بوصلة سيدي النّا... 14 أجنحة لفراشة تلتهب، ثانية

سنتي على جناح السّرد 44 من 53 // بوصلة سيدي النّا... 14 من 23– 02 جانفي 2009



المسلك الثاني :

صوّان فوق الكثبان

الوجهة الخامسة 2 :

أجنحة لفراشة تلتهب، ثانية

"علاقة هذا بالواقع محض خيال"- الهكواتي

مرآة. من لي بمرآة ؟ أحتاج إلى رؤية وجهي. هل أنا أنا، أم أنا غيري ؟
أَتْرُكُنِي هنا وحدي هامدا على الحصى والرّمل. أنهَضُ منّي وأجري باحثا عن مرايا، كما لو أنّ هذا الخلاء يمكن أن يعجّ بها. الطّريق الرّئيسيّة على مرمى حجر منّي. الحافلة متوقّفة على حاشية الطّريق. أجري نـحو الحافلة، فقط لأطلب مرآة. ربّما كان قصدي الأصلي من التلويح إلى السّائق، شيء آخر تماما. ولكنّني إذ أجري الآن إلى حيث توقّفت الحافلة، فلا أرغب في شيء أكثر من مشاهدة وجهي في مرآة.


قلت هذا للسّائق، حين وصلت أخيرا قرب حافلته. فابتسم. فأضفت هامسا، كما لأرشوه :
"عندي، لو تدري، مال كثير. أعطيك ما تريد. فقط دعني أرَ وجهي في مرآتك العاكسة".
نظر إليّ السّائق من علوّ كرسيّ القيادة. ودون أن يقول شيئا، حرّك المرآة التي على يساره، يقلّبها في اتجاه الأرض، حتّى أتمكّن من رؤية وجهي فيها. قلت له :
"شكرا لك. هذا يكفيني. هكذا تأكّدت من أنّني أنا. فكم تريد مقابل خدمتك؟"
ابتسم من جديد وظلّ ساكتا. سَرت بين الرّكّاب قهقهات عالية. انطلقت الحافلة. لم يأخذ منّي السّائق ملّيما واحدا. بعض الفضوليين أخذوا يطلّون عليّ من وراء البلّور. أسمعهم يقهقهون. أيّ إزعاج لي في قهقهاتهم ؟ الآن اطمأنّ قلبي وهذا هو الأهمّ. كنت أشعر بأنّني لست أنا. ولكنّ ذلك ما كان إلاّ توجّسا. فأنا ما أزال أنا. الصّورة صورتي، وإن كانت المشاعر مختلفة. المرآة دائما على حقّ، وليس كذلك الأحاسيس.
أنا إذًا ما أزال أنا، وإن سمحت لنفسي بنتر رزمة الأوراق النّقدية بالقوّة من يدي. أنا إذًا ما أزال أنا، وإن تركتُني ملقى هناك على الحصى والرّمل، وليس في جيبي أكثر من خمسين دينارا. ماذا يهمّني الآن منّي ؟ إن كان لا بدّ أن يموت أحدٌ منّي فليكن محمّد الأمجد بريقشة. بدأت أُحِسُّنِي أنشط منه وأقوى. ألست الآن أغنى ؟
ولكن أين هو ؟ لقد كان ملقى هناك على كثيب الرّمل القصير. ولم يعد هناك. راعِيَةٌ تمشي وتجيء حول الكثيب، تصحبها بعض معزات وكلبة عربي بيضاء. أسألها إن كانت رأت شخصا ملقى على ذاك الكثيب، أو كانت تعرف إن كان خُطِفَ أو رُفِعَ أو هَرَب. يا لها من راعية. وجهها مشرق فعلا، وابتسامتها جميلة ولكنّ جوابها محيّر. نعم، محيّر. ولكن ليس إلى حدّ المسّ من ثقتي بنفسي أو زعزعة إيماني بأنّني لست غيري. قالت :
"مرّت عليّ ساعة وأنا أمشي وأجيء حول هذا الكثيب. لم أر أيّ شخص ممدّدا فوقه. ولو كنت رأيته لكنت أنا من امتلكته قبل أن تظفر به واحدة غيري."
"والحافلة التي انطلقت الآن ؟"، سألتها.
قالت :
"لا تمرّ الحافلات من هنا".
وأضافت تسألني وهي تبتسم ابتسامة غامضة المعنى:
"وأنت، من أنت ؟ ولماذا أنت ملقى هكذا على هذا الكثيب ؟"
قلت لها وأنا أحاول الجلوس :
"لست أدري إن كنت أنا الملقى على الكثيب، أو إن كان الرّمل قد زحف تحتي. كلّ ما أدريه أنّني مقطوع من شجرة أو من صخرة جبل أو من حجرة صوّان. أنا الآن رجل بلا اسم ولا ذاكرة. في هذه اللحظة بالذّات، كان شخص يدعى محمّد الأمجد بريقشة، مطروحا أمامي هنا، على بطنه هنا فوق الرّمل، قبض بيده اليسرى على ثلاث حصيّات صّوان بديعة الألوان. هذا الشّخص قد يكون مات أو رفعته الملائكة. ولكنّ شأنه لم يعد يعنيني. لقد نسيته ونسيت كيف عرفته. أصارحك القول، بدون مراوغة ولا نفاق، أنا الآن مقطوع من صخر ذاك الجبل البعيد. عندي الأموال ولم يعد يهمّني شيء غيرها. لقد تحرّرت من كلّ ذاكرتي وأريد أن أعيث فيها لذّة. بلغت هذا العمر ولم أبدأ العيش بعد في هذه الدّنيا. لذلك أريد أن أشبع فيها حياة مثل الآخرين."
حدّقت في عينيّ وقالت بكلّ جرأة :
"واضح من معاينة ما أراه يتيبّس تحت سروالك لمجرّد رؤيتي. يا لك من فحل. أنت من أبحث عنه، فانهض واتبعني إذا كنت تريدني.
وانصرفت في التّوّ تقطع الطّريق الرئيسيّة تتبعها معزاتها. أمّا الكلبة البيضاء فقد بقيت بلا حراك، ترمقني بعينين شديدتي الحمرة و ترسل إليّ نظرة مريبة. خفت منها. أو لعلّي خفت من صاحبتها، هذه الراعية الجميلة والغريبة في آن، هذه التي تقول كلاما لا أفهم كلّ المعاني المستترة في تلافيفه.
أخذت أتابعها بعينيّ وهي تبتعد وأنا متردّد لا أجرؤ على النّهوض لاتّباعها. وفجأة، بدأ الشّكّ ينتابني في أنّني أحلم. فالطّريق لم تعد طريقا. بل غدت خطّ أفق يفتح على قبّة أصفى من كلّ مرآة، وأشدّ زرقة من كلّ سماء.
نعم. أنا الآن هنا على اليابسة أحاول النّهوض. تحت رجليّ أرض من حصى ورمل. وأمامي الكلبة البيضاء ترمقني دائما بعينين من لهب. تفتح فاها كما لتبرز لي أنيابها. أمّا الرّاعية الجميلة ومعزاتها، فهناك، في الجانب الآخر من الأفق، سابحات في قبّة السّماء مع الغيوم.


يبدو أنّني بدأت أفهم. قد لا أكون أحلم ولكنّني، ولا بدّ، قد متّ. وهذا الأفق قد يكون، ولا شكّ، السّراط الممدود فوق الهاوية. وهذه الرّاعية الجميلة جاءت تعلّمني كيف أعبر. هي إذًا تعليمات صريحة، وأعتقد أنّ عليّ اتّباعها.

*****

ساعات بطول الدّهر مرّت. وأنا مازلت أقف متردّدا بينما الراعية الجميلة ما تزال تشير إليّ أن أعجّل باقتفاء أثرها. كدت أقول لها "ستّي إن أعياك أمري فاحمليني زقفونة"(1) ولكنّني مسكت نفسي خوف أن لا يكون مقام القيامة الفعليّ مناسبا للاستشهاد بالمعرّي أو أن تشعر الرّاعية الجميلة بالإهانة إذا لم تكن قد قرأت "رسالة الغفران" حين كانت في الدّنيا الفانية.
استجمعت كلّ شجاعتي. وها أنا أقطع خطوة في اتّجاه الأفق. فجأة، تنبح الكلبة. نباحها يصلني كتبادل طلق ناريّ عنيف في حرب تهتزّ لها السّماء وما جاورها. قلبي يكاد يخرج من صدري. أنا أرتجف، إذًا أنا خائف. إنّه المنطق الصّرف. إنّها "القيامة الآن" وأنا جبان. لا بدّ أن أنتصر على خوفي إن كنت أريد تحقيق رغباتي الدّفينة في صدري.
أرفع صوتي وأنهر الكلبة :
"ابتعدي من طريقي يا بنت الكلب".
ياه... عظيم... ما كنت في حاجة إلى أكثر من رفع صوتي حتّى أثبت حضوري وأفرض سيطرتي المطلقة على جنس الكلاب. ها هي الكلبة تطأطئ رأسها وتقترب منّي ذليلة ملوّحة بذيلها. تبدر منها أصوات ليست نباحا، ولكنّها معبّرة واضحة، تعبير الكلام وضوحه. تقول لي :
"ما الذي أصابك يا مجدة ؟ كيف لم تعرفني ؟ ولماذا تسبّني ؟ أنا فقط أنصحك بأن لا تتبع هذه المرأة. إنّ في السّير وراءها الخطر كلّ الخطر. إذا تبعتها، فإنّك ستلقي بنفسك بين فكّي تمساح."
تمساح ؟ شيء مدهش حقّا. لا أدري متى ولا أين رأيت فكّي تمساح مفتوحين. ولكن، كيف يعقل أن تتكلّم الكلاب ؟ وكيف تريد منّي هذه الكلبة أن أعرفها وأنا لم أرها قبل الآن؟ قلت للكلبة :
"أنا لا أعرف كلابا. ثم إنّ لي رغبة في أن أتبع هذه المرأة ولا أفهم لماذا أمتنع عن اتباعها. ولا أفهم أيضا لماذا تقحمين خطمك في هذا الشأن الذي لا يهمّ غيري."
أجابتني الكلبة:
"المدهش حقّا هو أنك تراني كلبة يا مجدة. إنّما أنا صوّانة. صديقتك صوّانة يا مجدة. عندما أقول لك إنّ السّير وراء هذه المرأة خطر فهو خطر. وحينما أنا أتدخّل في شؤونك فلأصونك من مثل هذه الأخطار. هذا دوري وأنا هنا لهذا الغرض."
قلت لها :
"أنا أعتبرك كلبة لأنّني أصدّق تماما ما تراه عيناي اللتان تقولان لي إنّك كلبة، وإنّك بالتالي لست صديقتي بالمرّة. ثم إنّك مخطئة، فأنا لست مجدة. أنا لا أعرف مجدة هذا الذي تتحدّثين عنه، ولا سمعت أبدا عن صوّانة. لست قاصرا، يا ناس، لأحتاج كلبة تدلّني على ما هو خطر و ما ليس خطرا. لذلك ابتعدي من أمامي ودعيني أختار طريقي كما أشاء. ماذا تعرف الكلاب عن الموت وعن القيامة ؟ أنا الآن في الجنّة. فماذا تعرفين، أنت أيتها الكلبة الصّغيرة، عن الجنّة ؟ أنا الآن في الجنّة. ودليلي، هذه الرزمة من الأموال التي بين يديّ. هذا يعني أنّ أبواب السّماء تنفتح لي. ولن أترك أحدا يوصدها. فاغربي عن وجهي."
فجأة، تعوي الكلبة عواء كأنّه بكاء أمّ فقدت للتوّ وليدها. ها هي تدير لي ظهرها وتختفي كما تختفي صورة شريط سينمائي. معها يختفي الحصى، يختفي الرّمل واليابسة تختفي. أنظر تحت رجليّ. أراني واقفا على غيمة جذلان لأنّني نجحت في تحدّي كلبة. أرى الراعية الجميلة تبتسم لي. في ابتسامتها الآن إغراء. أراها تفتح لي في غيمتها بابا. أجري نـحوها. أدفع الباب وأدخل. أوّاااااه... ما هذا النّعييييم ...


*****

مضت عليّ ساعة أو أكثر وأنا في هذه الغرفة السّماوية المهيّأة على طراز حانة من حانات النّزل السّياحية الرّاقية. أجلس وحدي على كرسيّ دوّار مرتفع مستندا إلى كونتوار من مرمر ورديّ. أشرب وأنتظر الرّاعية الجميلة التي تركتني هنا لتقضي شأنا لها وتعود فتأخذني.
أشرب وأنتظر. و الرّاعية الجميلة لا تجيء بعد. كلّ الزّبائن هنا أناس محترمون جدّا. منذ دخلت وهم يتناقشون في شأن مهمّ جدّا. يتناقشون ويقرعون كؤوسهم بعضها ببعض ثمّ يشربون منها نخب جنّة يبدو أنّها ضاعت منهم إلى الأبد. أمّا أنا فأشرف على حلقاتهم من أعلى كونتواري. أشرب وحدي، وأستمع إلى نقاشهم من بعيد فيما أشاهد صور دمار شامل وحرائق تتتابع أمامي على شاشة تلفزة.
أراهم يسكبون مشروباتهم في كؤوس باذخة قبل شربها. ألاحظ أنّني في هذه القاعة الوحيد الذي أصرّ على ترك كوب الكريستال المذهّب نظيفا أمامي لأشرب من القارورة مباشرة. ربّما لأنّني مبهور بجمال هذه الكأس ونظافتها. أو لأنّ النّادل ببساطة لم يجرؤ على التّعبير لي عن أيّ استنكار لصنيعي. لذلك أتمادى في الشرب مباشرة من قارورتي الخضراء.
بدأت أحسّ بأنّني أغرق في صمت يطول. مازلت أستمع إلى الضجيج. ولكنّني لم أعد أتبيّن من النّقاش إلاّ كلمة عراق. أرفع رأسي وأنظر إلى شاشة التّلفزة. قناة الجزيرة في قطر مازالت، هي الأخرى، تبثّ برنامجا خاصّا عن العراق يديره مذيع تونسي كان نكرة في بلاده قبل أن يصبح نجما في بلاد النّاس.
نشوة الجعّة بدأت تطلع إلى رأسي. كان لا بد من أن أتكلّم عن العراق أنا أيضا. ما الذي ينقصني لأتناول الكلمة؟ ألست أنا الآخر نكرة في باب تونس ؟ قد أصبح إذًا نجما في هذه الحانة. ولكن، ينبغي أن تكون لي الشّجاعة الكافية لأساهم في إثراء هذا الضّجيج الدّسم.
نزلت من علياء كرسيّي الدّوّار. أخذت أقرع قارورة بقارورة حتّى انتبه إليّ كلّ الزّبائن. عندها تقدّمت إلى وسط القاعة ووجّهت بالكلام إلى الحضور رافعا قارورتي في الهواء قبل أن أشرب منها على نخبهم :
"إخواني... لا بدّ لكلّ شيء من بداية. وأريد، قبل كلّ بداية، أن أشرب هذه الجرعة في صحتكم... وفي صحّة العراق."
يا للنّجاح السّاحق. جميعهم رفعوا الكؤوس وشربنا معا في صحّتنا، وخصوصا في صحّة العراق. وهكذا تسنى لي أن أواصل حديثي بهدوء وبمنتهى الوضوح:
"إخواني ... أنتم طبعا لا تعرفونني ولكنّني، والله العظيم، منذ احتسائي القارورة الثانية أو الثّالثة، بدأت أشعر بأنّني صرت منكم، وبأنّني أحبّكم وأحبّ العراق مثلكم، أو ربّما أكثر منكم قليلا.
"كنت أستمع بكلّ انتباه إلى نقاشكم. والآن أشعر برغبة في مشاركتكم حواركم المثمر في مسألة العراق هذه. لا تخافوا، إخواني، فلن أطيل عليكم. فقط حضرتني رغبة في قول أبيات من الشّعر في هذا الموضوع، سأرتجلها في حضرتكم. وستكون هذه كلّ مساهمتي المتواضعة. فاسمعوني إذًا. وإن أعجبكم شعري، يمكنكم أن تصفّقوا لي فأصبح شاعرا.
"أريد أن أقول، أيّها السّادة الكرام، أيتها السّيدات الفاتنات:

"أحبّ العراق كما لا يحبّ العراق أحد"

"هذا طبعا، كما ترون، تقليد أصيل لقولة شاعرنا أولاد أحمد الذي أسمع عنه ولا أعرفه بعد. وقد يكون هنا بينكم فأتعرّف عليه، وأحظى منه بالتّشجيع. ولكن كلّ هذا ليس أمرا مستعجلا. إذًا، أقول:

"أحبّ العراق كما لا يحبّ العراق أحد"
ولكنّما "اليوم خمر"

"وهذا أيضا اقتباس لبعض كلام امرئ القيس، كما لاحظتم، ولا شكّ. أقول إذًا، ولن أعلّق أكثر من هذا:

"أحبّ العراق كما لا يحبّ العراق أحد"
ولكنّما "اليوم خمر"
وحتّى يجيء الغد - وغدي لن يجيء -
سأنظر إن كان لي فيه أمر.
وإلاّ ...
فما بيدي أن أقرّر إلاّ ... مداومة السّكر
أشرب قبل مجيء الصّباح
وأشرب بعد انتصاف النّهار
وفي سهرة السّبت، حتّى...
يطلّ صباح الأحد.
وهذا الصّباح اللعين،
تصادر مطلعَه كدماتي
وكلّ مآسي حياتي
لذلك لن أستريح من السّكر يوما
لكي لا يشاركني في محبّة هذا المدام أحد.
"عفوا، ربّما كنت أقصد القول :
"لكي لا يشاركني في محبّة هذا العراق أحد."
وما دام الأمر مجرّد تغيير كلام بكلام
فاسقني الآن يا غلام
واسق، على حسابي، الحاضرين جميعا.

لم أكد أنهي قصيدتي وأنـحني تحيّة للحاضرين، حتّى علت من بين دخان السّجائر أصوات قرع الكؤوس والقوارير والتهاب الأكفّ بالتّصفيق المبين.
عدت إلى مكاني. هدأت الضّجّة رويدا رويدا. وعاد الجميع إلى ما كانوا فيه من حميم الجدل حول العراق. وما لبث أن تجاهلني الجميع، ناسين تماما أنّني موجود. إلاّ مذيع قناة الجزيرة في قطر، فقد واصل توجيه الخطاب إليّ شخصيّا يحدّثني عن العراق، ولا كلل.
نادل الكنتوار شابّ طيّب جدّا. سرعان ما شعر بما شعرت به. فسارع في التّعبير عمّا أجهدت نفسي لأكتمه. وصار يقترب منّي كلما سنحت له الفرصة ويهمس في أذني قائلا :
"...أنت رجل طيّب وكريم يا سيّدي. ولكنّهم أناس لا يفهمون شيئا من شيء، وهم خاصّة لا يقدّرون أصحاب المواهب... أقول لك، صراحة، إنّهم ربّما لم يعيروا أدنى انتباه لقصيدتك، ولا صفّقوا استحسانا لشعرك، وإنّما صفّقوا لما أمرت لهم به من كؤوس على حسابك...
"... لا تغتمّ يا أخي على كلّ حال... أنا استمعت إلى قصيدتك وأعجبتني فعلا... لا تخطئ في تقديري يا أخي، ولا يغرّنّك اشتغالي نادلا...
"... أنا في الحقيقة أفهم في الشّعر جيّدا. عندي أستاذيّة في الفنون الدّراميّة وتجارب في الكتابة المسرحيّة وحتّى الشعرية... ولكن هذه قضية أخرى سأحدّثك عنها مرّة أخرى... باختصار، حين أعترف لك أنا بأنّك شاعر، فأنت فعلا شاعر... بل أنت من فحول الشّعراء...
"... لن أتركك تخسر مالك هكذا على أناس لا يحفلون بك... كلّهم سكارى وسينسون جميعا أنّك أمرت لهم بشرب....
"... أنت أيضا يا أخي شربت ما فيه الكفاية... ولو سمحت لي بنصيحة، فإنّك تصنع خيرا لو تكفّ عن الشّرب نهائيّا... أوّلا هو إثم... ثمّ إن واجبك كشاعر كبيرا نحو شعرك لا يسمح لك به...
"... آه كم أغبطك... لو كانت لي موهبتك وشجاعتك وصدق إيمانك بالقضيّة، لتبت إلى الله حالاّ وأُبْتُ إليه... ذلك أنّ عندك ما به تطمح إلى لعب دور فاعل في الدّفاع عن العراق...

"... لم يفت شيء. فكّر جيّدا في الأمر ولا تقل شيئا لأحد. وسنلتقي قريبا، وإن شئت فإنّي سأعرّفك بمن يفتح في وجهك باب الخلود."
لست أدري إن كنت فهمت جيّدا ما قاله لي. ولكن، بدا لي صادقا في مشاعره تجاهي ولم أدر بما يجب عليّ أن أجيب. لحسن الصّدف جاءت الرّاعية الجميلة في تلك اللحظة بالذّات. لقد تهيّأت لموعدنا كأحسن ما يكون. كانت تقف بالباب المنفرج. وحين التقت عيناها عينيّ، أشارت إلي بأن أتبعها. وخرجت.
تظاهرت بالامتثال لنصيحة النّادل. توقّفت عن الشّرب. ونقدته ثمن ما استهلكته بنفسي، دون ما وعدت به من شرب الآخرين. اقترحت عليه حلاوة مقابل طيبته وقيامه على خدمتي. ولكنّه امتنع بحزم مستغفرا الله. إلاّ أنّه ألحّ عليّ في أن أتذكّره بالخير، ووعدني بأن يدعو لي بأن يهديني الله إلى الطّريق المستقيم قائلا:
"أعرف أنّك لا تشبه هؤلاء النّاس في شيء. أنت كبير وهم تافهون. أنت متفرّد. ولكنّني أحسّ بأنّ شيئا ما بداخلك يؤلمك كثيرا. ولن ينجلي ألمك هذا إلاّ بذكر الله. لهذا يا أخي، فإنّني سأصلّي لك هذا المساء وأسأل الله أن يهديك إلى سواء السّبيل."

*****

عند الامتحان... تزول السّكرة ويحضر البكاء. عند الامتحان، أنا محمّد الأمجد بريقشة، أقف هنا، عيناي ممتلئتان بالدّموع، ولا أقوى على نطق كلمة.
الامتحان ؟ راعية جميلة تتعرّى أمامي تماما وتعرّيني وتنتظر منّي أن أثبت لها ... فحولتي. وأنا، محمّد الأمجد بريقشة، أقف هنا أمام امتحاني، أمام هذه الرّاعية الجميلة وهي تعلن كلّ خيبة أملها فيّ. إنّها تعترف باحترافها البغاء، ولكنّها تقرّ بأنّها لم تراودني فقط من أجل ما كنت أعلن امتلاكه من أموال. ذلك أنّها ظلّت تنتظر بفارغ الصّبر ساعة خلوتنا في الفراش، بعد أن تهيّأت لها كما لم تتهيّأ أبدا لملاقاة حريف قبلي.
إلاّ أنّها اكتشفت، حين نزعَتْ عنّي، أخيرا، كلّ ملابسي، أنّ ما كانت تتخيّله فحولة ناعظة على الدّوام، لم يكن سوى بوصلة سيدي النّا... المتدلّية من حزامي بين فخذيّ. أمّا عضوي فقد ظلّ رغم كلّ محاولاتها مرتخيا إلى حدّ اليأس. وها أنا أبكي كما يبكي العجزة، لا أدري كيف أعتذر ولا أعرف أين أجد تعلّة أبرّر بها عجزي.
قلت لها بين شهقتين :
"أنا في الحقيقة لست عاجزا جنسيّا. ولكنّني أقسمت لعيشوشة على الوفاء لها ما حييت. وهذا بالتأكيد ما جعلني أعجز بدنيّا عن خيانتها، رغم إضماري الخيانة، رغم محاولتي تنفيذها."
أمام الامتحان، أنا محمّد الأمجد بريقشة، أقف هنا ذليلا مطأطئ الرّأس ، وقد سقطت مع ذلك في الثّرثرة. ويا ليت ما فتحت فمي. كنت أظنّني في حضرة راعية جميلة حسّاسة، إنسانيّة المعدن. لقد سمحت لنفسها بطاعة شهوتها وبانتظار أن ألبّيها لها. لذلك خلتها ستنظر إليّ بعين الإنسانة المتفهّمة، بل سترأف لحالي. ولكنّ القحبة المحترفة هي من تحرّكت في نفسها، فدفعتها إلى إرسال هذه القهقهات العالية البذيئة وإلى النّظر إليّ بصفاقة وهي تقول بصوت مرتفع لا تخشى أن يسمعه من في الغرفة المجاورة :
"استمعوا إلى هذا الشرح السّخيف. ليس أسخف منه إلاّ موقفك في الحانة وأنت تلقي ما تسميه قصيدة عن العراق أمام زبائن لا تعرفهم ولا يصلح لهم شعرك لأيّ شيء. لماذا تسمح لنفسك بالشّرب ولست أهلا للخمر؟ لماذا تستعين بخدمات النّساء وليس عندك ما به تشفي غليل النّساء ؟ ما دمت عاجزا عن التّمتّع بلذائذ الليل، فهات لي بسرعة ثمن أتعابي لأنصرف من هنا. أمّا أنت، فاذهب لتدسّ عارك تحت تلك المخدّة حتّى يطلع عليك الصّباح."
أمام الامتحان، أنا محمّد الأمجد بريقشة أقف هنا ذليلا مطأطئ الرّأس، وقد عادت إليّ ذاكرتي كاملة في دفقة واحدة. أعتقد أنّه مفعول الصّدمة. ها أنا أشاهد بوضوح كلّ ما جرى عليّ من أحداث حتّى الآن.
وإذًا ؟
وإذًا، فأنا محمّد الأمجد بريقشة، مازلت حيّا. ولكنّها حياة، الموت أفضل منها، لأنّه أشرف. أمام الامتحان، أنا محمّد الأمجد بريقشة أقف هنا ذليلا مطأطئ الرّأس. وهذا يعني أنّني لم أنقسم إلى نصفين كما تهيّأ لي. كما يعني أنّني إنّما سقطت إلى الحضيض دون أن أقوى على التّحرّر ممّا اختزنته ذاكرتي، أو أستطيع أن أعيث فيها لذّة، وأشبع فيها حياة مثل الآخرين.
أمام الامتحان، أنا محمّد الأمجد بريقشة أقف ذليلا مطأطئ الرّأس ، وقد فشلت في تلمّس حافة الميدان الذي نجح ياسين بالأغنج في السّيطرة على كامل تضاريسه. فشلت في الحفاظ على براءة محمّد الأمجد بريقشة، فشلت في حماية طهارته من أدران الطّرهوني.
أين أنت يا سيدي النّا... ؟ ومن لي يوقظني من هذا الكابوس الرّهيب ؟ أين أنت يا سيدي النّا... ؟ لست أهلا لثقتك. لست أهلا للمهمّة التي عهدت بها إليّ. طالت بي الرّحلة، يا سيدي النّا...، وتهت فلم أجد طريقي. عجزت عن الصّمود فإذا أنا أخون بوصلتك وأخونك. سقطت إلى الحضيض يا سيدي النّا... ولم أجن سوى غصّة النّدم.


ولأنّ الكارثة لا تحلّ منفردة بل تتبعها دائما سلسلة من الكوارث، فها هم ثلاثة في لباس مدنيّ يقتحمون علينا غرفة النّوم فيضبطوننا متلبّسين... أمام الامتحان، أنا محمّد الأمجد بريقشة أقف هنا عاريا، ذليلا، مطأطئ الرّأس. يلفّني المقتحمون في إزار أبيض، ويقودونني عبر أروقة النّزل مغمض العينين، لا أرى أين أضع رجليّ. هل هي صوّانة تنتقم لنفسها ؟

الهكواتي .../... يتبع

----
(1): (أبو العلاء المعرّي – رسالة الغفران) "ستّ إن أعياك أمري، فاحمليني زقفونة" هي قولة ابن القارح الشّهيرة إذ دعي لعبور السّراط فطلب من مضيّفته أن تحمله على ظهرها وتعبر به.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

القصة والتراث

تكريم الهكواتي

أنا أيضا ... حوماني