بوصلة سيدي النّا... 16 هاوية النّسيان

سنتي على جناح السّرد 46 من 53 // بوصلة سيدي النّا... 16 من 23– 16 جانفي 2009

المسلك الثاني :

صوّان فوق الكثبان

الوجهة السادسة 1 :

هاوية النّسيان

"علاقة هذا بالواقع محض خيال"- الهكواتي


لأسباب أدبيّة بحتة لا علاقة لها بالرّقابة، وردت توصية استثنائية بالإشارة إلى المصدر هنا على النّحو التّالي :
"هذه أيضا مقتطفات من وثيقة مستخرجة من ملفّ المتّهم محمّد الأمجد بن الحبيب بن البحري بريقشة. الوثيقة الأصلية تدوين لتسجيل اللقاء رقم....... الذي جمع المتهم بالسّيدة......... رئيسة مصلحة .................. وذلك صباح يوم .............. في قاعة الإصغاء رقم ................ "أفرغها" على الحاسوب ومنه على الورق : راء باء تاء. اختار المقتطفات: هاء سين لام (هسل).

.................

..................................................................................................................................................................................................
- ها أنت أخيرا تقرّر أخذ الكلمة من جديد. هل نمت جيّدا ؟
- نعم.
- هل تشعر، على الأقل، بشيء من التّحسّن ؟
- نعم. قليلا.
- جاءت أختك رشيدة مع زوجها أثناء نومك. وجاء ابن خالتك وجاءت جارة لكم. كلّهم طلبوا تصريحا بالزّيارة فرفضت مطالبهم لتمكينك من الاستراحة.
- أحسن... أنا لا أريد رؤية عامر البينتو.
- بعد هذه الأيام الطويلة من الصّمت، أعتقد أنّنا سنبذل أخيرا بعض الجهد الإضافي.
- منذ التقينا آخر مرّة، عادت أحداث كثيرة إلى ذاكرتي، ولكن من تلك التي لا علاقة لها بقضيتي. أمّا الأحداث المطلوب منّي تذكّرها، فمازال رأسي يؤلمني كلّما حاولت التّركيز عليها. وفي كلّ مرّة يشتدّ بي الألم، فأنجذب إلى النّوم، وأفقد الذّاكرة من جديد.
- سنحاول العمل، لو أردت، بطريقة مختلفة شيئا ما. هدّئ أعصابك جيّدا، وحاول هذه المرّة أن تجيبني فقط على قدر أسئلتي. ربّما تيسّر لك بعد هذا استحضار الأحداث دون مساعدة مني. قل لي، هل تذكر، من بين معارفك أيام الجامعة، طالبا اسمه عبد الحفيظ بالطّالب ؟
- حفّة الرّبعاوي ؟ طبعا أذكره. كنّا في فترة ما أصدقاء. كان يدرس الفن المسرحي. سكنت معه في نفس الغرفة بالحي الجامعي ببن عروس قبل أن أنتقل إلى رأس الطّابية. كان وقتها في السّنة الثالثة. وكنت أنا في السّنة الأولى. ومن وقتها بقينا على اتّصال حتّى أنهيت دراستي. كان ممثّلا عبقريّا، داكن السّمرة، ولكنّه جميل فعلا. حضرت عرض مشروع تخرّجه. كان ممتازا. فقط، لم يكن الحظّ إلى جانبه. بعد تخرّجه، ظلّ يعاني البطالة سنوات. تشبّث بالحلم كما استطاع وبقي يسكن في العاصمة، رغم ما تتطلّبه من مصاريف. كان يطمح إلى إمضاء عقد عمل مع فرقة مسرحيّة أو إلى لعب دور في شريط سينمائيّ أو مسلسل تلفزيّ. إلاّ أنّه، في النّهاية، رضخ لضغط العائلة. وعاد إلى الجنوب ليتخلّى عن طموحه المسرحي نهائيّا، ويتفرّغ للعمل في النّخيل.
- طيّب، كلّ هذا ممتاز. حاول الآن أن تتذكّر جيّدا وأن تجيبني، إن أمكن، بنعم أو بلا. حدّثْتَني في اللقاء الأخير عن عبورك الصّحراء، مع مجموعة تحاول اجتياز الحدود إلى الجزائر. هل تذكر أنّك رأيت صديقك هذا من ضمن عناصر المجموعة ؟
- مَن ؟ حفّة ؟ هل تريدين المزاح يا سيّدتي ؟ هذا أمر لا سبيل حتّى إلى تخيّله. قلت لك إنّ كلّ أفراد تلك المجموعة كانوا متديّنين. بينما "حفّة" الرّبعاوي دينه المسرح وملاذّ الحياة، لا غير. حتّى لقد عُرف عنه هذا التعبير الطّريف، ردّا على الذين يزعمون أنّ الفنّ حرام في الدّين. كان هو يقول "الدّين في المسرح حرام ".
- نعم. هذه يا سي الأمجد، تفاصيل في غاية الأهمّيّة، طبعا. حتّى أنّ كلّ هذا وصلني ضمن الملفّ. بل لقد بلغ إلى علمي أنّ بعض الطّلبة، ولا تؤاخذني على العبارة، كانوا يدعونه "حفّة الجيغولو"(1).
- آه صحيح. لقد كان عنده من الطّاقة الفنّية ما يتيح له التّهكّم حتّى على نفسه، وفي هذا الموضوع بالذّات. كان فعلا يلعب دور العاشق على بعض العوانس الثّريّات من الأحواز الشّماليّة للعاصمة. ولم يكن يجد أيّ حرج في التّصريح بأنّه يتمعّش منهنّ.
- ومع هذا، يا سي الأمجد، فهذا الملفّ يشير إلى أنّه هو بالذّات من تمّ إيقافه مع مجموعة الحدود الجزائريّة. أنا أقول لك، يا سي الأمجد، دون محاولة التّأثير عليك، إنّك لو استطعتَ التّأكّد من أنّه هو من ضغط عليك لدفعك إلى العبور مع المجموعة، لربّما عثرتَ على من ضربك على رأسك في الصّحراء. وقد يعترف وقتها، بأن سبب ضربه لك كان اعتبارَه أنّك كافر. وهذا من شأنه أن يساعدك كثيرا على دفع أخطر التّهم الموجهة إليك على الإطلاق.

......................
...مرّة أخرى لا أريد أن أخيفك، ولكن أذكّرك بأنّك اعترفت لهم من تلقاء نفسك بمحاولتك اجتياز الحدود خلسة. وليس لهم دليل ضدّك سوى تصريحاتك.
- إلى ماذا تلمّحين يا سيّدتي ؟ هل تريدين الإيحاء إليّ بأنّه يجوز لي اتّهام صديقي لأدفع التّهمة عن نفسي؟ هل تعنين أنّ حفّة الرّبعاوي هو من أمر بضربي بالحجر على رأسي وبأن أُترَكَ لأموت في الصّحراء ؟
- لا تتشنّج أرجوك يا سي الأمجد. ولا تقوّلني كلاما لم أقله. قلت لك "لو استطعتَ التّأكّد". هذا لا يعني أنّني أحرّضك على أيّ تصرّف. أنا أحاول مساعدتك حتّى تكون منطقيّا. تذكّر أنّك أنت من قلت إنّ اختيارك للعبور كان بتدخّل من أحد معارفك القديمة في الجامعة أو من أحد أبناء بلدك. من يكون هذا الذي تدخّل لاختيارك ؟ هذا ما لم تستطع إجابتهم عليه.............
...................................................................................................................................................................................................
...هدّئ من روعك وكلّمني أرجوك عوض أن تعمل على عجن أصابعك بكلّ هذه العصبيّة. أنا أتفهّم مشاعرك جيّدا. ولكنّ صمتك هذا لا يمكن أن يساعدني على إخراجك من هذا الوضع الدّقيق. حين نُشرتْ قضية هذه المجموعة، لاحظت أنّ القبض على عناصرها كان في نفس الفترة ونفس الظّروف التي وصفتها لي. لهذا كان طبيعيّا أن أفترض أنّها نفس المجموعة التي كنت معها في الصّحراء. طلبت معلومات عنها. فوجدت أن لا أحد من أبناء بلدك يوجد ضمنها. بينما لفت انتباهي في وجود عبد الحفيظ بالطّالب الرّبعاوي بين عناصرها، أنّه كان الوحيد الذي درس في الجامعة وأنّ له، إضافة إلى ذلك، نفس سنّك تقريبا.
..................
.........طرحت عليك السّؤال، يا سي الأمجد، لا لأدفعك إلى استنتاج خاطئ، وإنّما لأنّه يهمّني أن تعرف أنت أيضا هذه الحقيقة. والآن وقد تذكّرتَ ما كان لك من علاقة بعبد الحفيظ الرّبعاوي، فلا أتصوّر أنّك ترى هذا التّشابه وهذا التّزامن بين ما جرى عليك وما حصل لصاحبك، يعود إلى مجرّد الصّدفة. وإذا عدنا إلى قولك إنّ عددا من عناصر المجموعة كانوا ملثّمين، إذًا لربّما جاز الافتراض أنّ صديقك القديم هذا هو من أقنعك بالعبور حتّى وإن لم تكن قابلته مباشرة أو تعرّفت عليه أثناء السّير في الصّحراء.
- من فضلك يا سيّدتي، لا تقولي "أقنعك". لقد قلت لك إنّني عشت تلك الأحداث منقادا إلى ما يشبه الحلم...
- طيّب، طيّب. لست هنا لأصدر عليك أيّ نوع من الأحكام. ولا اعتراض لي على الحلم شكلا من أشكال الخطاب. المهمّ هو أن تقول، يا سي الأمجد، أن تتكلّم، أن لا تغرق في الصّمت. وأنا هنا لأستمع إليك. فارْوِ على النّحو الذي يريحك أكثر من غيره، إن كان بالتّصريح أو بالرّمز أو كما تمليه عليك أحلامك. المهمّ الآن، هو أن تسترجع كامل هدوءك. ارتخ وحاول تنظيم أفكارك. ولكن، لتكن خاصّة صادقا مع نفسك.
..................
...طيّب، لندع جانبا، إن شئت، قضيّة العبور، إلى حين تتذكّر تلقائيّا بعض التّفاصيل الجديدة. ولنَنْسَ أيضا، مؤقّتا، ذلك الثقب الأسود في ذاكرتك، والذي ترهقك العودة إليه. فقط، ألفت انتباهك إلى أنّ هذا الثّقب ما انفكّ يتقلّص بفضل اشتغالنا عليه، وأنّ اتّساعه الآن يمتدّ فقط بين عبورك الصّحراء وحلولك بمنزل بوزلفة.
فهل يمكن، لو سمحت، أن نعود تحديدا إلى مرحلة منزل بو زلفة، هذه التي تقدّر أنّك استعدت وعيك أثناءها ؟

- كلّ ما عندي عن منزل بوزلفة، قلته.
- معذرة، يا سي الأمجد ولكن، اِعتبرْ أنّني لم أسمع منك شيئا في هذا الموضوع. هل لديك مانع من أن تعيد ما قلته من البداية ؟
.....لا ؟ طيّب. فقط، تذكّر أنّك إذا أردتني أن أقف معك، فلا بدّ من أن تثق بي، وأن تقول لي الحقيقة دون تستّر على أحد، ولو من باب المروءة. لست أدري إن كنتَ فهمت ما أقصد بالضبط. لقد وعدتك بأنّ ما أسمعه منك هنا لن يتسبّب أبدا في ضرر لأيّ أحد دون موافقتك، حتّى ولو كان الطرف المعنيّ قد ألحق بك الضرر من ناحيته.
- قلت لك، ليس عندي أيّ جديد أضيفه.
- طيّب، طيّب. وإذا أخبرتك، بأنّ عندي أنا بعض الجديد ؟
...............
..... مثلا، بشأن عدد الأيّام التي قضيتَها ببيت بالعيساويّة في منزل بو زلفة. أنا أعرف الآن، بل أنا واثقة، من أنّها كانت ثلاثة أيّام كاملة وليس يوما وليلة كما قلت في آخر لقاء جمعنا.
................
....إثبات هذه الحقيقة، يا سي الأمجد، يبرّئ ساحتك في قضية قتل مؤجّرتك، من أجل سرقة مصوغها.
- قلت لك إنّه لا علاقة لي إطلاقا بهذه القضيّة.
- أعرف ذلك، بل أنا واثقة منه. ولكنّ تعلّلك بفقدان الذّاكرة لإنكار كلّ شيء جملة وتفصيلا، بما في ذلك قضاءك بعض الأسابيع أو الأشهر في الكاف، لا يبعد عنك الشبهة.
.........
.... يكفينا، في المقابل، تقديم دليل واحد على أنّك وصلت إلى منزل بو زلفة قبل حصول القتل، وعلى أنّك كنت ما تزال موجودا هناك عندما كان غيرك في الكاف يرتكب الجريمة ، يكفي هذا لجعل الصّورة الموجودة في ملفّك والتي تظهرك مع عمّال الحاجّة هنيّة في المقهى، وثيقة أقلّ من عاديّة، ولا يمكن استعمالها ضدّك.
.............................
.... طيّب، مازلت تصرّ على الصّمت ؟
...............
... وإذا أخبرتك بأنّني تمكّنت من الاتّصال بنادية بالعيساويّة، وبأنّني نجحت في التّعرّف على مكان لقائك بها وخاصة على تاريخه ؟ هل ستبقى مصرّا على قولك إنّك اعترضتها في زغوان ؟
..............
... هل تريد أن تقول لي الحقيقة الآن أم تريد مهلة للتّفكير ؟
.......................
.... طيّب، هل ستكلّمني إذا غيّرت الموضوع ؟ أم هل تريدني أن أنسحب الآن حتّى تفكّر في ما قلت لك ؟
.........................
....كما تشاء ، أنا ذاهبة. ولكن، قبل أن أنسى، عندي أيضا معلومات عن بشرى التّوكابري. معلومات ستفاجئك فعلا. لا تقل لي إنّك تتذكّر عبد الحفيظ الرّبعاوي، ولا تتذكّر بشرى التّوكابري.
- بالعكس تماما، يا سيدتي. أنا أتذكّرها جيّدا.
- آه، أراك تريد أن أمكث هنا قليلا.
- لست أدري. ولكن ذكرَكِ بشرى أثارني قليلا. خطيبها السابق، فارس الخميري، كان صديقي. كان الرّكن الثالث لثلاثي منّوبة الذي كان يتركّب منه ومن ياسين بالأغنج ومنّي أنا.
- هل تتذكّر آخر مرّة رأيتها فيها ؟
.....................
- ...ضباب ولا شيء غير الضّباب. بدأ يتهيّأ لي أنّني قابلتها من فترة ليست طويلة ولكن متى ؟ وأين ؟ ومع من كانت ؟ صدّقيني هذه المرّة يا سيّدتي. أشعر بأنّ ضبابا كثيفا يلفّ ذاكرتي فلا أتبيّن معه غير ملامح غائمة لبشرى التّوكابري.
...........
... ولكن فجأة يقفز إلى ذهني اسم كريم أولاد بالعيفي.
- من يكون هذا ؟
- طالب كنت تعرّفت عليه في آخر سنة لي بالجامعة. عرفت فيه مشروع شاعر لا نظير له. ونشرت له عدّة نصوص في نشريّة نادينا الأدبي. هل رأيتُ بشرى معه في القصرين ؟ ولكن لا أذكر أنّني ذهبت إلى القصرين...
...............
... ولكن، ألا يكون سفيان الجريدي، مسؤول فرع اتّحاد الطّلبة السابق، هو من قدّمها لي في مقهى وادي الباي ؟ ولكن هل ذهبت أبدا إلى قفصة ؟ ومتى كان ذلك ؟ لست أدري.
................
.... ضباب، ضباب ولا شيء غير الضّباب. صدّقيني يا سيّدتي. لا أريد التّستّر على أحد أتى عملا إجراميّا. ولكنّني أشعر بأنّ رأسي يكاد ينفجر. مكان الجرح القديم يؤلمني جدّا، وكأنّني تلقّيت اللحظة ضربة بالحجر على رأسي. بل أشعر، ويا لسخرية القدر، كما لو أنّ حفّة الرّبعاوي هو من سدّدها لي... الصّورة بدأت تغيم أمام عينيّ. أظنّ أنّه سيغمى عليّ ..........


الهكواتي .../... يتبع
------
(1) الجيغولو: لفظة فرنسية تعني الغلام الذي يتمعّش من معاشرة النّساء

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

القصة والتراث

تكريم الهكواتي

أنا أيضا ... حوماني