بوصلة سيدي النّا... 8 شاوش الحضرة، ثانية

سنتي على جناح السّرد 38 من 53 // بوصلة سيدي النّا... 8 من 23– 21 نوفمبر 2008


المسلك الثاني

صوّان فوق الكثبان



الوجهة الثانية 2

شاوش الحضرة، ثانية


"علاقة هذا بالواقع محض خيال"- الهكواتي


هذه بقية مقتطفات من وثائق مستخرجة من ملفّ المتّهم محمّد الأمجد بن الحبيب بن البحري بريقشة. الوثائق الأصلية تقارير عن مهام قام بها العون ميم نون 16، في إطار التحقيق، للاسترشاد عن طبيعة علاقات المتهم بكل من المشتبه فيهما المدعوين عامر بن محمد صالح بن عثمان منصورة، شهر "البينتو"، صاحب مطعم عائم في مارينا المدينة، ووكيل "بالانصي" على ملك زوجته كارلا بيكولو، مسجّل بميناء الصيد البحري بالمدينة، والصّحراوي بن رجب بن مرزوق العرقان، سائق سيارة أجرة "كامل الجمهورية" مقيم قرب مطماطة، ويعبر المدينة بانتظام.
اختار المقتطفات : هاء سين لام (هسل).

.......

... وحيث وجَدَنَا الصّحراوي العرقان في انتظاره حين أرسى سيّارته ليلا على مقربة من رباط المدينة، فعرضنا عليه صور سبعة أشخاص من بينهم عامر "البينتو" ومحمّد الأمجد بريقشة. فأنكر أن يكون عرف أيّا من هؤلاء. باستثناء محمّد الأمجد بريقشة الذي لم يكن يعرف اسمه، ولكنه قال عنه :

- أنسى كلّ حرفائي. وأنسى أنّني أنا الصّحراوي العرقان، ولا يمكن أن أنسى هذا الرّجل.

... وحيث ثبت لدينا أنّ الصّحراوي العرقان لا يعرف عامر "البينتو" لا بالاسم ولا بالصّورة، تماما كما أنّ عامر البينتو لا يعرف الصّحراوي العرقان لا بالصّورة ولا بالاسم... وحيث سألنا هذا الأخير عن سبب زياراته المتكرّرة إلى مارينا المدينة، فأخبرنا بأنّه يأتي للقاء ابن بلدته العيد الشيباني الذي يشتغل حارسا ليليّا لديار البحر ... وحيث أن العيد الشيباني من ثقاتنا الذين نعتمد عليهم كثيرا ... وحيث صاحبنا المظنون فيه إلى ديار البحر وتأكّد لدينا أن العيد الشيباني كان في انتظاره، كما كان شأنه دائما في مثل تلك السّاعة من أوّل الليل ... وحيث أن العيد الشيباني أكّد لنا متانة العلاقة التي تربطه بالصحراوي العرقان والتي تجمع عائلتيهما بالمصاهرة... وحيث اتّضحت استحالة أن يكون العرقان على معرفة بعامر البينتو أو بأحد آخر في المدينة غير العيد الشيباني... فقد سألناه عن السّبب الذي جعله يرسي سيارته دائما خارج مأوى المارينا، ما كان سببا في إثارة الشكوك حوله، فقال :

- "قد لا تصدّقني يا سيدي العون لو قلت لك إنّني أصبحت أخشى النّزول بالسّيارة إلى المارينا بسبب ما جرى لي مع صاحب الصّورة التي عرضتها عليّ..."

.......

... وحيث كان الصّحراوي العرقان مرتبطا بزبائن في انتظاره بالمدينة لتأمين بقية رحلتهم... وحيث أنّ هذا السّائق المثقّف المتخرّج من كلّية الشّريعة، اقترح علينا أن نملي عليه أسئلتنا فيأخذ فيها مذكّرة ويجيب عليها في تقرير كتابيّ يمدّنا به في أوّل سفرة يعبر خلالها المدينة ... وحيث صارحناه بأنّ السبب الأساسيّ لتأكيد شكّنا فيه، أخبار مدّتنا بها عيوننا، مفادها أنه قد يكون شوهد في صفاقس صحبة امرأة تدعى حورية... وحيث أخذ العيد الشيباني على عاتقه مهمّة تسلّم التّقرير وتحويله إلينا ... وحيث وصلنا التّقرير المطلوب في الموعد المحدّد، فإنّنا نلحقه بتقريرنا هذا كما ورد بخطّ يد صاحبه، ومعه شهادة بإمضاء الحاجة فاطمة بنت الأمين العافي ...

.......

باسم الله الرحمان الرحيم
مطماطة في ....

حضرة السيد المفتّش العام
إنّي الممضي أسفله الصحراوي بن رجب بن مرزوق العرقان، المولود في 23 مارس 1975 على مسافة قصيرة من مطماطة القديمة، والمحرز على شهادة الأستاذية من الكليّة الزيتونية للشريعة وأصول الدّين بتونس دورة سبتمبر 2001. أصرّح على الشّرف بأنّني أشتغل بانتظام منذ بداية أكتوبر 2006 كسائق بسيارة الأجرة المملوكة للحاجّة فاطمة العافي صاحبة الرّخصة كامل الجمهورية رقم (....) المسلّمة بتاريخ (...) وصاحبة السيّارة رقم (...)، حسب ما تنصّ عليه شهادة العمل المرفقة، والممضاة من طرفها إمضاء معرّفا ببلدية مطماطة بتاريخ (...) والتي تشهد فيها بمواضبتي على العمل واستقامتي وحسن سلوكي.

سيدي المفتّش العام
صحيح أن الفقر والبطالة والفشل مرّتين متتاليتين في مناظرة الكاباس، دفعتني إلى حافة اليأس. فحاولت "الحرقة" في الزورق الذي ضبطه حرس الحدود، كما يشير إلى ذلك بالتأكيد ملفّي المحفوظ لديكم. ولكّنني والله العظيم لا أذكر أيّ أحد من الذين نظّموا هذه العملية السرّية، سوى امرأة قالت إن اسمها زكيّة وأخذت منّي مبلغ الألف دينار. ثمّ تلاشت فلم أرها بعد ذلك ولا تمكّنت من التّعرّف عليها من الصّور التي عرضتها عليّ مصالحكم.

كما أقسم بالله العظيم أنّني لم أر أبدا صاحب الصّورة المدعو عامر البينتو، والذي قد تكون مهنته بحّارا. حتّى اسمه سمعته لأوّل مرّة حين يذكره أمامي السيد العون. فقد عدلت نهائيّا عن مشروع الخروج من التّراب التّونسي، منذ تمّ العفو عليّ وأمضيت على الالتزام وخرجت من السجن. وأنا اليوم مقتنع أكثر من أيّ وقت مضى، بأنّ النّاس في المجتمع درجات، وبأنّ الشهادات العلمية ليست بالمرّة وسيلة شرعية للارتقاء إلى الدّرجة الاجتماعيّة العليا، وبأنّه عليّ أن أقنع بالمكانة التي قدّرها لي الله. فالرّزق من عنده وعليّ أن أقبل أيّ عمل، في أيّ موقع. المهمّ هو أن يضمن لي دخلا يكفي لسدّ الرّمق.

وإنّي لمدين لعمّ العيد الشيباني، حارس ديار البحر بمارينا المنستير، الذي تعرفه مصالحكم جيّدا. فهو الذي ساعدني في الحصول على شغل موسميّ في نزل (...) كمساعد منشط لمدّة ثلاثة أشهر مع الإقامة الكاملة. وهو الذي نصحني باغتنام الفرصة لتعلّم السّياقة بما وفّرته من أجري. وهكذا حصلت على رخصة السياقة. ثمّ عطَفَتْ عليّ الحاجّة فاطمة فانتدبتني حال انتهاء فترة تربّصي وشغّلتني على سيّارة الأجرة التي تملكها.

سألتموني عن محمّد الأمجد بريقشة. وأعيد التّأكيد على أنّني لم أكن أعرف اسمه قبل أن أكتبه بإملاء السيد العون وهو يملي عليّ الأسئلة المطلوب أن أجيب عليها في هذا التقرير. أمّا وجهه فإنّني أذكره جيّدا، لأنّه من الوجوه التي لا يمكن أن تنسى أبدا. لقد رأيته في حياتي مرّة وحيدة. ركب معي في سيّارة الأجرة مرّة واحدة، منذ أكثر من سنة، انطلاقا من باب تونس. وبقيت أتذكّره، إلى يوم النّاس هذا. فصرت، كلّما مررت قرب ذلك الباب السّقيفة، ألتفت منتظرا أن يعترض طريقي هناك من جديد، أو أن يركب من هناك من يعرفه فأسأله فيدلّني عمّا جرى له.

بقيت حورية، أو حدّة بنت عبيدي حسب الاسم الذي ذكره لي السيد العون، والتي رآني مخبروكم أصطحبها إلى شقّتها في صفاقس. فأنا لا أنكر أنّها امرأة أعرفها فعلا، ولكن معرفة سطحيّة كما يعرفها الشّباب المحتاجون خدماتها. فأنا، كما لا يخفى عليكم أعزب، ولا يوجد في محيطي مجال لتلبية مثل هذه الحاجة. لذلك تعرّفت عليها منذ ستّة أشهر تقريبا، حين أتى بها بعض الشّباب إلى واحة في الجريد. فقضّيت معها بعض الوقت لأرفّه عن نفسي. ثمّ اعترضتني بعد ذلك في شوارع صفاقس. فتذكّرتني، ودعتني مرّتين أو ثلاثة إلى تلك الشّقّة فذهبت معها ودفعت لها في كلّ مرّة أتعابها. أمّا أن أجلس معها لتحكي لي عن علاقاتها، أو عمّن يشغّلها فهذا ما لم يحصل أبدا. لذلك لا يمكنني أن أفيدكم عمّا إذا كانت لها علاقة شغل بمحمّد الأمجد بريقشة، أم لم تكن.

حضرة السّيّد المفتّش العامّ
إذا كان لي أن أبدي رأيي في موضوع العلاقة المفترضة بين هذه المرأة وذاك الرّجل، فإنّني بصراحة أستبعد جدّا مثل هذا الأمر. لأنّ محمّد الأمجد بريقشة بدا لي، يوم رأيته، "مجدوبا" كما يقال. هذا حتّى لا أقول أكثر. وهو ما يتناقض جذريّا مع طبيعة الشّغل في مجال نشاط حوريّة.

فلقد رأيت في رحلة تلك الليلة أشياء على درجة من الغرابة لم أر مثلها في حياتي كلّها. كنت قد أنزلت بالمنستير مسافرا بقي مكانه شاغرا في مؤخّرة السّيارة. وكان طبيعيّا أن أطوف بالمدينة بحثا عن مسافر جديد يقصد وجهتي. كنت أعرف أنّ باب تونس ليس مكانا يعثر فيه على المسافرين. وكان الطريق خاليا تقريبا في مثل تلك الساعة من الليل وكنت أسير، نسبيّا، بسرعة. فما راعني إلاّ وهذا السّيّد يشير إليّ بإلحاح كي أتوقّف. فضغطت على المكبح ورغت فجأة إلى اليسار لأقف حذو الرّصيف. ولولا ألطاف الله لربّما صدمتني السيّارة التي كانت تجري ورائي وتحاول مجاوزتي.

قال لي : "هيا خويا قاصد ربّي".
فقلت "لا مقصود سواه".
قال لي : "أنت مرصود لي".
فضحكت وسألته: "إلى أين على خير؟"
قال "إلى تازغراط أو زمراط."
فأصلحت له: "تقصد تامزرط؟"
فقال لي وعلى وجهه ابتسامة عريضة: "قلها كما تريد المهم أنّني أعرف أنّ لك في السّيارة مكان وحيد، وأعرف أنّه مكاني أنا، وأعرف أنّك رجل مهذّب وأنّك ستحسن استقبالي وستوصلني إلى حيث أقصد في أحسن الظّروف."
للحقيقة، أعجبتني كثيرا سحنته الطّيبة وكذلك منطقه. قد يكون مردّ ذلك تقارب السّنّ بيننا وشعوري بأنّه على قدر معيّن من الثّقافة مثلي. ولذلك وجدت فيه، لأوّل وهلة، مثال الحريف المتخلّق.

فنزلت وأخذت جرابه فوضعته في حافظة السّيّارة. وقبل أن أفتح له الباب الخلفي، نبّهته إلى أنّني لا أقصد تامزرط بالذّات. ولكنّني سأبذل معه جهدا، حين نصل، لإيجاد سيّارة تأخذه إلى هناك. وإن لم أجد فسيكون عليه انتظار أن أنام ساعة قبل أن آخذه بنفسي إلى حيث يقصد. فما كان منه، وهو لا ينقطع عن الابتسام، إلاّ أن رفع صوته مدندنا باللحن الشّهير "الورد جميل". وكان صوته حسنا فعلا. فضحكت وضحك. ولكنّه قال بصوت خافت "خسارة، لقد حسبت لحظة أنّ من أبحث عنه جاء إلى حدّ عندي". فسألته عمّا يقصده. ولكنّه عاد إلى الضّحك وقال : "إنّما أمزح معك". ثمّ ركب وانطلقنا.

وما كدنا نخلّف وراءنا أضواء المدينة حتّى بدأ الرّجل يكشف عن شخصيّة فيها نوع من الطّرافة المبالغ فيها، إن لم أقل نوعا من الاضطراب. ما دعاني إلى مراقبته عن كثب في المرآة العاكسة. فقد كانت بحذائه امرأة عجوز لا يقلّ عمرها عن السّبعين سنة. كانت نائمة في زاويتها وكان هو لا يكفّ عن النّظر إليها باهتمام بالغ كما لو كان يريد أن يراودها عن نفسها. ثمّ فجأة أخذ يناديها "يا حبيبتي" ويقول لها "أريد أن أبوسك".

"احتشم - قالت له العجوز – ألا ترى أنّني في عمر جدّتك؟". إلاّ أنّه أخذ يشرح لها أنّها فعلا جدّته ولكن بإضافة بعض الوشم إلى جبينها وخدّيها، وتمادى يوضّح كيف أنّ كلمة "حبيبتي" هي في قاموسه مرادف لكلمة "جدّتي". بل إنّه كان مصرّا على أنّ اسمها الحقيقي الدّرعيّة جعيّدة وأنّ كلّ أسمائها الأخرى أسماء مزيّفة. وكان يلحّ عليها أن تتذكّره حين كان طفلا، يبيت عندها في سانية صوّانة.

عبثا قالت له إنّ الأمر قد لا يكون أكثر من مجرّد شبه وإنّها لا تعرف شيئا عن سانية صوّانة ولم تخلّف ذرّيّة حتّى يكون لها أحفاد. ولكنّه أخذ يسألها بكلّ جدّ: "هل أنت يا حبيبتي من عدت إلى الحياة أو أنا من انتقلت إلى جوارك ؟". ثمّ أخذ يضحك وكأنّه كان يمثّل علينا دورا هزليّا. ولم يلبث أن نام.

كنا قبل ذلك نطلب منه أن يهدأ ويصمت وأن يحاول النّوم. ولكنه كان يتّهمنا بأنّنا نتآمر عليه حتى يفشل في مهمته. كان يقول إنّ له بوصلة تشير إلى الجنوب وإنّها تمثّل اختراعا فريدا من نوعه. وكان يكرّر: "كلكم تريدون فشلي." ويضيف " أنا خائف من أن أفشل في هذه المهمّة يا ابّيّا و يا صبريّة."

وحين أفاق من نومه، عاد يتنغّم بشذرات من "يا قمرة الليل إضوي عليّ"، ويقول للعجوز "إنّما أنت جدّتي الدّرعية". ويدعوها إلى أن تغنّي معه كما كانت تفعل أيّام طفولته على حدّ زعمه. حتّى أنّ أحد المسافرين طلب منّي أن أنزله في الحال بينما هدّده آخر بالضرب مرّة واحدة إن هو عاد إلى إزعاج العجوز. ولكنّه ما لبث أن عاد ليقول لها "أريد أن أبوسك". فما كان منّي إلاّ أن ضغطت على المكبح لأوقف السّيّارة.

سيدي المفتّش العام
لك طبعا أن لا تصدّق شيئا ممّا سأرويه لك. ولكن هي عين الحقيقة لا أزيد عليها شيئا. كانت السّيّارة في ذلك الوقت تنزل بنا في منحدر خطير. وكانت خيوط الفجر قد بدأت تلوح واضحة من خلف الجبال الشرقية. ولكن، ما إن لمست برجلي مكبح السّيّارة، حتّى أظلم الأفق فجأة، وأضحت الطّريق قدّامي هاوية لا قرار لها. ولم يعد لي أدنى تحكّم في سيّارتي. حتّى محاولتي قطع دوران المحرّك، باءت بالفشل. أدرت المفتاح بل سحبته تماما وبقي المحرّك يشتغل والسيّارة تجري بعجلات لا موجّه لها.

كنّا نسير بسرعة لا حدّ لها نـحو هلاك محقّق. ولم يرجع لنا الأمل بالنّجاة إلاّ حين صاح محمّد الأمجد بريقشة فجأة : "يا صوّااااااانة". عندها دوّى صدى صياحه في الجبال المجاورة. فإذا المكبح يعود فجأة إلى العمل. ولكنّني ما استطعت إيقاف السّيّارة إلاّ بجهد جهيد. إلاّ أنّ الأفق بقي مظلما.

حين توقّفت السّيّارة أخيرا كنّا جميعا في حالة يرثى لها من الدّوار. فأصدر محمد الامجد بريقشة أمره لنا جميعا بالنّزول. وكانت لهجته حازمة، وكأنّنا كنّا في سيّارته الشخصية.

قال لنا: "لا تخافوا إنكم الآن داخل حلمي". نعم والله، هكذا قال حرفيّا "لا تخافوا إنكم الآن داخل حلمي". وأضاف: "دعوني الآن أسترح قليلا في السّيّارة، واذهبوا أنتم للاسترخاء في ذلك المقهى".

لم أكن أعرف في ذلك المكان أيّ مقهى ولا حتّى أي متجر. ولكنّنا نزلنا. فإذا على بعد مائتي متر تقريبا أنوار تتلألأ في الجبل. توجّهنا إليها. فإذا نـحن، بالفعل، وسط مقهى. وقد كنّا جميعا في حاجة إلى الماء والمستراح والقهوة الساخنة.
حين قفلنا راجعين، كان صوت محمّد الأمجد بريقشة يصدح من بعيد بأغنية "يا قمرة الليل إضوي عليّ". كان يغنّيها والألم يثرّ من صوته كالدّمع ينهمر من عين جارية. وكان الجبل من حولنا يردّ عليه: "يا قمرة الليل خانوا طريقي... قلبي مكدّر ونشفّ ريقي". فما سمعت أغنيته أبدا توحي لسامعيها بمثل ذلك الشجن ومثل ذلك الخشوع. وحين وصلنا، وجدنا محمّد الأمجد بريقشة يرجّع المطلع وهو في حال إجهاد كامل وصدره مبلّل بدموعه وكأنّه نصف نائم. أمّا السّيّارة، فقد وجدناها تعبق برائحة البخور.

كنّا قبل وصولنا إلى السّيارة نكتم عن بعضنا خوفنا من حادثة إظلام الأفق فجأة وبقائه مسودّا إلى ذلك الوقت. وكنّا نخفي قلقنا في تعاليق على جمال هذه الأغنية الصّوفيّة ومدى تأثيرها في مشاعر كلّ منّا. وكنّا نتساءل عمّا إذا لم يكن هذا الشّاب يعيش مأساة تظهر جليّة في ذبذبات صوته. وهي التي تدفعه إلى مثل ذلك التّصرّف الفوضويّ. وعموما، كنّا جميعا مجميعين على الإعجاب به وقد تحوّل انزعاجنا منه إلى تعاطفا معه وخوف عليه.

ركبنا السّيّارة دون اعتراض منه. فوجدناه يتحدّث بكلام غريب. وما كنّا نخاله نائما. حتّى أنّ بعضنا كان يريد أن يتجاذب معه أطراف الحديث ليعتذر له نيابة عنّا جميعا. ولكنّه نهرنا وأمرنا بالسّكوت تماما حتّى نسهّل عليه فهم حلمه جيّدا كما قال.

شغّلت المحرّك فاشتغل بصفة عاديّة. وانطلقنا من جديد ونـحن صامتون بينما هو يتكلّم من حين لآخر فيقول "فكرة رائعة أن تشير البوصلة إلى الجنوب عوض الشّمال". ويقول "لا تقرصيني يا أميمتي أرجوك أريد أن أكمل حلمي". ويقول "اشتقت إليك يا صوّانة. فأنا لم أرك من سنين."

ظلّ الأفق حتّى السّاعة مظلما. وظلّت السّيّارة تسير معتمدة على أضوائها. حتّى إذا بلغنا نقطة وسط الجبال تبعد حوالي عشرة كيلومترات على زاوية سيدي التواتي، طلبت العجوز النّزول. فإذا محمّد الأمجد بريقشة يستيقظ مصرّا على النزول معها، رغم الحاح الجميع عليه بالبقاء.

عبثا حاولت أن أطمئنه على أنّني سأوصله بنفسي إلى تامزرط. فقد أرسل إليّ نظرة ثاقبة. ونزل في صمت أثناء نزول العجوز فأخذ جرابه وابتعد قليلا عن السيّارة. فلم أجرأ على أن أطلب منه نقودا ولا هو تذكّر فأعطاني. بل إنّه لم يفتح فمه ولو بكلمة واحدة ليسلّم علينا.

سيدي المفتّش العامّ
الغريب الغريب، في كلّ هذا، أنّني ما كدت أبتعد عن تلك النقطة التي أنزلت فيها العجوز ومحمد الأمجد بريقشة، حتى أشرقت الشّمس فجأة. كانت ساطعة وقد قاربت كبد السّماء، كما لو أنّ كلّ الذي جرى لنا قبل شروقها الجديد، لم يكن إلاّ حلما.

أمّا الغريب الأغرب، فهو أنّني حين عدت إلى المنستير بعد تلك الحادثة وهممت بنزول المنحدر بين الرّباط والمقبرة، لأذهب إلى المارينا، رأيت الأفق يظلم فجأة والحال أنّ الوقت كان عصرا. وشعرت بنفس شعور الخطر الذي انتابني ليلة كنّا ننزل منحدر جبال مطماطة. ولذلك إنّما صرت أركن سيّارتي بمحاذاة الرّباط وأنزل إلى المارينا على رجليّ.
هذا، سيدي المفتّش العام، كلّ ما عندي أجيب به على أسئلتكم. لقد ركب معي محمّد الأمجد بريقشة من باب تونس ونزل على بعد عشرة كيلومترات من سيدي التّواتي في الخلاء المحيط بجبال مطماطة. رأيته بعينيّ يحاول الانطلاق عدوا. وفجأة عاد النّور إلى صباحه، فعميت عنه. وأظنّ أنّه، في تلك اللحظة بالذّات، إنّما تاه في الجبل حيث قد تكون الوحوش افترسته...

الهكواتي / يتبع

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

القصة والتراث

تكريم الهكواتي

أنا أيضا ... حوماني