بوصلة سيدي النّا... 18 مخبأ القمر

سنتي على جناح السّرد 48 من 53 // بوصلة سيدي النّا... 18 من 23– 30 جانفي 2009

المسلك الثاني :

صوّان فوق الكثبان

الوجهة السابعة :

مخبأ القمر

"علاقة هذا بالواقع محض خيال"- الهكواتي

أين يختبئ قمر الليالي الظّلماء ؟ هذا هو الإشكال الحقيقي. لو عرفت المخبأ، لفهمت ربّما سرّ كلّ هذه العتمة التي تعمي بصيرتي وتلتفّ على ذاكرتي فتمنعني من الوصول إلى آخر طريقي. حتّى في الحلم، يظلم المشهد فجأة، وفجأة يختفي القمر في مخبئه المجهول. فأجدني أسبح في الغياهب، ولا أدري إن كنت سأستيقظ أم أنّ كابوسا جديدا سيتلقّفني ساخنا مع مطلع قمر جديد.

... متعوّد على العتمة. وحدي من جديد، ممدّد على محفّة، وعلى عينيّ عصابة سوداء. قاعة الاستماع تسبح في الظّلمة. وممرّض السّجن فظّ غليظ القلب، يطبّق تعليمات رؤسائه ولا يريد حتّى سماع رأيي. أصيح فيه بأنّني أعترف بأبوّة ميارى دون أيّ حاجة إلى تحليل جينيّ. ولكنّه يغرز في عرقي، مع ذلك، إبرة بطول الرّمح، ليملأ من دمي قارورة كاملة. ثمّ ينصرف ضاحكا منّي، بينما لا رغبة لي في الضّحك.

*****

... مغارة بونيّة منقورة في الصّخر على رشم الماء. ياه ... جزيرة الغدامسي أخيرا... كيف وصلت إليها من الوطن القبليّ في جرية واحدة ؟ هي ولا شكّ حرارة الرّوح كما تقول خدّوجة الجعيّد. منذ متى لم تسعفني أحلامي بمثل هذا الحدث السّعيد ؟ أخيرا أعود إلى البلد. وأُفلِت من صاحب الحمار وعصابته. ولكنّني أرى كما لو أنّني أشعر بالخجل من نفسي وأخشى العودة إلى البيت... لذلك أقنع نفسي بالبقاء في الجزيرة، لعلّ عيشوشة تشتاق إليّ قليلا فتأتي للقائي، أو لعلّ عابرا يتفطّن إلى حضوري، فيصل الخبر هكذا إلى باب تونس، ويأتي الجميع لإرجاعي إلى البيت من جديد، كما كانت المرأة الغضبانة تعود إلى دار زوجها قديما... صورة تبعث على نوبة جديدة من الضّحك الاّإراديّ، لا نهاية لها...
... مغارة بونية منقورة في الصّخر على رشم الماء. ولكنّ كلّ ما فيها ينذر بالانهيار. شقوق تتّسع شيئا فشيئا، حتّى ليبدو لي أنّني أسمع قرقعة الصّخور وهي تتمزّق فينفصل عن بعضِها بعضُها الآخر. هل سيتحوّل الحلم إلى كابوس جديد، ونوبة الضّحك إلى نوبة دموع ؟ ولكن أين المارينا ؟ هل نقلوها من موقعها ؟ صورة أخرى تبعث على نوبة أخرى من الضّحك. لماذا لا أسأل الحارس الملفوف في عباءته اتّقاء البرد ؟
- لا توجد مارينا في الهوّارية. ولكن كيف دخلت إلى هنا ؟ الدّخول إلى الموقع ممنوع منعا باتّا، وبخاصّة في الليل. ألا تحسن القراءة ؟
... محمّد الأمجد بريقشة لا يحسن القراءة ؟ نكتة أخرى، نوبة ضحك أخرى. الحارس الملفوف في عباءته اتّقاء البرد يغضب من قهقهتي. يأمرني بإخلاء المكان حالاّ حتى أتجنّب ما قد يلحق بي وبه من تبعات. ولكن إلى أين عساني أذهب ؟ إذا كنت ما أزال في الهوّاريّة، فمعناه أنّ عصابة صاحب الحمار مازالت، ولا شكّ، تترصّدني على الرّبوة. أغافل الحارس وأتسلّل إلى مغارة أخرى متداعية للسقوط هي الأخرى. فأتخذها ملجأ. ولتنهر بالكامل على رأسي إذا عنّ لها الانهيار.
... مغارة بونية منقورة في الصّخر على رشم الماء. واللّيل سرعان ما يدلهمّ. القمر يختفي من السّماء. ينطفئ شعاعه الفضّي من على صفحة الماء. فإذا أنا أسبح في ظلام دامس، عتمة لم أر مثلها في حياتي قطّ. ولولا صوت الماء يهمس خريره للصّخور النّاتئة، في مدّه وجزره، لبدا لي أنّ الحياة انقطعت فجأة. فالصّمت هنا أحلك من الظّلمة ذاتها. ولكن، أين يختبئ قمر الليالي الظّلماء ؟

*****

... متعوّد على العتمة. قاعة الاستماع تسبح في الظّلمة. أخيرا تصل الأستاذة محاميتي إلى السّجن. ترفع من على عينيّ العصابة السّوداء. وتفتح الشبّاك ليدخل نور النّهار:
- سنطالب في الحال بفحص نفسي قصد الحصول على مهلة قبل إخضاعك إلى الاستجواب الرّسمي. لا أريد أن يتمّ عرضك على الطّبيب النّفسي بناء على طلب التحقيق. لأنّ مهمّة الطّبيب تكون، عندئذ، التّأكّد ممّا إذا كنت مريضا فعلا أم أنّك تتصنّع المرض. أمّا حين نطالب نـحن بالفحص، فإنّ مهمّة الطّبيب ستكون البحث عمّا إذا لم يكن من الظّلم إخضاعك للتّحقيق أصلا، وإزعاجك بأسئلة من شأنها أن تعكّر حالك النّفسيّة. هناك فرق في الطّرح القانوني، يا سي الأمجد، فرق بسيط ولكنّه جوهريّ.
- افهميني يا أستاذة، أنا لا أريد لقاء طبيب. أريد فقط أن أعرف أين يختفي قمر اللّيالي الظّلماء. فهذا هو الإشكال الحقيقي. لو عرفت المخبأ، لفهمت ربّما سرّ كلّ هذه العتمة التي تعمي بصيرتي وتلتفّ على ذاكرتي فتمنعني من إعطائهم أجوبة واضحة عن كلّ أسئلتهم.
- آه، والله ؟ يمكن، يمكن... ولكن هناك، في انتظار عرضك على الطّبيب، مسألة أخرى مهمّة أريد أن أنبّهك إليها، يا سي الأمجد. في خصوص ميارى بنت عيشوشة العجل. لا تقل لأحد مستقبلا إنّك تعترف بأبوّتك لها أو لا تعترف. فهذا شأن لا يهمّ غيرنا. كلّ تصريح يصدر عنك هنا يسجّل في ملفّك. النّاجي العجل سحب القضيّة المقدّمة ضدّك. هذا خبر مهمّ سنبني عليه. سأستغلّها فرصة، فأذهب إلى المخبر وأسحب من ملفّك التحاليل التي أجريت لك. وسيكون أمامنا الوقت، بعد فضّ القضية الأساسيّة، للتعامل مع مسألة ميارى بما يرضيك.

*****

... متعوّد على العتمة. الكون يظلم أمام عينيّ حتّى في وضح النّهار. كلّ عيون العالم تبصر جيّدا. إلاّ عيناي أنا بالذّات، فهما تعميان كلّما أحتاجهما لرؤية ما أبحث عنه. تازغران مثلا. نعم، أرى كلّ ما حولي. إلاّ تازغران، فأحوم حولها ولا أصل إليها أبدا. تعود الذّاكرة وتمضي الذّاكرة. يمضي الوعي ويعود الوعي وأنا أبحث عن تازغران، أو أستريح من البحث دون جدوى عن تازغران. لا أعرف لماذا، ولكنّ شيئا ما يدفعني إلى ركوب ظهر هذا الحمار والبحث دون كلل عن تازغران بالذّات. ولأنّني أصرّ على الوصول إليها، فهي تتعمّد التّموقع، ليلا ونهارا، في موضع العتمة من أفق رؤيتي.
ما اعترض طريقي أحد إلاّ سألته عن الطّريق. وما سألت أحدا إلاّ ضحك منّي وقال إنّ الطّريق واضح وإن ليس أسهل من الوصول إلى تازغران :
- آه، تازغران، تازغران. هْنَايَا ؟ ما على باليشْ يالْخُو أنَايَا غِيرْ تُورِيسْتْ هْنَايَا. بْحَالْ عَنْدِي وَاحْدِ الصَّدِيقْ دَيَالِي أمازيغي. وْنَعْرَفْ بِاللِّي تازغران، تْقُولْ انْتَايَا، بَالِكْ شِي الحمراء، وإلاّ الأحمر، اللّون الأحمر... أمّا بلاد، مَا عْلَى بَالِيشْ. وَلَكِينْ هْنَايَا، فْتُونِسْ، صْعِيبْ يَالْخُو. مَا كَايِنْشْ أَمَازِيغْ. بِالصَّحْ عِنْدْنَا فِي دْزَايِرْ مُمْكِينْ...(1)
لو لم أكن أعرف أولاد بوجمعة وزوجة بوجمعة، لقلت إنّه بوجمعة، وقد خلع عنه القشّابيّة وحلق شعر رأسه كما تُحلق اللّحى، وهرب بأهله من ضيعة السّلوقية، تاركا قطيع الحاجّة هنيّة لمصيره، ممتطيا سيّارة جزائريّة التّسجيل، ليسوح في قربص كأغنياء بلده الأصليّ. صورة أخرى مضحكة جدّا. ولكنّني أكبت ضحكتي مجاملة منّي حتّى تبتعد السّيّارة ثمّ أطلقها قهقهة تردّد أصداءها الجبال المحيطة وترتعد لها فرائص الحمار، فيتعثّر. ويختفي القمر فجأة. فيبدو لي وكأنّني أفقد سيطرتي على الدّابّة وأسقط، أعمى، لا أرى شيئا من حولي.

*****


... مغارة بونيّة منقورة في الصّخر على رشم الماء. وفي عرض البحر، صخور ناتئة وأمواج تعلو متلاطمة، ولا قمرَ ينير السّبيل. كلام كثير عن مركب ارتطم بصخرة، وعن ثقب تسرّبت منه المياه، وعن ثلاثين كلّهم دون الثّلاثين. نشدوا الحرقان إلى بلاد الطّليان فغرق منهم من غرق، والمنقذون مازالوا يبحثون عن البقيّة.

... في عرض البحر صخور ناتئة وأمواج تعلو متلاطمة، ولا قمر ينير السّبيل. وأعوان الحماية المدنية يحاولون العثور على ناجين، يرسلون أضواءهم الكاشفة من الزّوارق والمروحيّات، ويعملون على انتشال الجثث. وعلى اليابسة سيّارات الإسعاف تغدو وتجيء. تفتح أبوابها الخلفيّة لتستقبل الحارقين، جثثا هامدة أجسادا مرتخية فيها بقايا حياة.
... أعوان الحماية المدنية يحاولون العثور على ناجين. والشاطئ في هرج ومرج. على الرّمل صياح ونواح وحلقات نديب، وعلى الكرنيش ديار مفتوحة تضامنا مع الأمّهات الثّكلى. وهنا وهناك مئات الأهالي، ساهرون في انتظار رحمة الله، عسى تأتيهم بأخبار عن فلذات أكبادهم.
... الشاطئ في هرج ومرج. وأنا ؟ أيّ شأن لي أنا، حتّى أجدني هنا رائحا غاديا مع المنتظرين، أو متحلّقا مع النادبات والنّادبين ؟ فجأة يتهيّأ لي وكأنّ امرأة في عمر صلّوحة الجعيّد تهجم عليّ. تمسكني من رقبة قميصي كما لو أنّها تقبض على مجرم وتصيح بي :
- أخيرا قبضت عليك يا ابن الكلب. ألست أنت ولد خدّوجة ؟ ألست من جئت إلى القصرين في سيّارة الأستاذ القفصيّ وقابلت ابني كريم في مقهى المحطّة ؟
- نعم أنا ولد خدّوجة الجعيّد. ولكن، من قال لك إنّ كريم حرق؟ ليس هذا أكثر من كذبة يا سيدتي. لو حرق كلّ التّونسيين على آخرهم فإن كريم أولاد بالعيفي سيمتنع من تلقاء نفسه عن اقتفاء أثرهم. أنا أذكر له في حبّ تونس قصائد عدّة أجرت دموعي، لشدّة ما تأثّرت بكيفيّة إنشاده استحالة العيش بعيدا عن ترابها. لا يا سيّدتي. لا تصدّقي أبدا أنّه حرق ولا أنّه غرق.
- لن تنجح في خداعي بزيف كلامك المتظاهر بالتّعاطف يا ابن الحلّوفة. فأنت ممّن يقتلون الميّت ويمشون في جنازته. ألست أنت صاحب الزّورق ؟
- لا...
- كاد قلبي ينقطع عن النّبض يوم أعلمني كريم بأنّه مسافر وبأنّه تلقّى منك مكالمة تدعوه فيها إلى منزل بوزلفة ليعمل معك في جني البرتقال...
- ولكنّني قلت لبشرى التوكابري إنّ هذه التّهمة لا أساس لها. أنا لم أكلّم كريم أولاد بالعيفي أبدا، أبدا. فليس لي هاتف أصلا ولا أملك رقمه. ثمّ إنّني من باب تونس. ولست من منزل بوزلفة ليكون عندي برتقال للجني.
- لماذا تفعل بي هذا يا ولد بريقشة ؟ وأنت يا ربّي لماذا تأخذ منّي فلذة كبدي، وليس لي سواه ؟ لقد فرضت عليه أن يحلف على القرآن بأنه لن يحرق إلى الطليان كما يفعل المغامرون. حلف ولكنّ ها هو يحنث. كان يعيش فقط على أمل السّفر إلى الخارج. عملت على حجز جواز سفره، وعلى أن لا أتركه يستقلّ الحافلة إلاّ بعد أن يحلف لي. ولكن، أنت من غرّرت به يا ولد خدّوجة، وأنت من تعيده إليّ حيّا، وإلاّ فإنّي والله أسمل عينيك بأظافري.
... في عرض البحر صخور ناتئة وأمواج تعلو متلاطمة، ولا قمر ينير السّبيل. وعلى الشّاطئ أعوان الحماية المدنية يخرجون بجثّة هامدة، يضعونها على محفّة ويسيرون بها نـحو سيّارتهم. وأنا، مع الفضوليين أطلّ على الغريق :
- آه... آه... يا كريم... آه... آه... يا أولاد بالعيفي... آه... آه... يا شاعر الغد، ماذا صنعت بنفسك ؟ لماذا تنجرف وراء سراب الشّمال ؟ لماذا تنزل من علياء الشّعانبي لتهلك هكذا على هذا الشّاطئ ؟ لماذا تحرقون جميعا ؟ آآآآآآآه... لو كنّا نعرف أين يمضي قمر الليالي الظّلماء، لكنّا فهمنا ربّما سرّ كلّ هذه العتمة التي تعمي بصائرنا وتلتفّ على ذاكرتنا فتحرمنا من الوصول إلى حيث نريد. بل تمنعنا من التفكير في الاستقرار على اليابسة حتّى لا يلتهمنا البحر. هذا هو الإشكال الحقيقي...
... في عرض البحر صخور ناتئة وأمواج تعلو متلاطمة، ولا قمر ينير السّبيل. وعلى الشّاطئ أمّ ثكلى تقسم على الثّأر لابنها الممدّد على المحفّة. ها هي تهجم على ابن خدّوجة الجعيّد، القابع الآن في زنزانته، مع علمها بأنّه بريء. ها هي تغرز أظافرها في عينيّ وتقتلعهما فأعود إلى السّباحة في العتمة من جديد.

*****

... متعوّد على العتمة. قاعة الاستماع تسبح في الظّلمة. وحدي من جديد، ممدّد على محفّة وعلى عينيّ عصابة سوداء. وأنا أصيح :
- بريء والله من محاولة الحرقان ومن تنظيم رحلات الحرقان. صحيح أنّني من عائلة بحّارة، ولكنّ الزّورق ليس زورقي، ولا اشتغلت عليه أبدا مع أحد. صحيح أيضا أنّني قابلت كريم أولاد بالعيفي في القصرين في ظروف لا أتذكّرها إلى الآن، ولكنّني ما دعوته إلى منزل بو زلفة، ولا قابلته فيها ولا علمت بخبر اعتزامه الحرقان أبدا.
... متعوّد على العتمة. قاعة الاستماع تسبح في الظّلمة. ووقع خطى بشرى التّوكابري تزورني في سجني. اقرصيني يا أمّيمتي. أقرصيني بسرعة. لقد تذكّرتها الآن. أيقظيني لأقول لهم الحقيقة كاملة. أين أنت يا دي جي؟
- هل تذكّرتني الآن، يا سي الأمجد ؟
- بشرى ... الله لا يبارك لك. ماذا تصنعين في السّجن في هذا الليل المظلم، والقمر مختبئ في مكان مجهول ؟ ثمّ لماذا تقتحمين عليّ حلمي، وتَكْسَرِينَ لي هذا السّين المهزلة فتضحكينني، وما لي رغبة في الضّحك؟ قولي، يا بشرى، لماذا انفصلتِ عن عَشِيري فارس الخميري ؟
- ألا تخجل من نفسك، يا سي الأمجد ؟ أنا أريد أن أنقذك، وأنت مصرّ على الهلاك. لماذا تقول إنّك لا تتذكّر ؟
- وأنت، لماذا تصرخين هكذا ؟ إذا قلت إنّني لم أتذكّر فلأنّني فعلا لم أتذكّر. آخر عهد لي بك يعود إلى أيّام علاقتك مع فارس الخميري. مازالت في ذهني صورتك وأنت تقطعين كعكة عيد ميلادك وتقسمين، بحقّ عدد شموعها الأربعة والعشرين، على أن تبقي وفيّة له مدى الحياة. ثمّ يصلني فجأة خبر أشنع من الكفر بآلهة الحبّ، يا بشرى. خبر بأنّكما انفصلتما. وبأنّ فارس لم يجد من وسيلة لتحمّل الصدمة، سوى قطع كلّ اتصال بنا جميعا، وهجر البلد ليدفن حزنه عليك في حضن عجوز بلجيكيّة. فجأة، انقطعت عنيّ أخباره وأخبارك. فأظلم الكون في عينيّ، يا بشرى. أنتما تفترقان ؟ العيب على القمر يا توكابري. لا أعرف أين يذهب حين يختفي. لذلك، أسقط في منطقة العتمة دائما، فلا أتذكّر شيئا.
- والآن ؟
- الآن تذكّرت. تذكّرتك في مقهى بومخلوف في الكاف. تجلسين على الدّكّانة وفي رقبتك آلة تصوير ومن حولك شباب لا أعرف أحدا منهم. لم أفهم لماذا صددتني يومها وكأنّك لم تكوني صديقتي، أو كأنّ انفصالك عن فارس الخميري قد محا كلّ الودّ الذي كان يجمع بيننا.
- ونوفل الوشّام، هل فهمت لماذا اختفى فجأة حين جئت تكلّمني ؟ هل تعرف أين ذهب ؟
- أه صحيح ... نوفل الوشّام... الآن أتذكّر هذا الاسم... هذا أيضا ما لم أفهمه يا بشرى. لم يكن من طبعه أن يتركني في مثل ذلك المأزق. ولم أكن أتصوّر لحظة أنّه، يومها، كان يريد التّخلّي عنّي. لقد عرفته رجلا كريما أحسن إليّ شهورا. آواني وأطعمني لوجه الله.
- بل قل إنّه رجل مجرم، يا سي الأمجد، وتستّرك عليه سيجني عليك. ألم تكن تعلم أنّه رئيس شبكة تتاجر بالممنوعات عبر الحدود مع الجزائر ؟ كيف وصلت إلى مخالطة هؤلاء الرّهط ؟ وماذا كنت تصنع معهم ؟ شاهدك المخبرون في سيّارة نوفل الوشّام تعبر الحدود في الاتجاهين. ألا تتذكّر هذا على الأقلّ ؟
- ضباب. ضباب يا بشرى، والعيب على القمر إذ يغيب فلا أعرف أين يمضي.
- اسمعني جيدا يا سي الأمجد. لا تلتجئ لهذه التّعابير المبهمة للالتفاف حول السّؤال والهروب من قول الحقيقة. الآن وقد تذكّرت لقاءنا بالكاف، فليس أمامك إلاّ أن تتذكّر أيضا كلّ شيء عن نوفل الوشّام. عليك أن تمدّنا بكلّ المعلومات عنه.
- وما شأنك أنت بنوفل الوشّام ؟ هل جئت لزيارتي، أم أنت أيضا متواطئة ضدّي مع البوليس ؟
- ستفهم كلّ شيء في الإبّان. لا يوجد هنا أحد غيري مقتنع بصدقك. كنت واثقة، من يوم ألقي القبض عليك، من أنّك مصاب في أعصابك. أنا من تدخّلت لأجعل رئيسة المصلحة تتولّى شأنك بنفسها. لقد بذلت كلّ جهدها لمساعدتك على استرجاع ذاكرتك. ولكنّك لم تساعدها بالمرّة على إنقاذك. وأنا من حدّثت عنك بالصّدفة نادية بالعيساويّة. كنت على علم بمشاكلها، فروت لي كلّ شيء. ونجحت في إقناعها بأن تدلي بشهادتها على مقابلتكما في منزل بوزلفة، حتّى تنقذك من تهمة المشاركة في قتل الحاجّة هنيّة. وأنا ختاما من صوّرتك في الكاف مع عملة الحضائر.
- هل تقصدين أنّك ... ؟
- لا حاجة لمزيد إعمال السّكيّن في الجرح الحيّ يا سي الأمجد. نعم، أنا ضابطة شرطة. وإنّي في هذه المهنة منذ كنت طالبة. وهذا ما جعل فارس يتخلّى عنّي يوم اكتشف الحقيقة. يوم رأيتني في قاعة شاي بومخلوف كنت وبعض الزملاء الشّباب ننتظر وصول قوات دعم تساعدنا على القبض على نوفل الوشّام. فإذا أنت تنحشر بيننا فتفسد كلّ شيء. لفتّ نظره إلى وجودنا وأحدثت بلبلة ساعدته بها من حيث تدري أو لا تدري على الإفلات منّا. أنت من أفسدت خطّتنا للقبض عليه يا سي الأمجد. لقد كنت سببا في فشل مهمّتي وعليك الآن أن تستجمع كلّ ذاكرتك لتقول لنا كلّ شيء وتساعدنا على العثور عليه من جديد، وإلاّ فلا مناص من اعتبارك شريكا له. وعندها، لن أستطيع لك شيئا.


*****
... متعوّد على العتمة. قاعة الاستماع تسبح في الظّلمة. وبشرى التّوكابري لم تكن من البداية إلاّ عون شرطة. من كان قادرا على تصوّر كلّ هذا ؟ وكيف لا أصاب بالعمى حتى نهايتي ؟ لماذا يا ربّي تغيّب القمر ولا تهديني إلى المكان الذي فيه أخفيته ؟ لماذا يا ربّي تجتثّني من جنّة النّسيان لتحشرني في أتّون اكتشاف أوهامي المعتّقة ؟ لماذا يا ربّي تعيد لي كلّ هذه الذّكريات ولا تسعفني بوضوح الرّؤية لتعزّيني ؟
... قاعة الاستماع تسبح في الظّلمة. وأنا وحدي ممدّد على المحفّة كما كنت أبدا، تنهشني الحمّى والأسئلة. ياسين بالأغنج، البدويّ المثالي المتشبّث بالأخلاق، يشتغل بالبغاء ويموت مقتولا في تصفية حساب. عبد الحفيظ بالطّالب الرّبعاوي، النّزق ابن النّزق، حفّة الجيغولو، يصبح زعيما إخوانجيّا، فيسعى إلى انتدابي وتهريبي ثمّ يأمر بضربي على جمجمتي وتركي عرضة للموت في الصّحراء. كريم أولاد بالعيفي، الشّاعر محبّ البلاد، يضطرّ إلى الحرقان فيغرق في عرض البحر حتّى أتّهم أنا بحثّه على "الحرقة" التي أدّت إلى وفاته. وختاما، بشرى التوكابري... بشرى، حفيدة لينين... بشرى، سليلة الشّي غيفارة... بشرى، التي كانت تؤكّد إصابتها بالقرف من مجرّد سماع كلمة بوليس، كانت هي بالذّات ضابطة شرطة.
... قاعة الاستماع تسبح في الظّلمة. وكلّ هذا الضّغط على أعصابي يتجاوز كثيرا طاقتي على التّحمّل. العيب على القمر يا فارس. العيب على القمر يا خميري البهلول. العيب على القمر يا سيدتي رئيسة المصلحة. يختفي القمر فلا أعرف أين يذهب...
أو لعلّ السّبب أنّكم أخذتم منّي بوصلة سيدي النّا... أعيدوا إليّ بوصلة سيدي النّا... يا سيّدتي. أعيدوا إليّ بوصلتي بسرعة.
- ما حكاية هذه البوصلة يا سي الأمجد ؟ أختك رشيدة جاءتنا تريد أن تسترجعها. قلنا لها إنّك لم تكن تحمل بوصلة معك حين قبضنا عليك.
- بلى، كانت عندي بوصلة. وأنتم من أخذتموها منّي وأضعتموها. أعيدوا إليّ بوصلتي.
*****
... مغارة بونية منقورة في الصّخر على رشم الماء. كلّ ما فيها ينذر بالانهيار. شقوق تتّسع وتتّسع. وأنا أنقل مقيّدا من غرفة متشقّقة إلى غرفة أكثر تشقّقا. ها أنا مقيّد اليدين والرجلين والبطن والصدر والعنق، ممدّد على المحفّة في العتمة، والأمواج في الخارج ترتفع دائما وتصطخب، والرّيح تصفّر من بين الشّقوق ألحان سمفونيّة للرّعب. أسلاك كهربائية مشدودة إلى جلدي على كامل جسدي. جهاز كشف الكذب والنّفاق والتمثيل والأمراض العصبية المستعصية. طبيب آليّ يطرح أسئلته بطريقة آلية ولا ينتظرني حتّى أجيبه :
- اختبار الحقيقة... اختبار الحقيقة... المتّهم محمّد الأمجد بن الحبيب بن البحري بريقشة. تشعر شعورا صادقا تسلم. تضطرب، تتوتّر، تتصنّع مشاعر الزّيف، أو الأفكار الخاطئة، تجبر دمك على البرود، إلخ، إلخ... نـحقنك بالكاشف المعرّي، حقنة بعد حقنة، حتّى نعرّيك تماما. وهكذا يتبيّن الخيط الأبيض تلقائيّا من الخيط الأسود. مفهوم ؟ لنبدأ.
وتنزل الأسئلة كهطول المطر لا يتوقّف: من أنت ؟ ما علاقتك بصاحب الزّورق ؟ كم تقبض على كلّ حارق تستدرجه ؟ لماذا قتلت كريم أولاد بالعيفي ؟ من عرّفك على نوفل الوشّام ؟ كم مرّة قطعت الحدود الجزائريّة ؟ هل أنت مشارك في اغتيال ياسين بالأغنج ؟ ما كان دورك في أحداث الحوض المنجمي ؟ كم تقبض مقابل كلّ مومس تجلبها للحرفاء ؟ هل أنت من افتضّ بكارة عيشوشة العجل ؟
- لا إلاّ عيشوشة... ارفعوا ايديكم عن عيشوشتي...
- احقنوه ....
- آ آ آ آ آ آ ه...
بعد كلّ حقنة جديدية سلسلة أسئلة جديدة :
من تكون حتّى لا تشتغل عند عامر البينتو ؟ أين أخفيت البوصلة ؟ ما سرّ بحثك الملهوف عن تازغران ؟ ما علاقتك بحفّة الجيغولو ؟ أين ذهبت بين يوم تلقّيك ضربة على جمجمتك ويوم ظهورك مع نوفل الوشّام بالكاف ؟ من أوحى لك بفكرة تصنّع فقدان الذّاكرة ؟ من عرّفك على سفيان الجريدي ؟ هل هو أيضا شريك لك في تجارة الحرقة ؟ من هم أفراد العصابة ؟ وجدنا حافظة نقودك وأوراقك في سيارة مسروقة، من أين سرقتها ؟ من منكم المكلّف بتدليس الوثائق ؟ من الذي يثبت أنّ ميارى من صلبك وليست من صلب عامر البينتو ؟
- لا ... كلّ شيء إلاّ عيشوشة... كلّ شيئ إلاّ ميارى ... ارفعوا ايديكم عن عيشوشتي... ارفعوا أيديكم عن ميارتنا.
- احقنوه ....
- آ آ آ آ آ آ ه...
تتتالى الأسئلة وتتشابه. وتتتالى الحقن وتتشابه هي الأخرى. وكلّ هذا يفضي أخيرا إلى تقرير الاختبار :
- اسمعوا وعوا... آخر قرار، آخر قرار... نـحن الرّوبوت ابن الرّوبوت، السّاهر على تنفيذ اختبارات الأمراض العصبية المستعصية، نعلن أنّ أعصاب المتّهم محمّد الامجد بريقشة سليمة. ونشهد، بعد الاختبار الدّقيق، بأنّه صاحب ذكاء فوق المتوسّط بكثير، وقدرة عجيبة على التخييل، وموهبة لصياغة الكذب بشكل يدعو إلى تصديقه. ونؤكّد أنّ ذاكرته سليمة وإدراكه كامل. أمّا هذيانه فهو أكثر منطقا وأحكم تنظيما من أن يعتبر مرضيا. وبناء عليه، فنـحن الرّوبوت ابن الرّوبوت، نعلن المتّهم صالحا للإخضاع إلى التّحقيق بشكل عادي. ونقرّ إمكانية اعتبار أقواله أدلة عليه. كما نأذن بإخراجه حالاّ من مستشفى الأمراض العقلية وإعادته إلى زنزانته.

... مغارة بونية منقورة في الصّخر على رشم الماء. كلّ ما فيها ينهار على رأسي. يخلع الممرّضون ميدعاتهم البيضاء ويرتدون أزياء رجال الشرطة. ها هم يفكون من جسدي أسلاك الكهرباء ويفصلونني عن جهاز كشف الكذب وما إليه. ها هم ينتشلون جثّتي من تحت الأنقاض ويقودونني إلى السّجن من جديد. إليّ يا دي جي، أقرصيني يا أميمتي قبل أن يستفحل الكابوس نهائيّا. أقرصيني يا أميمتي قبل أن يفوت الأوان...

الهكواتي .../... يتبع
-----------
(1) آه تازغران، تازغران. هنا ؟ لا أعرف يا أخي أنا هنا سائح فقط. ولكن عندي صديق أمازيغيّ. وأعرف أنّ تازغران يمكن أن تعني، كما تقول أنت، الحمراء أو الأحمر أو اللون الأحمر. أمّا أن تكون قرية، فلست أدري. ولكن هنا في تونس يصعب أن تجدها يا صاحبي. لأنه لا يوجد أمازيغ. أمّا في الجزائر فهذا ممكن...

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

القصة والتراث

تكريم الهكواتي

أنا أيضا ... حوماني