بوصلة سيدي النّا... / 6 دائرة الجاذبيّة

سنتي على جناح السّرد 36 من 53 // بوصلة سيدي النّا... 6 من 23– 7 نوفمبر 2008

المسلك الثاني

صوّان فوق الكثبان


الوجهة الأولى

دائرة الجاذبيّة

"علاقة هذا بالواقع محض خيال"- الهكواتي

عاجل جدّا.
من غيلان 79 آت ياهو نقطة أف آر،
(Ghailan79@yahoo.fr) .
إلى ميارى86 آت جيمايل نقطة كوم
ميارى يا عزيزتي،
جوّالك مغلق طوال الوقت. وخطّك على السّكايبي (Skype) منطفئ دائما. حتّى غرفتك تسبح في الظلمة، يا عيشوشتي. منذ حين، تجرّأت فطرقت على قضبان حديد نافذتك، حسب اتّفاقنا عند الطّوارئ. ولكن لا حياة في بيت العجل، على ما يبدو.
أنا مضطرّ إلى السّفر حالاّ. ومن هنا فصاعدا، لم يعد بإمكاني الاتّصال بك، لكوني تخلّيت عن جوّالي، ولست واثقا من إمكان الارتباط بشبكة الإنترنت قبل عودتي. لم يبق لنا إلاّ التّلاقي في الحلم. وقد اشتقت إليك كثيرا يا ميارى. آه لو نلتقي من جديد في عرض المائدة الكبرى. هل تذكرين ؟ أدعوك بإلحاح إلى زيارتي هناك. لا تخافي من البرد يا حبيبتي. فالأمواج مازالت دافئة. سأنتظرك في أحلامي القادمة فلا تتأخّري.
عشق أبدي.
غَيْلاَنُكِ دائما – محمّد الأمجد بريقشة.
ملحق : أسافر ومعي بوصلة سيدي النّا...، وقد اكتملت عندي أجزاؤها، وتماسكت بمسمار لولبي ذهبي وحزقة من فضّة، تشعّ منهما حرارة تشحنني بطاقة عجيبة. سأحدّثك عن كلّ التّفاصيل في أوّل حلم آت. في انتظارك على أجمل من حمّى.
قبلات لذيذة.

*****


... أخيرا أتنفّس ملء رئتيّ. يبدو أن كلّ شيء، تقريبا، صار مرتّبا حيث ينبغي أن يكون. عيشوشة ستستلم رسالتي حال ارتباطها بالشّبكة. وخدّوجة الجعيّد ستستيقظ في الصّباح، فتجد عند رشيدة الخبر اليقين. وبوصلة سيدي النّا... عندي، مشدودة حول خصري. وأنا في سيّارة أجرة تتجه بي إلى تازغراط. وكلّ خيوط حكايتي بين يديّ، أمسك بها أخيرا وحدي.
لم يبق لي الآن إلاّ أن تبتعد بي السّيّارة بضع كيلومترات عن باب تونس. وهكذا أنعتق تماما من تأثير رياحه إذا عنّ لها أن تهبّ من جديد في اتجاهات معاكسة. كلّ المسافرين في هذه السّيّارة نائمون. فالطّريق طويلة على ما يبدو. ولا أحد منهم، بل ولا أحد خارج أسوار المدينة، يمكن أن يخطر بباله أن يقتحم عليّ حلمي، أو أن يسطو على حكايتي فيستأثر بها دوني.
الإشكال الوحيد هو أنّ إبرة البوصلة، التي يفترض أن تشير إلى الشّمال دائما، هي الآن بصدد الإشارة إلى عكس اتجاه السّيّارة تماما. هل هذا لأنّ البوصلة كانت متروكة لسنين طويلة ؟ أم لأنّ خصوصية هذه البوصلة بالذّات أنّها تتميّز عن سائر البوصلات الأخرى بقدرتها على الإشارة إلى الجنوب ؟
مشروع رائع حقّا أن توجد في هذه الدّنيا بوصلة تشير، أخيرا، إلى الجنوب.
ولكنّ مسؤوليتي في هذه الرّحلة ستكون ثقيلة ومضاعفة إذا صحّت هذه الفرضيّة. فلا بدّ من حماية البوصلة بالتّزامن مع البحث عن صاحبها. سأبدأ إذا بإدخال البوصلة في تلافيف ثيابي الدّاخلية، فهكذا أخفيها عن أعين الفضوليّين وقطّاع الطّرق. مسؤوليّة ثقيلة فعلا، ولكن عندي إحساس بأنّني في مستوى المهمّة وبأنّني سأكون عند حسن ظنّ سيدي النّا... و"البّيه" صبرية. فبداخلي الآن طاقة خارقة.
الآن يجتمع في خدمتي الحلم والواقع، والليل والنهار، والماضي والحاضر والمستقبل. إضافة إلى أنّ بابا خفيّا على العالم الآخر، انفتح لي لتصلني عبره إشارات دعم فعليّ، ألمسها الآن في يقظتي، بعد أن كنت أكتفي باستقرائها في منامي.
فهل سيكفّ هبوب الرّيح المعكوس أخيرا على باب تونس ؟ هذا هو السّؤال.
على كلّ حال، هذا ما تبشّر به تلك السّكينة التي وجدتها بداخل الباب السّقيفة، وأنا أعبره إلى خارج السّور منذ حين. وما هذه إلاّ علامة تؤكّد وجودي ضمن دائرة الجاذبيّة التي حدّثتني عنها "البّيه" صبريّة منذ حين.
فقد قالت لي "البّيه" صبرية وهي تدلق خلفي الماء من دلو بلاستيكي أبيض، كما تفعل كلّ أمّهات الرّبط حين يخرج أبناؤهنّ لسفر طويل: "أنا لست خائفة عليك يا مجدة. انطلق، والله معك. فأنت الآن في دائرة الجاذبيّة". نعم، هذا ما قالته لي حرفيّا. "البّيه" صبرية بكماء. ولكنّها حين تتكلّم، لا تنطق إلاّ بالحقّ. وقد تبيّن لي بالحجّة القاطعة أنّها على حدس لا يخطئ أبدا.
فحالما خطوت خطوتين داخل سقيفة باب تونس، هبّ عليّ نفح من بخور جدّتي الدّرعيّة الجعيّدة وهي ترسل صوتها بالدّعاء لي : "الله يعطيك رفيق في وقت الضّيق يا كبدي". شعرت بقلبي يخفق في صدري ورفعت بصري إلى السّقف المقبّب فبدت لي فيه فتحة كمثل ابتسامة جدّتي. وانثال من تلك الفتحة نور دافئ أضاء لي وجهي.
هذه فقط حجّة أولى. أمّا الثّانية، فجاءت بعدها مباشرة. فبمجرّد أن وضعت رجليّ خارج سور المدينة، كانت سيّارة الأجرة قادمة نـحوي من جهة البحر، كأنّها مرصودة لي. توقّفت أمامي بالضبط، تحت مصباح البلديّة. ونزل سائقها يدعوني بكلّ كياسة: "هيّا خويا قاصد ربّي ؟"
أجبته: "نعم، لا مقصود سواه". ومددت له جرابي فركنه في صندوق الأدباش، مع حقائب المسافرين. وركبت في المقعد الخلفي، بحذاء عجوز ذات وجه جميل، يشبه وجه جدّتي درعية الجعيّدة ولكنه مائل إلى السّمرة، بوشم على الجبين ووشمين آخرين على الوجنتين. ابتسمت لي العجوز هنيهة، في صمت، ثمّ أغمضت جفنيها من جديد وعادت إلى النّوم. وها هي رحلتي تنطلق أخيرا.


*****


... أفتح عينيّ على صوت أبواب تفتح وحركة تدبّ في السّيّارة. كم طول المسافة التي قطعناها حتّى الآن؟ يبدو أنّ الطّريق مازالت تطول... أنظر عبر البلّور، فلا أرى غير ظلام الليل الدّامس يلفّ السّيّارة. أشعر بالحدس بأن المسافرين يبتعدون في اتجاه نور ضئيل يبدو بعيدا عن الطّريق المعبّد. قد يكون مقهى. لأنّه بدالي أنّ السّائق دعاني إلى شرب قهوة، وأنّني أجبته دون تفكير بأنّني أفضّل النّوم.
لا أحد من الرّكّاب بقي في السّيّارة. هذا على الأقلّ ما تهيّأ لي قبل أن أغمض عينيّ. ولكن هذه أصابع ناعمة تمسّح على شعري. هل يعني هذا أنّ العجوز التي كانت بجانبي، بقيت في السيّارة هي الأخرى ؟ ولكن، كيف تسمح لنفسها بأن تمسّح شعري على هذا النّحو كما لو كنت لها ابنا أو عشيقا ؟
...أفتح عينيّ من جديد. يا الله، منذ كم سنة لم أر هذا الوجه الأليف حتّى في منامي؟ لا تقرصيني يا أميمتي، رجاء. أريد أن أمكث في الحلم هنيهة أخرى، دقيقة واحدة:
- صوّانة ... لكم اشتقت إليك يا صوّانة. أين غبت عنّي كلّ هذه السّنين الطّويلة ؟ أخيرا ترضين عنّي وتجيئين لزيارتي في حلمي.
- بل أجيء لزيارتك في يقظتك يا مجدة، كما كنت أجيئك وأنت صبيّ. هل تتذكّر ؟
- طبعا أتذكّر. لم تتعوّدي على التّنكّر أبدا. ولكنّك الآن تتخفّين عن النّاس. فمنذ حين، كنت متنكّرة في هيأة عجوز.
- أبدا، لم أتنكّر بالمرّة، بل جئتك الآن فقط، ولا علاقة لي بالعجوز. فالعجوز ذهبت، وقد تعود مع الآخرين.
- لم تكذب "البّيه" صبرية إذًا. أنا في دائرة الجاذبيّة. أنا سعيد جدّا يا صوّانة. ولكنّني في الحقيقة خائف. أخاف يا صوّانة أن أفشل في مهمّتي. فهذه أوّل مرّة أخرج فيها من باب تونس دون أن ينتظر أحد عودتي في نفس اليوم إلى الرّبط. لذلك أحتاج إلى من يرافقني في رحلتي. وليس لمثلي أحسن منك رفيقا. فهل تريدين البقاء معي يا صوّانة؟
- ها قد عادوا. اسكت الآن وعد إلى النّوم. ألقاك حين يطلع النّهار وتكون، عندها، قد وصلت.


... من جديد أشعر بقلبي يخفق بقوّة في صدري. وقبل أن تنفتح أبواب السيّارة ويصعد المسافرون لأخذ أماكنهم، أرفع بصري فأرى فتحة تشقّ صفيحة السّقف، فتحة كتلك التي رأيتها في قبو باب تونس، بنفس الشبه مع ابتسامة جدّتي، وبنفس النّور الدّافئ ينثال منها من جديد ليضيء لي وجهي. وحين تنفتح الأبواب ، أخيرا، ويصعد المسافرون، ينتشر في أرجاء السيّارة مزيج من رائحتي البخور والقهوة.

الهكواتي .../... يتبع

تعليقات

‏قال غير معرف…
رائع، نص بكلو احساس و شاعرية، خلاني نسرح معاه
يعطيك الصحّة

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

القصة والتراث

تكريم الهكواتي

أنا أيضا ... حوماني