المكتوب يجمعهما ثانية على ذات الطّريق.
قال لها إنّها لئن تغيّرت تماما، فقد ظلّ فيها شيء ما لا يمكن شرحه، يدفع إلى الاعتقاد أنّها هي بعينها من اعترضت سبيله يوما ما في نفس المكان. وأجابته بأنّها تحمل تماما نفس الانطباع. فلئن لم يعد له، هو الآخر، نفس الملامح، فلا شيء يبرّر الشّك لحظة في كون طريقيهما تقاطعا بالفعل لبرهة.
ولكن، لا هو فكّر ولا هي، في السؤال عن الأمير الفاتن ولا عن الجميلة النائمة في الغاب. إلاّ أنّه لم يجد أيَّ حرج، ولا هي وجدت، في أنّه تجرّأ ثانية على قول مساء الخير أو في أنّها تأخّرت، هذه المرّة، في قول مع السّلامة. ودون اعتراف من أحدهما بخسارة الرّهان، عاد كلّ إلى بيته ليواصل من جانبه انتظار اللقاء الموعود.
ولكن لا أحد منهما تصوّر، وهو ينظر إلى وجهه جيدا في المرآة، أن الآخر لم يكن ليختار سواه توأما لروحه، لو لم يكن تربّى على انتظار ذلك الذي لم يأت من تلقاء نفسه بعد والذي قد لا يجيء أبدا.


ولكم طال بهما الزّمان قبل أن يفهما، ساعة نزل الملاك، أخيرا، ليرافقهما في رحلة الختام، أنّ المكتوب لا يطرق نفس الباب أكثر من مرّتين.


الهكواتي - تونس

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

القصة والتراث

تكريم الهكواتي

أنا أيضا ... حوماني