بوصلة سيدي النّا... 17 هاوية النّسيان، ثانية

سنتي على جناح السّرد 47 من 53 // بوصلة سيدي النّا... 17 من 23– 23 جانفي 2009


المسلك الثاني :

صوّان فوق الكثبان

الوجهة السادسة 2 :

هاوية النّسيان، ثانية

"علاقة هذا بالواقع محض خيال"- الهكواتي

بقية اللقاء رقم.......
.....................
- لقد تقرّر، للأسف، أن تنتهي المهلة التي أعطيت لنا، اليوم. وعليّ أن أعرف حالاّ ما هو قرارك.
............
أنا آسفة يا سي الأمجد. ولكن عليّ تنبيهك إلى أنّه لم يعد بإمكان أحد أن ينتظر مثلما انتظرنا. أنا أيضا صرت مقتنعة بأن لا طائل من هذه المقابلات بعد حصّة اليوم. وإذا لم تجبني الآن فإنّني سأضطرّ إلى الانسحاب بلا رجعة. وأنت تعرف ماذا يعني أن أعلن فشلي. سيكون لهم أن يستنتجوا ما يرونه صالحا. سيكون من حقّهم أن يتعاملوا معك بما يرونه مفيدا.
- أريد أن أفهم كيف...
- لم يعد عندي وقت لأشرح لك أيّ شيء، يا سي الأمجد. يبدو أنّك لم تفهم كلامي جيّدا. أجبني، إن أردت جوابا، على قدر سؤالي، لا أكثر ولا أقلّ : أين قابلت نادية بالعيساويّة أوّل مرّة ؟ جواب في كلمة واحدة وإلاّ فإنّني سأخرج من هنا ولن تراني بعد الآن.


- ................
.... في السّلوقيّة..... في السّلوقيّة، يا سيّدتي. وتدقيقا في مخرج البلدة، على قنطرة وادي مجردة.
- لماذا كذبت عليّ إذًا ؟
- ليس في الكاف على كلّ حال.
- لماذا قلت إنّ ذلك كان في زغوان، وأنت تعرف أنّك لم تضع رجليك هناك أبدا ؟ لماذا تكذب عليّ أنا، وأنت تعرف أنّني أريد أن أساعدك بصدق ؟ بسبب كذبك هذا فإنّهم لن يصدّقوا حتّى أنّك فقدت الذّاكرة. أمّا ادّعاؤك أنّك عشت فترة في حالة يقظة لا واعية، فأقلّ ما سيقولون عنه، أنّه محض اختراع. فأنت تقول كلاما لا يقبله العقل، يا سي الأمجد. بودّي أن أتفهّمك، أن أتابع تحليلك إلى آخره، أن أساعدك. أمّا هم فيعرفون أنّك ذكيّ جدّا. بل يقولون إنّك مع هذا بارع في التّمثيل وإنّك تفعل كلّ شيء من أجل التّستّر على شركائك وتريد أن تربح الوقت لفائدة رفاقك في الإجرام.
............
أجبني، ما الذي يدفعك إلى الكذب ؟
- لا أحد يصدّق الحقيقة يا سيّدتي. ثمّ إنّني أخاف.
- ممّن ؟
- من نادية، من أمّ نادية. على نادية، من زوج نادية. أخاف منّي أنا، من عدم قدرتي على مجابهة الحقيقة. لست أدري. أخاف منكم. من كلّ شيء. من سيصدّق أنّني قضيت يومين كاملين، في بيت مغلق، مع امرأة نشزت عن زوجها ولم يحصل بيننا شيء أكثر من الحديث ؟

*****

بقية اللقاء رقم.......
....................................
... خبزتان وثلاث علب من الحليب ومثلها من البسكويت وكرة من الجبنة الحمراء وستّ قوارير من الماء المعدني، وأشياء أخرى، منها طبعا جعبة من علب السّجائر. كدس من المشتريات جلبت في أكياس بلاستيكيّة ووضعت كما اتّفق في وسط غرفة الجلوس على الأرضيّة وفوق المائدة الزّجاجية القصيرة.
...نادية بالعيساويّة ممدّدة على الأريكة المستطيلة، لا تنقطع عن التّدخين. وأنا ممدّد على الزّربية غير بعيد عنها، أسعل حينا، وحينا أقاوم رغبتي في السّعال بشرب الماء. رويت لها قصّتي مع الكاباس و كيف نهرت أمّي لأنّها رهنت كلّ مصوغها لتعطي كلّ ما تملك لامرأة تدّعي القدرة على التّدخّل للعمل على إنجاحي في المناظرة. ورويت لها كيف خرجت عن كلّ قواعد طاعة الوالدين المقدّسة، فرفعت صوتي في حضرة خدّوجة الجعيّد. بل هدّدتها بأنّني سأهجر البيت ولا أعود إليه أبدا.
... وروت لي نادية من ناحيتها كيف عيّنها خالها، حال تخرّجها، مدرّسة لمادّة التّاريخ في مدرسة إعدادية لا تبعد كثيرا عن تستور، حيث انتقلت للسكنى بعد زواجها من رجل أعمال مطلّق وثريّ من أصدقاء العائلة. وإذ وعدها زوجها، عند الخطوبة، بمساعدتها على مواصلة تعليمها في المرحلة الثالثة، حتّى تصبح أستاذة جامعية، فإنّها أفاقت من حلمها الجميل، لتجد كلّ شيء قد ذهبت بمرور الأيام هباء.
... كانت تحكي وتدخّن، والأكل كما هو لا تلمسه هي ولا أجرؤ أنا على مدّ يدي إليه. وكلّما أخذها النّوم تنام، ولكن حال ما أغفو أسمعها تولّع سيجارة جديدة. وحين تلاحظ أنّني استيقظت تبدأ بسؤالي عن ياسين بالأغنج وفارس الخميري. كما تطرح أسئلة عن عشايا السّينما بدار الثّقافة ابن خلدون. فأسكت، لأتذكّر وأستعدّ لإجابتها، ولكنّها سرعان ما تواصل سرد حكايتها الخاصّة وكأنّها لم تطرح عليّ أيّ سؤال.
... مأساة نادية بالعيساويّة أنّها رسمت لنفسها، كما فسّرت لي، هدفا منذ الصّغر. أعلنته للجميع وبدأت تعمل على تحقيقه بكلّ الوسائل. ثمّ وجدت نفسها مكبّلة بوضع، قبلت به لأنّها كانت تتصوّره الطّريق الأقصر إلى تحقيق غايتها. كانت تريد أن تلعب في المجتمع دورا فاعلا من الطّراز الأوّل. وكانت الوصفة تبدو لها بديهيّة. تناضل في الحزب الحاكم وتشتغل فترتقي في سلّم الوظائف حتّى تثبت للعالم قدرة المرأة على اعتلاء أرقى المناصب القياديّة والاضطلاع بأسمى المهامّ، جنبا إلى جنب مع الرّجل.
كانت نادية تتوفّر فعلا على كلّ أسباب النّجاح في تحقيق حلمها. ولكنّها، على ما تقول، لم تقرأ حسابا لقدرة زوجها على المناورة. فهو داهية يشنّ على أهدافها في الكواليس حملة تخريبيّة منظّمة، في حين يعلن على الملإ مساندتها وتشجيعها على بلوغها. فلم تتفطّن للفخّ إلاّ بعد أن تحوّلت، في أقلّ من ستّ سنوات، إلى ربّة بيت كاملة المواصفات.


لقد بدأت بقبول التخلّي عن عملها في التعليم حتّى تتمكّن من مصاحبة زوجها في سفراته المهنيّة المتعدّدة. بعد ذلك، مرضت حماتها، فكان عليها تقديم التّنازل والبقاء في المنزل لمؤانستها وللإشراف على عمل الخادمة عوضا عنها. خاصّة وقد قلّت السّفرات التي تتطلّبها أعمال زوجها. وختاما تعدّدت مشاغل البيت إلى درجة لم تعد تسمح لها حتّى بحضور اجتماعات الشّعبة المحلّية. هذا دون اعتبار الوقت الذي أصبحت مضطرّة لإنفاقه تجسّسا على مغامرات زوجها مع موظّفات شركته.
... كانت تشرح لي العلاقة بين فشل مسيرتها السّياسيّة وفشل زواجها. ثمّ تعود في كلّ مرّة لتعلن إصرارها، إن عاجلا أو آجلا، ومهما كلّفها ذلك من أمر، على خيانة هذا الزّوج الذي لم يعد يكتفي بتحريكها على هواه كما يحرّك دمية، بل صار يخونها مع كلّ هبّة نسيم.
أمّا أنا فكنت أستمع إليها وأفكّر في الموضوع فيبدو لي بكلّ جدّ أنّ من حقّها، إذا كان كلّ ما تقوله صحيحا، أن تعامله بالمثل تماما. ولكن، ها أنّ نوبات الضّحك اللاّ إراديّ، التي خلتها ذهبت إلى غير رجعة منذ يوم عيد الأضحى، تعود لي فجأة. فأشعر بالخجل من نفسي وأدير ظهري لنادية متظاهرا بالسّعال وأضحك حتّى يكاد نفسي ينكتم. أمّا هي فلا تضحك ولا تكفّ عن التّدخين.
...بعد يومين كاملين وصلت أمّها، السّيدة نائلة، قبيل الغروب، قادمة من زغوان. امرأة صارمة. لامت ابنتها كثيرا على هذه الفعلة. قالت بالحرف الواحد إنّها فعلة شنيعة. ثمّ فكّرت بكلّ رصانة وقرّرت أنّه علينا جميعا، أن نقول، إذا جاء أحد، إنّ الأمّ وابنتها التقتاني معا، عصر ذلك اليوم بالذّات، وفي زغوان لا في السّلوقيّة. قالت السيّدة نائلة إنّ واقعة انفلاق عجلة السّيّارة أعجبتها كفكرة. ما يعني أنّها لم تكن تعتبرها أكثر من تعلّة اتّخذتها نادية لإخفاء علاقة تتوهّم الأمّ وجودها بيننا من قبل زواج ابنتها. وهكذا أمرت السّيدة نائلة بنقل واقعة العجلة من مخرج السّلوقية إلى مخرج زغوان، وعدلت بالمناسبة عن طردي من بيتها في تلك السّاعة من الليل.
... في الليل نامت الأمّ وابنتها في إحدى غرف النّوم. أغلقتا عليهما الباب وتركتاني أنام على نفس الزّربيّة في غرفة الجلوس. وفي الصّباح استيقظتا باكرا وقرّرتا الذّهاب إلى تستور وقد هدأ روع نادية تماما. لقد نسِيَتْ كلّ ما كانت تقوله لي قبل مجيء أمّها. وتحوّلت نقمتها على زوجها إلى لهفة على مصالحته، وإيمان ثابت بأنّها ستنجح لا محالة في إعادة الرّوح إلى مسيرتها السّياسيّة، بفضل محافظتها على هذا التّحالف مع زوجها، مع العمل على استثماره لبلوغ هدفها، دون أدنى تنازل للعواطف.
... خبزتان وثلاث علب من الحليب ومثلها من البسكويت وكرة من الجبنة الحمراء، وعديد الأشياء الأخرى... كدس من المشتريات في أكياس بلاستيكيّة بقيت موضوعة كما اتّفق في وسط غرفة الجلوس وعلى المائدة الزّجاجية القصيرة. حتّى السيّدة نائلة لم تلمس الأكل. ثلاثتنا لم نستهلك سوى الماء المعدني. وطبعا استهلكت نادية عددا مخيفا من السّجائر. أمّها أيضا دخّنت كثيرا. وهي من أخذت معها بقيّة الجعبة. أمّا بقيّة الأكياس، فوضعتها لي في قفّة من السّمار وأهدتني إيّاها، وهي تطلب منّي بإلحاح أن أنسى لقائي بابنتها، وإذا قدّر وطلبت منّي شهادة، أن أتمسّك بالقول إنّني لقيتهما معا في مخرج زغوان وقد انفلقت عجلة سيّارتهما. فساعدتهما على تغيير العجلة. ثمّ طلبت منهما أخذي معهما حتّى تازغران. فأنزلتاني في منزل بوزلفة وانصرفتا إلى وجهة لا أعلمها.
... قبل أن أودّعهما، طلبت منهما أن تدلاّني فعلا على الطّريق إلى تازغران. فأشارتا إلى جهة، وتوغّلتا بسيّارتهما في الجهة المعاكسة. أمّا أنا فانصرفت أجرّ رجليّ وأغنّي لكلّ من يعترضني "الورد جميل". ولأنّني لم أكن أدري بالضّبط لماذا أقصد تازغران بالذّات، ولماذا أغنّى هذه الأغنية بالذّات، فإنّ نوبات الضّحك اللاّ إراديّ عادت إليّ بقوّة. حتّى أخذ كلّ العابرين ينظرون إليّ بعيون متسائلة. فأغنّي لهم، ويزيد ضحكي، ويضحك بعضهم قليلا، ويتلوّى بعضهم الآخر من الضّحك، ثمّ يذهب كلّ في سبيله.

*****

بقية اللقاء رقم.......
....................................


... بلى يا سيّدتي، أعرفها. لم أقل أبدا إنّني لا أعرف الكاف. بل أعرفها وذهبت إليها مرارا. لقد بقيت قترة طويلة أعيش عند الحاجّة هنيّة. ولكن ليس في بيتها القديم الذي في مدخل الكاف. كما أنّني لم أعمل في حضيرة بناء فيلّتها في الحيّ الجديد بالمدينة. بل كنت أقيم في غرفة من طوب داخل ضيعة للحاجّة قرب بلدة السّلوقيّة. وهي التي كانت تزور ضيعتها بانتظام. أذكر أنّها أخذتني معها إلى الكاف مرّة واحدة، لأحضر زردة أولمتها في مقام سيدي بو مخلوف وذبحت فيها كبشا أحضرناه معنا من الضّيعة بعد أن اخترناه من قطيع بوجمعة.

... ليلتها، أكلت الكسكسي. وبتّ في حضيرة الفيلاّ ولم يكن بها أيّ من العمّال. وما أن طلع فجر الغد حتّى أعادتني الحاجّة هنيّة إلى السّلوقية على متن نفس الشّاحنة. وفي ما عدا هذا، ليست عندي أيّ ذكرى من الكاف. بل عندي، ولكن ليس أكثر من بعض صور ضبابيّة لا أتذكّر من بينها أيّ صورة التقطت لي مع عمّال الحاجّة. اللهمّ إلاّ إذا كانت هذه الصّورة قد التقطت لي قبل أن أستعيد وعيي جزئيّا. وحتّى أطمئنك بشأن قضيّة القتل، فإنّني يوم التقيت نادية بالعيساويّة لم أكن قد ذهبت إلى الكاف منذ فترة طويلة...

*****

بقية اللقاء رقم.......
....................................
... واقف أمام جامع القادريّة. فجأة أجدني أضحك بلا إرادة منّي وأشعر لأوّل مرّة بأنّ ذلك تصرّف غير عاديّ. ألاحظ، دون أن أكفّ عن الضّحك، أنّني كنت أمدّ يدي مع بقية المتسوّلين إلى المصلّين الخارجين من الجامع. خجل شديد ينتابني...
... ألق من نور مبهر يخترقني، ترسله عينا امرأة عجوز أتعرّف فيهما على نفس شعاع عيني جدّتي الدّرعيّة الجعيّدة وعيني العجوز أمّ الزّين العذراء. يد الحاجّة هنيّة تمتدّ إليّ بقطعة نقديّة، وعيناها تنفذان إلى أعماقي. فلا أقدر على مواصلة النّظر إليهما وأجدني فجأة، أطأطئ رأسي وأسحب يدي بسرعة وأهرب مبتعدا عن صفّ المتسوّلين...
... واقف في رأس زقاق آخر أنتظر أن تلتحق بي الحاجّة هنيّة. أحشر يدي في جيبي. حجيرات الصّوّان السّتّ ما تزال فيه. تعود بي الذّاكرة في لمح البصر إلى صورة كثيب في عرض الصّحراء تدحرجت منه قبل أن أسقط مغشيّا عليّ. فجأة يعبر ذهني السّؤال : ولكن أين أنا ؟ وماذا أصنع هنا ؟ وقبل أن أجد جوابا تنتابني موجة أخرى من الضّحك اللاّ إراديّ، وتغيب صورة الكثيب في أعماق النّسيان...
... أمشي وأنظر بين رجليّ. أتأمّل الأرض المبلّطة بالحجر الأبيض. النّهج الضّيّق يتسلّق متثعبنا بين المساكن المتلاصقة حتّى يبلغ بطحاء تشرف على جبال خضراء تغشيها السّحب على مدى الأفق. أتفطّن لأوّل مرّة إلى أنّني في مدينة لم أكن أعرفها ولا أذكر أنّني زرتها أبدا من قبل. ومع ذلك يبدو لي أنّني أتذكّر هذه الأزقّة بالذّات كما لو أنّني عشت فيها طويلا...
... بطحاء الشيخ علي. الحاجّة هنيّة تتجاوزني فأقتفي أثرها ماشيا وراءها كالمنجذب إليها بالمغناطيس. حارس المتحف يخرج من باب بالخوخة ويحيّيها :
- "فينك يا أُمَّة هنيّة ؟"
ثمّ يصيح بي منتهرا :
- "برّة يا "لَصْ" روّح"
ولكنّ الحاجّة هنيّة تجيبه بقولها :
- "سيّبه خلّي رحمة ربّي تنزل ع الأرض"
وتلتفت إليّ :
- "هيّا امشِ يا "لَصْ" أش عليك فيه".
هكذا إذًا، أنا "اللَّصْ". حارس المتحف يعرفني وكذلك هذه المرأة التي ليست الدّرعية الجعيّدة ولا أمّ الزّين العذراء.

*****

بقية اللقاء رقم.......
....................................
... قلت لك من البداية يا سيّدتي إنّها صور ضبابيّة. ما كنت لأتذكّرها لو لا أنّ الحاجّة هنيّة سردت عليّ قصّة لقائنا مرارا وتكرارا. فهي التي روت لي كيف أخذتني إلى مقام سيدي بو مخلوف، وكيف عرضت على القائمين عليه أن يؤووني هناك كما كان أصحاب الخير يفعلون أيّام زمان، حين كانوا يصادفون بالمدينة غرباء. وهي التي وصفت لي غضبها حين ردّها حارس المقام خائبة وذكّرتني كيف أركبتني في صندوق شاحنتها مع ثلاثة أكياس من السّماد الأبيض. ولم أبت ليلتها إلاّ في ضيعة السّلوقيّة تحت حماية بوجمعة.
... صدّقيني يا سيّدتي. لا أتذكّر غير هذه الصّور الضّبابية. حتّى اسمي لم يسألني عنه أحد ولم أقله لأحد. استطبت اسم "اللَّصْ" الذي لم أدر في أيّ الظّروف أطلق عليّ. الحاجّة هنيّة تناديني به وكذلك عاملاتها اللائي يفدن على الضّيعة نهارا وينصرفن عند الغروب. أمّا بوجمعة فيناديني "يالخو"(1).
أعجبني العيش مع الحشائش وطوابي الهندي وأشجار السّفرجل والرّمّان. أعجبني العيش مع الحيوانات، أختلط بها ولا أتعامل معها إلاّ بقدر ما يسمح لي به أو يطلبه منّي بو جمعة. فأنا لم أكن عاملا عند الحاجّة هنيّة بالمعنى الحقيقي للكلمة. كنت عبارة عن لاجئ عندها، أعمل ما أستطيع عندما أريد العمل، مقابل أكل يأتيني به بوجمعة بعد الغروب أو تهدينيه بعض العاملات حين تجلسن حلقات تحت الشّجر لتناول طعامهنّ عند الزّوال.
قبل يومين من عيد الأضحى، زارت الحاجّة هنيّة ضيعة السّلوقيّة. حاسبت بوجمعة على ما بيع من شياه. أخذت من عنده الأموال ودفعت أجور العاملات وأحسنت إليهنّ. أمّا أنا فأخذتني معها إلى تستور. اشترت لي ثيابا جديدة من عند بيّاع الفريب. ثمّ عادت بي إلى الضّيعة. و في آخر النّهار اختارت أجمل كبش في القطيع كان بوجمعة يتركه في الزّريبة عندما يأخذ الشياه إلى السّوق. أحكمنا وثاق رجليه وتعاونّا على رفعه، بوجمعة وأنا، إلى صندوق الشّاحنة. وقبل أن تنطلق الحاجّة هنيّة إلى الكاف، أوصت بوجمعة بي خيرا :
- وخيّك "اللَّصْ" يا بو جمعة، وهذا عيد إسلام. عينك على خوك.
كانت تلك آخر مرّة رأيت فيها الحاجّة هنيّة. وكانت أيضا آخر مرّة ينتابني فيها الضّحك اللا إرادي، بمجرّد أن تخيّلت أنّني وبوجمعة أخوين فعلا وأنّ الحاجّة هنيّة أمّنا. وكانت آخر كلمة سمعتها منها دعاء بقي صداه يعتمل بداخلي وكأنّه داع يحثّني على الانصراف من السّلوقيّة. قالت وهي تدير عجلة قيادة شاحنتها وتلقي إليّ آخر نظرة عبر النّافذة المفتوحة :
- هيّا عيدك مبروك، يا لصّ، ربّي يحنّ عليك ويفرج كربك.
...فجر يوم العيد، أوقدت نارا وسخّنت ماء واغتسلت ولبست ثيابي الجديدة كما اتّفقت مع بوجمعة. وجاء وائل، ابنه الاكبر، يناديني. وانطلقنا ثلاثة نعبر البساتين في الظّلام ونستمع إلى بوجمعة يشرح لي ولابنه كيف ينبغي أن نتصرّف أثناء صلاة العيد.
... في جامع البلدة، كنت أستسلم إلى أناشيد الذِّكْرِ تحملني بعيدا وأبكي. وكان بوجمعة يرى دموعي تسيل وينهر ابنه الذي يسألني عن السّبب. ولم تكفّ دموعي الصّامتة عن السّيلان حتّى وأنا أتبادل التّهاني بالعيد مع المصلّين، ثمّ وأنا أساعد بوجمعة على ذبح خروفه، ثمّ وأنا أفرض على نفسي أكل المشوي مجاملة لزوجته وأطفاله :
- أنا آسف يا بو جمعة. جعلت عيدكم حزينا.
... انزويت يومين بغرفة الطّوب لا يحلو لي أكل ولا شرب. شيء ما بداخلي صار يذكّرني، بغامض الإشارات، بأنّني أنا محمّد الأمجد بريقشة وبأنّه عليّ أن أفعل شيئا في الحال حتّى لا أستطيب تقمّص شخصيّة "اللَّصّ" مجهول الهويّة. يومان كاملان يملؤني صدى صوت الحاجّة هنيّة وهي تدعو لي: "ربّي يحنّ عليك ويفرّج كربك".
...يومان وحدي مع إحساس بأنّني اشتقت إلى خدّوجة الجعيّد، واشتقت أيضا إلى عيشوشة بنت العجل، إلى البّيه صبرية، إلى زنقة بريقشة. ولكن هل يجوز لي الآن أن أعود إلى باب تونس كما لو أنّني لم أخرج منه أبدا ؟
... ثالث أيّام العيد خرجت من الصّباح الباكر قبل أن يأتيني بوجمعة بالأكل. أمشي بخطى المتجوّل الهائم بحذاء وادي مجردة. أصغي إلى هسهسة الأوراق الصّفراء المنثورة تحت رجليّ مستسلما إلى هدهدتها، ولا ألتفت ورائي. أمشي حينا ثمّ أجلس لأستريح وأفكّر وأتذكّر. لماذا أنا هائم هكذا ؟ ألم يكن لي مقصد معيّن أسير إليه ؟ لماذا لم أحلم منذ وقت طويل، لا في النّوم ولا في اليقظة ؟
... اختفت الشّمس تماما خلف السّحب. فجأة، تازغران، اسم بلدة بربريّ الوقع يقفز إلى ذهني ويلحّ عليّ دون أن أعرف لذلك سببا. هل ينبغي أن أتذكّر زمنا قضيته في تازغران ؟ أم هل يتوجّب عليّ أن أذهب إلى تازغران لقضاء شأن ما ؟
... المطر بدأ في التّساقط رذاذا والسّحب بدأت تتكثّف، تغطّي كلّ الهضاب من حولي. والبرد بدأ يسري في أطرافي. لا بدّ من العودة إلى الضّيعة. فجأة قفزت إلى ذهني من جديد صور الكثبان في الصّحراء تتتالى مراوحة بين صهد الشّمس الحارقة نهارا وحرائق الحطب ترتفع في الظّلام ليلا.
ربّي أيّ تناقض أعيش؟ في ذهني نار وجفاف وقبّة سماء صافية زرقاء، ومن حولي الخضرة تغطّي كلّ الهضاب المتسلسلة حتّى الأفق تحت قبّة سماء تكاد تمسّح على شعري بنتف سحبها الرّماديّة.

قطعة جديدة من وعيي تعود إليّ. أنا، محمّد الأمجد بريقشة، بدأت أتساءل من جديد عن وجودي وأميّز ما حولي. أنا، محمّد الأمجد بريقشة، بدأت أشعر برغبة ملحّة في الذّهاب إلى تازرغران، أو العودة إليها لأرتق ذاكرتي. ولن أبيت في غرفة الطّوب بعد الليلة.

*****

بقية اللقاء رقم.......
....................................
- لآخر مرّة يا سي الأمجد : في أيّ ظروف التقيت بشرى التّوكابري في الكاف ؟ هل تعترف على الأقلّ بأنّك التقيتها ؟ أجبني بنعم أو بلا.
- ...ضباب يا سيّدتي. ضباب ولا شيء غير الضّباب. أكاد أجزم بأنّني قابلتها من فترة ليست بالطّويلة. ربّما بالكاف، كما تقولين. ولكن ربّما بقفصة، ربّما بالقصرين، أو ربّما هنا في أروقة هذا السّجن. هل جاءت تعودني مع أختي رشيدة في الأسبوع الماضي ؟ ساعديني أنت يا سيّدتي. أعطيني شيئا من الوقت وسأتذكّر. اسم بشرى التّوكابري يعود إلى ذاكرتي مع اسمَيْ كريم أولاد بالعيفي، الشّاعر، وسفيان الجريدي، مسؤول فرع اتّحاد الطّلبة السابق. ولكنّني تعبت. الضّباب كثيف جدّا، ورأسي سينفجر. أظنّ أنّه بدأ يغمى عليّ...

الهكواتي .../... يتبع

------------
(1) "يالخو" : أيها الأخ كما تنطق باللهجة الجزائريّة.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

القصة والتراث

تكريم الهكواتي

أنا أيضا ... حوماني