بوصلة سيدي النّا... / 7 شاوش الحضرة

سنتي على جناح السّرد 37 من 53 // بوصلة سيدي النّا... 7 من 23– 14 نوفمبر 2008


المسلك الثاني

صوّان فوق الكثبان



الوجهة الثانية 1

شاوش الحضرة


"علاقة هذا بالواقع محض خيال"- الهكواتي


هذه مقتطفات من وثائق مستخرجة من ملفّ المتّهم محمّد الأمجد بن الحبيب بن البحري بريقشة. الوثائق الأصلية تقارير عن مهام قام بها العون ميم نون 16، في إطار التحقيق ، للاسترشاد عن طبيعة علاقات المتهم بكل من المشتبه فيهما المدعوين عامر بن محمد صالح بن عثمان منصورة، شهر "البينتو"، صاحب مطعم عائم في مارينا المدينة، ووكيل "بالانصي" على ملك زوجته كارلا بيكولو، مسجّل بميناء الصيد البحري بالمدينة، والصّحراوي بن رجب بن مرزوق العرقان، سائق سيارة أجرة "كامل الجمهورية" مقيم قرب مطماطة، ويعبر المدينة بانتظام.
اختار المقتطفات : هاء سين لام (هسل).


.......
... وحيث أثبتت التّحريات أن المظنون فيه عامر "البينتو" عاش مهاجرا في إيطاليا لأكثر من عشر سنوات... وحيث أنّه كان من أصحاب السّوابق قبل هجرته وأثناءها، ثمّ بدت عليه الاستقامة بعد زواجه وعودته النّهائية... وحيث أنّ الصّحراوي العرقان، في المقابل، يعتبر نقيّ السّوابق لولا محاولته اجتياز الحدود خلسة إلى إيطاليا منذ ستّ سنوات، ضمن عملية لم يتمّ التّعرّف على منظّميها إلى اليوم... وحيث استفيد أنّ الصّحراوي العرقان يتوقّف بالمدينة في كلّ رحلة له بين العاصمة ومطماطة. فيُنزل كلّ الرّكاب لاستراحة تدوم ساعة، تقريبا، ويتركهم بالمحطّة وينصرف وحده بسيارته... وحيث علمت مصادرنا أيضا أنّ العرقان يتردّد على مارينا المدينة بصفة غير منتظمة، ولكن دون أن يثبت صعوده إلى المطعم العائم أو لقاءه بعامر "البينتو". علما بأنّه كان في كلّ مرّة يركن سيّارته قرب الرّباط وينزل على رجليه إلى هناك، رغم وجود مأوى سيّارات. ما يشكّل مبرّرا لشكوك مخبرينا...
.......
... وحيث اتّصلنا بالمدعو عامر "البينتو" في مطعمه العائم فأكّد قرابته بالمتّهم وعلاقتهما القديمة التي بدأت يوميّة غاية في المتانة وانتهت إلى جفاء كامل يقول عنه "البينتو" إنّه "لا تفسير له و لا مبرّر". فقد سألناه عن هويّة صوّانة التي يرفض المتّهم تقديم أيّ معلومة عنها ولكنّه لا يكفّ عن ذكرها كلّما همّ بادّعاء فقدان الذّاكرة، فأفاد بما يلي:
"في رأيي يا سيدي العون أنّ صوّانة هذه غير موجودة. وحتّى إن كانت موجودة فأنا لم أصدّق أبدا ما كان ابن خالتي يدّعيه من علاقة معها. ولكن، الآن وقد اتّضح أنّه فعلا حيّ، وأنّكم قبضتم عليه وأودعتموه السّجن، فلم يعد عندي شكّ في أنّه "قطّوس" بسبعة أرواح. بل إن هواجس بدأت تساورني فعلا في كون صوّانة يمكن أن تكون حقيقة لا ادعاء، وفي أنّها يمكن أن تكون فعلا حرزه العجيب الذي أعاده إلى الحياة بعد موت. فسبحانه، يحيي العظام وهي رميم."
"ماذا أقول لك، يا سيدي العون ؟ "مصولح"، محمّد الأمجد بريقشة. "أي نعم، "مْصُولَحْ". والله العظيم "مَفْلَقَةُ" ضحك. لست أدري كيف أمكن لهذا البهلول أن يصل إلى الجامعة وأن يأخذ الشّهادة الكبيرة ويصبح أستاذا."
"أنا أعترف، يا سيدي العون، بأنّني كنت في مرحلة ما من حياتي، "بزناس" سوّاح، و"طيّابا" أحمّم النّساء في نزل العجائز، وأنّني كنت بيّاع "نفّة" في "مزارة ديل فالّو". هذا تعرفونه وربّي يغفر ويسامح. كما أعرف ما يشاع في المدينة من أنّ زوجتي هي إحدى القحاب اللائي كنت مكلّفا بحمايتهنّ في بالارمو. ولكن، مهما كان نصيب هذا الكلام من الصّحة، فكلّ ما قمت به "أَرْجَلُ" ألف مرّة من العمل "بنادري" و"عطّاي كلام" في حضرة النّساء ... نعم، يا سيدي العون، محمّد الأمجد ولد خالتي خدّوجة كان، إلى ما بعد العاشرة من عمره، "مْصُولَحْ". أي أنّه كان جسما في خدمة أرواح الأولياء والصّالحين. ولقد كان هناك من النّساء من يعتقدن فعلا أنّه كان على علاقة بالجان. أي أنّه، بتعبير أدقّ، كان "يعطي الكلام" الذي يجريه الجان على لسانه. فكنّ يتحلّقن حوله كلّما أخذته "نوبته" فيجيبهن على أسئلتهنّ الغامضة بكلام لا يفهمه غيرهنّ."
"كانت خالتي خدّوجة كثيرا ما تمرض فتلازم المستشفى وتضطر إلى ترك ابنتها رشيدة عند أمّي. بينما يبقى محمّد الأمجد عند جدّتي الدّرعيّة جعيّدة. وكانت جدّتي آنذاك رئيسة الحضرة "المدنيّة". فكانت تضطر أحيانا إلى اصطحاب محمّد الأمجد معها إلى حفلات الختان والنّفاس وحلقات الذّكر النّسائيّة المعدّة لطرد التّابعة وسوء الحظّ. وللحقيقة، يا سيّدي العون، فقد كانت لمحمّد الأمجد موهبة في دقّ البندير وحفظ أناشيد الذّكر الصّوفيّ لم يحرز مثلها صبيّ في سنّه. فقد كان يحفظ كلّ الأذكار و"الورود" ويغنّيها أحسن ممّا تغنّيها "ردّادات" الحضرة. حتّى أنّه سرعان ما ضمن لنفسه مكانا قارّا معهنّ، حافظ عليه حتّى وهو يستعدّ لاجتياز امتحان السّيزيام."...


.......
... وحيث طلبنا من عامر "البينتو" أن يحدّد باختصار زمن وظروف ظهور صوّانة في حياة المتّهم. فقد عاد بذاكرته إلى زمن الطّفولة قائلا :
"بدأ "التّصوليح" يظهر على محمّد الأمجد بريقشة في تلك الصّائفة التي قضّيناها معا في سانية جدّتي. فقد ظلّت الدّرعيّة جعيّدة، صائفة إذ، تروي لنا قصّة "صوّانة المزيانة بنت سواد الليل والقمرة المليانة"، وتكرّرها على مسامعنا كلّ ليلة. حتّى أنّ محمّد الأمجد جاءها ذات يوم مدّعيا أنّه أصبح يرى صوّانة كلّما استيقظ في الصّباح الباكر وأنّه يحادثها وهي تحادثه. فإذا جدّتي تصدّقه، يا لدهشتي، وتسأله أن يصفها لها وتشجّعه على أن يصبح لصوّانة صديقا حميما. فهي التي كانت، حسب قول جدّتي، مرصودة له لتسهر على صونه من كلّ مكروه وعلى تجنيبه الوقوع في حبائل أصحاب الشّرّ. وهكذا كان محمّد الأمجد يختلق في كلّ مرّة قصّة لقاء له مع صوّانة. فتصدّقه جدّتي حين يدّعي أنّه تحادث معها، وتصدّقه حين يقول إنّها منعته من الخروج من البرج عند القيلولة حتّى لا تفترسه "عجوزة القايلة" أو يختطفه "سلاّل القلوب"، وتصدّقه حين يقول إنّها صارت تزوره قبل النّوم فتذكّره كلّ ليلة حتّى ينطق بالشهادتين قبل انغلاق عينيه."
"أمّا أنا، يا سيدي العون، فكنت على صغر سنّي أعلم تمام العلم، أنّ صوّانة هذه لا وجود لها. وكنت أخرج من البرج إلى الحديقة الشّاسعة والشّمس في كبد السّماء. فلا أخاف "عجوزة القايلة" ولا "سلاّل القلوب". كنت أقول لمحمّد الأمجد: "أنا، حين أخرج وحيدا، تخاف منّي "عجوزة القايلة" فتهرب. وأنا من أجري وراءها حتّى تخرج من السّانية. فإذا كانت لديك صوّانة كما تدّعي، فاخرج مثلي وابدأ بتجريبها إن كانت قادرة على حمايتك من "سلاّل القلوب". وكان هو يجيبني بأنّ صوّانة لا تظهر له إلاّ حين يهمّ باقتراف فعلة يعاقب عليها الكبار، فتمنعه من السّقوط في المطبّ حتّى لا يناله العقاب. وكان يدّعي أيضا، أنّها حين تنصحه ولا يسمع كلامها، تغضب منه ولا تعود لمحادثته أو حمايته من أيّ شيء. فيظلّ يقع في كلّ المطبّات التي تعترضه، حتّى تصفح عنه صوّانة وتعود إلى مصاحبته."
.......
...وحيث أنّ ما تقدّم كاف للتّأكّد من أنّ صوّانة هذه لا توجد إلا في خيال المتهم ... وحيث لا تهمّنا المعلومات الهامشية، من نوع أنّ محمّد الأمجد بريقشة كان كلّما طُلب منه أن يحتفظ بسرّ كشفه في النّهاية، بدعوى أن صوّانة تنصحه بأن يقول الحقيقة كاملة ... وحيث لا تهمّنا أيضا حكايات عبث الأطفال من نوع أنّ عامر "البينتو" كان يأخذ ابن خالته معه عبر طابية هندي، فينـحدر به إلى البحر مع الجبل المنذر بالانهيار، ويغمسان أرجلهما في الماء حتّى الرُّكَب دون أن يستحمّا، يمّ يعودان من حيث أتيا. فإذا به يجد في السّانية من ينتظرهما ليكيل العقاب له دون محمّد الأمجد... وحيث طلبنا من عامر "البينتو" أن يكفّ عن هذه الذّكريات التّافهة ويحكي لنا عن حقيقة خلافه مع المتّهم وأسباب هذا الخلاف، فأفاد بما يلي:
"ليس لي معه أيّ خلاف. والله يا سيدي العون. كلّ ما في الأمر أنّني اقترحت عليه العمل معي على "البالانصي" فرفض. وهذا من حقّه، فهو كما يقول "أستاذ". ولكن، يلقى فعله، سيدي النّا... فالخطأ منه. لقد كان يحبّ محمّد الأمجد أكثر منّي. بل كان لا يطيق رائحتي. لقد كان يعاقبني أنا كلّما ارتكبنا حماقة معا، ولا يمسّ محمّد الأمجد، بدعوى أنّني أنا الأكبر وأنّني أنا من استدرجته ليفعل معي ما فعلنا. أذكر أنّ سيدي النّا... كاد أن يقتلني خنقا ذات مرّة، بينما كنت بريئا تماما من تلك الفعلة وكان محمّد الأمجد المذنب الحقيقي. وفي تلك المرّة أيضا، لم يمسسه بضربة واحدة..."
...وحيث استوقفنا عامر "البينتو" لنستوضحه عمّن يكون هذا الذي دعاه "سيدي النّا..."، فأفاد بأنّ من تقاليد المدينة أن يدعوَ ابنُ الأختِ خالَه "سيدي"، وبأن "النّا..." تصغير لاسم النّاصر، وبأنّ المقصود إذًا هو خاله المرحوم الرّايس النّاصر بن المازري الجعيّد الذي اشتهر في حياته باسم "سيدي النّا..." حتّى أنّ كلّ سكان الرّبط كانوا يدعونه به، حتّى الكبار منهم. وتابع قائلا :
"كاد سيدي النّا... يقتلني يا سيدي العون، قلت لك. ألست ابن أخته، أنا أيضا ؟ أليست قميرة ابنة المازري الجعيّد هي الأخرى؟ أليست هي الأخرى أخت الرّايس النّاصر، تماما كما أنّ خدّوجة أخته ؟ أم أنّ ولد خدّوجة زائد "لقشة" على ولد قميرة ؟ هل كان ينبغي أن أعيش يتيم الأب مثل محمّد الأمجد حتّى يتشرّف بي سيدي النّا... ويعاملني كما يعامله ؟ ما الذي يدفع خالا إلى أن لا يكون عادلا بين أبناء أخواته ؟ هل يمكن أن تجيبني، يا سيدي العون؟"
"لقد كان يفضّله عليّ بدعوى أنّه لم يرسب أبدا في أيّ فصل، وأنّني كنت فاشلا في الدّراسة. لكلّ شأن أناس يصلحون له، يا سيدي العون. وأنا لم أكن أصلح للكتب والكرّاسات والأقلام. كنت أذكى من أن أهتمّ بهذه السّفاسف. كنت أعرف أنّني سأنجح في الحياة دون إرهاق نفسي في حفظ الدّروس. فلماذا أضيع وقتي؟ لم أكن أحبّ "القراية" ولا "القرّايين". تكرّر رسوبي حتى لحق بي محمّد الأمجد بريقشة. ودرسنا معا في السّنة الخامسة من التعليم الابتدائي. ثمّ أطردت من المدرسة لهروبي من امتحان "السّيزيام" سنتين متتاليتين."


"ما الغريب في الأمر يا سيدي العون ؟ أين يرون المأساة فيما جرى؟ وما الذي حدث في الكون ؟ ها هي ذي الأرض ما تزال تدور. ها هي ذي دائما واسعة وعريضة. وفيها دائما مكان لي ولغيري. بل فيها مكان لي أوسع من المكان المعدّ لغيري. والفاهم يفهم. أليس هذا هو الواقع يا سيدي العون ؟ قولوا الحقيقة للنّاس. ها أنا أحذق ثلاث لغات أجنبيّة ومحمّد الأمجد لا يحسن أكثر من لغة واحدة. فأنا أتكلّم الإيطاليّة والإنقليزيّة والفرنسيّة بطلاقة، وهو يجد صعوبة في إجراء محادثة مسترسلة بالفرنسيّة. ثمّ يا أخي، إذا كان أبي وأمّي فخورين بي كما أنا، بلا شهائد، فما الذي كان يزعج سيدي النّا...؟ وما دخله في الموضوع أصلا ؟ هل طلبت منه أبدا أن يصرف عليّ كما كان يصرف على محمّد الأمجد ؟"
"كنت أكبُر محمّد الأمجد بثلاث سنوات كاملة، ومع ذلك كان سيدي النّا... يهينني. فيدعونا لنمثل معا بين يديه. ويقول لي "سيدك مجدة يا رأس اللحم يا سارق يا بهيم". نعم، هكذا كان يقول لي. كان يجبرني على أن أطلب منه السّماح وأن أقبّل قفا يده. وكنت أقبّل يد محمّد الأمجد. نعم، يا سيدي العون. كنت أمتثل اتقاء لعقاب سيدي النّا... ولكن، حتّى لا أكذب عليك، فقد كنت، ما إن نخرج إلى الشّارع، حتّى أقوده إلى خارج السّور وأهرّسه بطريحة نبّاش القبور. ولمّا كبرنا قليلا صار محمّد الأمجد "خبيزتي". فكنت أؤدّبه بذنب وبدون ذنب. وحين كان يعتدي عليّ طفل أكبر منّي، لا أستطيع منعه ممّا يفعله بي، وأخجل من أن أشتكيه إلى من ينتقم لي منه، لم أكن أجد أمامي فريسة أسهل من محمّد الأمجد بريقشة. كنت أختلق له أيّ سبب تافه "وأفشّخه تفشيخا" لأفشّ فيه غلّي. ولكنّني كنت، بعد ضربه دون موجب، أحضنه وأبكي معه، رأفة به وندما على فعلتي. وكان هو، في مثل هذه الحال لا يجرؤ على الوشاية بي إلاّ قليلا. ليس فقط لأنّه كان رقيق القلب، وهذه حقيقة لا أنكرها، ولكن لأنّه كان يعرف ما كان ينتظره منّي."
"باختصار، كان دائما هو الخاسر. وحتّى الآن، وكلانا دخل العقد الرّابع من عمره، انظر من الخاسر منّا ومن الرّابح في الحياة، يا سيّدي العون... إنّما هو الخاسر دائما. انظر أين هو الآن وأين أنا ؟ كيف أعيش أنا، وكيف يعيش هو ؟ ماذا أملك أنا، وماذا يملك هو؟ صحيح أنّ "البالانصي" والعمارة مسجّلان باسم زوجتي كارلا بيكولو. ولكن، باسمي أنا السّيّارة والمطعم العائم، وعندي توكيل مطلق النّفوذ على "البالانصي". أمّا هو، فقد قضّى عمره كاملا بين مدرسة ومعهد وجامعة، حتى نال الأستاذيّة. فانظر، ماذا فعل بهذه الأستاذيّة؟ لم تصلح له إلاّ ليصوّر منها نسخا يوزّعها على أرباب العمل من أمثالي بحثا عن شغل."
"أنا لا أدّعي عليه. اسأله وإن كان صادقا، فهو سيعترف لك بأنّه قضّى ستّ سنوات كاملة يجتاز امتحان "الكاباس" ويبحث عن شغل فلا يظفر بشيء. هذا كلّ ما غنمه محمّد الأمجد بريقشة من تعبه في "القراية"، يا سيدي العون."
أمّا أنا، فقد عشت حياتي... "اغنم زمانك لا يفوت" كما تقول الأغنية وكما لا يخفى عليك. عشتها بالطّول وبالعرض، أشرب أرفع أنواع الخمور وآكل في أفخر المطاعم وأسافر إلى أبعد البلدان، وأسكن في أرقى النّزل، وأعود في كلّ صائفة إلى البلد بسيّارة جديدة. وها أنا، بعد رجوعي النّهائيّ، أستقرّ بمسقط رأسي بصفتي صاحب أعمال وممتلكات."
.......
... وحيث روي عن عامر "البينتو" أنّه لم يصدّق خبر إيقاف المتّهم وأنّه، منذ بلغه الخبر، أطنب في إثارة الموضوع بمناسبة وبغير مناسبة، لمجرّد التعبير في كلّ مرّة عن شكّه في نوايا ابنة خالته التي أعلمت سكّان باب تونس بالعثور على أخيها حيّا... وحيث ساهم تصرّفه هذا في تغذية الشّكوك في أنّه هو من أطلق، لغاية في نفسه، شائعة غرق محمّد الأمجد بريقشة مع ضحايا مركب "الحارقين" في عرض سواحل الشّابّة... وحيث أنّه ثبت تصريح عامر "البينتو" بأنّه بقطع النّظر عمّا إذا كان محمّد الأمجد بريقشة حاول أن "يحرق" فغرق، أم أنّه لم يغرق بل اختفى فترة طويلة ليحاول "الحرقة" من جديد فقبض عليه، فذلك عنده دليل قاطع على أنّ ابن خالته لم يجد من حلّ لحياته في النهاية سوى "طريق الطّليان"، على حدّ قوله... وحيث أنّه لم يخف شماتته في ابن خالته ذات سكرة في مطعمه العائم بحضور مصادر موثوقة، نقلت لنا قوله حرفيّا ما يلي:
"طريق الطّليان طريقي أنا. سلكتها قبله، مع فارق بسيط، أنّني ذهبت إليهم معزّزا مكرّما وعدت من عندهم رجلا، في حين لم ينجح محمّد الأمجد بريقشة حتّى في تنفّس هواء شواطئهم... صحيح أنّ هناك من يدّعي على زوجتي كارلا بيكولو أنّها قحبة قديمة. ولكن، لنفترض أن هذا صحيح، فأي أهمّية لمثل هذه التّفاصيل ؟ لقد كنت منذ الأزل التهم النّساء التهاما كما تلتهم السّباغيتّي. ومازلت ألتهمهنّ، لا أترك قحبة ولا متزوّجة ولا عذراء... من لا تفتح فخذيها بالمال تفتحهما بالأكل والشرب هنا أو بقارورة عطر، وإذا كانت برعما طريّا فبوردة حمراء وتنهيدة "فالصو"، ليس أكثر. أمّا كارلا بيكولو فهي تعرف قدرها جيّدا فتفتح عينا وتغمض عينا، لعلمها بأنّ كلّ امرأة تجد شرفا في أن يركبها عامر "البينتو" وما أدراك."
... وحيث استفيد أيضا أنّه، في ليلة تأكّد الجميع من وجود محمّد الامجد بريقشة على قيد الحياة، بقي عامر "البينتو" وحده في مطعمه العائم بعد انصراف زبائنه. وأنّه قد يكون أمعن في الشّرب حتّى آخر الليل إلى أن تهيّأ له أنّه وحده في المارينا، وقد تكون بدرت منه، رغما عنه، أقوال نوردها كما نقلت لنا، لأهمّية ما قد تكشف عنه من جوانب ما تزال خفية في قضيّة المتّهم. ذلك أنّ "البينتو" قد يكون تخمّر فأخذ يصيح مخاطبا روح خاله الرّايس النّاصر بقوله :
"سيدك مجدة"، قال... والآن يا سيدي النّاصر يا جعيّد، هل لك عين على الدّنيا فتجيبني ؟ من منّا الآن سيّد من؟ لقد كنتَ ظالما يا سيدي النّا... كنت تكرهني بلا سبب، هكذا، لمجرّد ظنون. ولنفترض أنّ ما بلغك عنّي كان صحيحا. لقد كنت طفلا صغيرا. وكان الكبار لا يرحمون. ومن أرغم على الفعلة فهو كمن لم يفعلها... اذهب فقد سامحتك يا خالي. وحتّى أثبت لك أنّ قلبي أرقّ من قلبك، فها أنا أقرأ لك فاتحة من المارينا... لست أدري إن كان الله سيقبل دعاء سكّير مثلي، ولكن، الله يرحمك يا سيدي النّا..."
"الله يرحمك يا سيدي النّا...، يرحمك بفعلك طبعا. وفعلك، أنا أعرفه جيّدا. ولتهنأ في قبرك فلن أقول لأحد إنّك كنت منذ صغرك موعودا براضية بنت كحلة. ولن أقول لأحد إنّها قبلت الزّواج من النّاجي العجل لتعاقبك على تهاونك في جمع مهرها وفي إرضاء أبيها حتّى يقبل بك صهرا. ولن أقول إنّها ندمت، بعد ذلك، حيث لا ينفع النّدم، وإنّك عشت أعزب من أجلها حتّى قضى عليك السّرطان. وها أنت ترى أنّني لا أعير أي أهمّية للشّائعات التي تدّعي تسميمك."
"الله يرحمك يا سيدي النّا...، يرحمك بفعلك طبعا. فلا أحد معصوم من الزّلل. وفعلك سمعت عنه بإذنيّ في بيتنا، ذات خصومة بين أمّي وراضية بنت كحلة. يومها عيّرت أمّي راضية بزيارات إلى بيت خالتي خدّوجة وصفتها بالمخجلة. يعلم الجميع أنّ راضية بنت كحلة كانت صديقة لخالتي خدّوجة الرّوح بالرّوح. فما المخجل في تردّدها على بيت بريقشة، يا سيدي النّا... ؟ أم هل كان صحيحا ما ادّعته أختك قميرة يومها من أنّك تركت دار الجعيّد وانتقلت للعيش في دار بريقشة لتستثمر صداقات أختك لصالح عواطفك؟"
"الله يرحمك يا سيدي النّا... طبعا. ولكن هل صحيح أنّ هدف راضية امرأة العجل من التّردّد على بيت صديقتها، كان في الحقيقة أن تختلي بك في غرفتك ؟ ثمّ هل من الصّدفة أنّ راضية بنت كحلة لم تحبل إلاّ في سنة زواجها الثّالثة، أي بعد أشهر معدودة من انتقالك للعيش في دار بريقشة؟ وهل أنّ الصّدفة أيضا هي التي جعلت راضية امرأة العجل لا ترزق بمولود آخر بعد عيشوشة ؟"
"أنا لن أبوح بشيء من هذا طبعا. ولكن، من يضمن أنّ محمّد الأمجد لم يكن على علم ؟ ألم يكن كلّ شيء يـحدث في غرفته؟ هل كان بهلولا إلى حدّ أنّه لم يلاحظ شيئا؟ أم هل ترى يمكن أن يكون محمّد الأمجد قد استغلّ مناسبة مجيء عيشوشة إلى بيت بريقشة لتتابع دروسا خصوصيّة في العربية، ليختبر صحّة ذلك المثل الشّهير القائل "اقلب الطّنجرة على فمّها..." فما كاد يكتشف أنّ "البنيّة، فعلا، تطلع لأمّها" حتّى قاد تلميذته إلى حيث كنت تقود أمّها، إلى نفس تلك الغرفة التي شهدت عمليّة بذر كان حصاده في دار العجل؟"...
.......
...وحيث استفيد أنّ عامر "البينتو" يتردّد باستمرار على دار النّاجي العجل مصطحبا زوجته كارلا بيكولو. كما أن الناجي العجل يتردّد على بيت عامر البينتو مصطحبا زوجته راضية بنت كحلة حينا وبمفرده حينا آخر... وحيث ثبت تقديم النّاجي العجل طلبا لسحب القضيّة في إثبات النسب التي رفعها في حقّ حفيدته ميارى. وذلك مباشرة بعد القبض على محمد الأمجد بريقشة وبعد الخطاب الذي قد يكون هذا الأخير أرسله مع أخته رشيدة إلى عيشوشة بنت العجل... وحيث راجت في المدينة بعض الشّائعات حول علاقة مريبة قد تكون قائمة بين كارلا بيكولو وناجي العجل بمباركة من عامر "البينتو" نفسه... وحيث أثبتت التّحرّيات تواجد عامر "البينتو" وزوجته، في ثلاث مناسبات، في أحد النزل، بالتّزامن مع إقامة النّاجي العجل بمفرده في نفس النّزل... وحيث بدأت تروج شائعات أخرى تتحدّث عن صفقة قد يعترف عامر "البينتو" بمقتضاها بأبوّته للطفلة ميارى قبل أن يطلّق كارلا بيكولو ويتزوّج عيشوشة، ولو تطلّب الأمر أن يغصب النّاجي العجل ابنته على قبول هذا الزّواج الصّفقة... وحيث صارحنا عامر "البينتو في نهاية هذه التّحرّيات الأوّليّة بأنّ الشّكوك تحوم حوله منذ تمّ القبض على المتّهم... وحيث طلبنا منه أن يبقى على ذمّة التحقيق لنطرح عليه أسئلة محدّدة عن زورق مطّاطيّ قد يكون نقص من تجهيزات مركبه، وعمّا إذا لم يكن قد تستّر في تصريحاته الحالية عن علاقة ذات طابع مهنيّ غير شرعيّ تجمعه بابن خالته المتّهم محمّد الأمجد بريقشة، وكذلك لأخذ أقواله في خصوص ما يروج عنه من شائعات في المدينة. فأصرّ "البينتو" على مواصلة التحدّث إلينا، ليضيف قوله بالحرف الواحد:
أودّ أن أحذّرك من ثرثرة باب تونس وتأثيراتها المظلّلة، يا سيدي العون. لو فتحت أذنيك لكلّ ما يقال هناك فإنّك ستتعب كثيرا. أنا شخصيّا على استعداد لاستقبالكم متى شئتم ولتلبية أي دعوة توجهونها إليّ للتحقيق معي في أيّ مكان. وسأجيبكم على كلّ أسئلتكم بمنتهى الصّراحة. ولكنّكم ستكتشفون شيئا واحدا، وهو أنّ ضميري في غاية الرّاحة.
أمّا عن ردّ فعلي على لغو الأزقّة، فأصارحكم من الآن بأنّني لا أتفرّج كثيرا في المسلسلات المكسيكية ولا حتّى التّركية. ولا أظنّ الفرجة في مثل هذه المسلسلات وتصديق كلّ ما يقال فيها من شأنه إفادة تحقيق جدّي كالذي تجرونه هنا.


أريد أن أضيف فقط، قبل أن أودّعك، أنّ التقارب بين العائلات الصديقة والتّزاور فيما بينها لا يعني بالضرورة تبادل الزّوجات في الفراش. وأنّ عقد الصّفقات التّجارية في المدينة وخارجها والمبيت في نفس النّزل، ليست أعمالا يمنعها القانون. وحتّى أريحك من الآن بشأن قضية لم تثرها ولا أعلنت نيّتك في طرح السّؤال عنها في المرّة القادمة، فاعلم أنّ فكرة إمضائي اعترافا بأبوّتي لميارى بنت عيشوشة، فكرة اقترحتها كارلا بيكولو على راضية بنت كحلة، منذ كانت عيشوشة حاملا. كان المقترح يتطلّب طلاقي ثمّ زواجي من عيشوشة صوريّا من أجل الاعتراف بوليدها. وبعدها أطلّق عيشوشة لأعود إلى زوجتي. وكلّ ذلك حتّى يكون لميارى لقب عائلي دون أيّ لجوء إلى رفع قضايا. ولكنّ عيشوشة هي التي رفضت الفكرة من أساسها...

الهكواتي .../... يتبع

تعليقات

‏قال من بلد القيظ
أطّلعت على مدوّنتك وسعدت بزيارتك لدوز،
أستاذ جمعت الفنّ والعمل الصّحفي والرّواية في مدوّنتك ،شكرا لــــــــك

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

القصة والتراث

تكريم الهكواتي

أنا أيضا ... حوماني