تعيش وترحّم

سنتي على جناح السّرد – النّص 15 من 53 – 16 ماي 2008


تعيش وترحّم


في الحومة مأتم هذا الصّباح. هذا "غفّاص" آخر يقصد الرّحمان. أذكروا موتاكم بخير يا أحياء. الله يرحمه ويغفر له عناده.
راهنتهم، منذ أن كنّا سبعةً متقاعدين. كنّا ننبض حياة، وكنّا نصلّي معا، ونلعب الورق معا، ونطوف معا في المدينة بأزقّتها العربي وأحيائها الجديدة التي ما تزال تنبت كالفقاقيع خارج السّور. كنّا معا نعزّي المتبقّين معنا، ونأكل الكسكسيّ واللحم مساهمة في التّرحّم على الأموات ونعود إلى الرّبط لننتظر أدوارنا.

راهنتهم على أن أكون أنا آخرَ مغادر وأن آكل رؤوسهم فردا فردا، وأن أقتات من كسكسيّ مآتمهم، وأن لا ألتحق بالجبّانة إلاّ وستّتهم فيها راقدون.
أربعة خسروا الرّهان بعد والخامس لحق بهم. ولم يبق لي من كلّ أفراد العصابة إلاّ رفيق واحد. ولكن من يكون المسافر اليوم ؟ النّاجي الفاني أم عثمان الشّرش ؟ ومن منّا سيربح الرّهان ويضحك على ذقون الجميع في النّهاية ؟
قد يسأل البعض كيف عرفت، وغرفتي ما تزال مغلقة تسبح في الظلمة، ولم يدخل عليّ أحد ليعلمني. وقد يجيب آخرون إنّ الأمر بسيط فرائحة كسكسيِّ المأتم بدأت بعدُ تفوح في الزّقاق، و لو كان كسكسيَّ فرح لكانت كلّ الحومة تعلم بالحدث منذ أسابيع. وحده الموت ينزل فجأة على أحدهم فلا تتفطّن إلى وقوع الواقعة إلاّ حين يبلغ سمعَك عويل أو تدغدغ خياشيمَك رائحةُ طبخ كسكسيِّ المأتم بنكهة توابله المميّرة.
تقاليد المآتم في كلّ البلاد تقوم على أن لا يُطبخ في دار الميّت أيّ طعام قبل يوم الفرق*، إلاّ هذه المدينة المتنطّعة، فتقضي تقاليدُها بأن تنشغل عائلةُ الميّت انشغالا كلّيّا بطبخ كسكسيِّ المأتم وإعداد مآدب لعشاء كلّ من يأتي معزّيا أو مواسيا طيلة ثلاثة أيّام متتالية انطلاقا من يوم الدّفن، في حين يتولّى الجيران والأقارب السّهر على تنفيذ تفاصيل الغسل والكفن وإعداد موكب تشييع جثمان الفقيد إلى مثواه الأخير.
قد يقال إنّ رائحة الكسكسيّ ساعدتني هكذا بالفعل على اكتشاف ما حدث. ولكن صدّقوا أو لا تصدّقوا، أنا رجل مرهف الإحساس جدّا بحضور الموت. فبمجرد أن يـحوم حول الحومة، ينقبض قلبي وأصبح كالعاجز عن التّنفّس. بل أصل أحيانا، حين يكون الفقيد عزيزا عليّ، إلى حدّ الشعور بتخثّر الدّم في عروقي وبالبرد الشّديد يسري في يديّ فيجمّد أصابعي ولو كان الفصل صيفا. وهذا تماما ما أشعر به هذا الصّباح. لذلك فلا جدال في أنّ في الحومة مأتما وفي أنّ الميّت من أحبّ الشّيوخ إليّ إن لم يكن هو أغلاهم عندي.

*****

نهاياتنا بيد الله طبعا. وقد يكون الميّت شابّا ممّن لا يخطر على البال مجرّدُ تصوّر وفاتهم ولو من باب الافتراض. ولكنّ علامتين تؤكدان أنّ الميّت ليس سوى النّاجي الفاني.
أولاهما أنّ النّاجي لم يعد مسموحا بمجرّد إخراجه من بيته. لذلك إنما دعاني بعظمة لسانه إلى زيارة وداع "على موت على حياة". وحين أخذتني ابنتي إليه منذ أسبوع، على كرسيّي النّقال، وتركتنا وحدنا في غرفته كما طلبنا منها، قال لي:
- "أظنّك، يا بن الكلب، ستأكل رأسي أنا أيضا "
فأجبته ضاحكا على ذقنه:
- "لا تخف يا ابن الحلّوف، فسأفعل بإذن الله. وموعدنا وراء سيدي المازري لأواريك التّراب بيديّ هاتين".

وانهمرت الدّموع من مآقينا كالمطر، وضحكنا. ضحكنا كما لم نضحك من قبل. وسعل حتّى كاد يقضي اختناقا.
أما ثاني العلامتين فهي أنّني واثق من أنّ منتصف النّهار قد فات الآن، في حين أنّ ابنتي لم تدخل لتقدّم لي أكلا كالعادة. أن تكون مشغولة بمساعدة امرأة الفاني في طبخ كسكسي المأتم، فهذا من تحصيل الحاصل. ولكنّ ذلك ما كان ليشغلها عن إطعامي. فهو إذًا سهو متعمّد. ذلك أنها تعرف مكانة النّاجي الفاني عندي، وتخشى عليّ من أن يؤثّر فيّ خبر وفاته. وكلّ خوفها من أن أتمسّك بطلب مرافقة جثمانه فيحدث لي مكروه في الطريق أو ربّما أقضي في الجبّانة فتكون فضيحة القرن.
ولكن مهما كانت التّعلّة، فسوف لن أغفر لها أبدا إن لم تسمح لي على الأقلّ برؤية المرحوم وطبع قبلة السّماح على جبينه قبل أن يأخذوا منّا جثمانه.

*****

لا أريد أن أغضب من ابنتي خوف أن أدعو عليها أو أحرمها من رضائي وهي الوحيدة المضحّية بكلّ شيء لتسهر على راحتي، وتعتني بي في مرضتي الأخيرة - اللهم ربّي احفظها واغفر لي ما قد يصدر عن عصبيّتي. فهي التي وجدتها سندا وحيدا في هذه الأيّام الحالكة من حياتي - ولكن، أظنّ أنّها، من خوفها عليّ، قرّرت بعدُ حرماني من توديع رفيق صباي، وفضّلت تركي للجوع الذي لم أعد أشعر به بالمرّة، على ما قد يكون لعلمي بموته من تأثير عليّ.
ولكن لا... لن تمرّ الأمور بهذه البساطة. هي لا تعرف ما يمكن أن يتحقّق لي من معجزات حين أصرّ على إنجاز شيء. وها أنا أغمض عينيّ وأتضرّع إلى الله بكلّ قواي أن يحقّق أمنيتي بتشييع رفيقي إلى مثواه الأخير. ولا أظنّ إلاّ أنّ الله بدأ يستجيب لي. فها أنا أرتفع فوق الجميع فأرى النّاجي مسجّى في نعشه. ها أنا أنـحني عليه لتقبيله قبلة السّماح. ومن الغريب أنّني أحسّ بجبيني الساخن يلامس شفتيه الباردتين كالثّلج، ويبدو لي أنّني أرى النّعش ممدّدا في شاحنة البلديّة وأنني جالس بين من المقرئين من حوله. بل أنّني بدأت أبتعد من الحومة مع حشد المشيّعين.
صدّقوني فقد أضحت رائحة كسكسي المأتم تبتعد عنّي حتى تنتهي تماما وأصبحت أشمّّ محلّها رائحة خبز "الدّفينة" كما لو أنّ إلى جانبي حسين ولد جارتي يحمل خبزه الصّغير المدوّر في الكيس الذي تعوّد على حمله في كلّ جنازة ليوزع منه على الفقراء كما على الأغنياء طبقا لما تقتضيه العادة.
ها أنا إذًا مع الماشين في الموكب وهو يخرج من الرّبطّ فيلتفّ حول سور المدينة، ويصل إلى المقبرة فيتركها على يساره متوجّها إلى جامع بورقيبة. وها نـحن في فناء الجامع الفسيح نلتقي بالمصلّين الخارجين من بيت الصّلاة للتّجمّع وقوفا في صفوف مستقيمة وراء النّعش وإقامة صلاة الجنازة في خشوع.


ثمّ ها أنّني، وقد عاد الموكب إلى المقبرة، أترك الحشد الكبير ورائي عند قبّة العزاء وأصاحب مجموعة قليلة العدد من الرّجال، يحملون النّعش على أكتافهم. ها هم يلتفّون به حول مقام سيدي المازري ويسيرون ختاما نـحو هذه الحفرة المحفورة سلفا.
ولكن ما الذي يجري ؟ لكأنّ المجموعة تهرول نـحو الحفرة. أظنّني عدمت الشّجاعة لحضور بقية طقوس الدّفن. إنّي لم أعد أميّز شيئا من شيء. فقط أحسّ بأنّ كلّ هؤلاء النّاس يبعثرونني وهم يسارعون بأخذ الجثّة من النّعش لوضعها بقاع الحفرة.
إنّي أحسّ بصدري ينقبض فجأة أكثر ممّا انقبض هذا الصّباح. والأدهى أنّني أشعر بالعجز عن التّنفّس أكثر ممّا شعرت به هذا الصّباح وبتجمّد الدّم في عروقي أكثر ممّا تجمّد هذا الصّباح. وها هو البرد الشّديد يسري في يديّ ختاما فيجمّدني تماما.

*****

هل كانت ابنتي على حقّ حين خافت عليّ من وقع خبر موت صديقي ؟ لماذا قطعتُ فجأة مشاركتي في تشييع الجنازة في خيالي، وعدت مرتجفا إلى غرفتي ؟ ألهذه الدّرجة هالني الموت ؟ ولماذا أضحت الظّلمة في غرفتي أحلك من العادة رغم أنّ الوقت مازال نهارا ؟
لا أظنّ كلّ هذا ناتجا عن جبن بلغ حدّه. بل لعلّني أنا، عثمان الشّرش، أكون في النّهاية ذلك الغفّاص الذي قصد الرّحمان هذا الصّباح، ولعلّني أنا من خسرت الرّهان الأخير. ولعلّ هذه الظّلمة أن لا تكون ظلمة غرفتي ولكن ظلمة القبر.


أكيد أنّني سأكتشف بعد حين مقامي الجديد وأعثر على بقية أفراد العصابة الذين سبقوني. ولكن، أين سأخفي وجهي من النّاجي الفاني الذي نجا إلى حين من الموت ؟ سيلتحق بنا قريبا هنا. فماذا أقول له، وقد وعدته، ثمّ ها أنّني أخلف وعدي لأوّل مرّة، فأتركه في الفانية ليموت بعدي من الوحدة ؟

الهكواتي – أريانة الجديدة/المنستير


*الفرق : يوم انتهاء الحداد وهو اليوم الثالث بعد الدّفن.

تعليقات

‏قال غير معرف…
هذا النص أكثر من رائع لأنه يستثمر مكونات الفضاء الثقافي(الانثروبولوجي)في تكوين البنية الحكائية،والمفارقة أن الخط السردي ينطلق من الباطن ويصور نفسية الشخصية
فكّر معي قليلا
لو كنت مكانك لاستغنيت تماما عن الفقرة الأخيرة لأنك أوحيت بها عند وصف عملية الارتفاع وضبابية مشاركة السارد في الجنازة .إذن من الممكن أن يقف النص بشكل مفاجئ عند تجمد اليدين
عامر بوعزة
‏قال HIZEMED
لست أدري لماذا أخذتني قراءة هذه اللوحة إلى أصداء المدينة وإلى مجلس يعقد هناك تسمع فيه مثل تلك الرهانات ويسّاقط الواحد منهم تلو الآخر ولا مفر.. لا مفرّ .
أن تواجه الموت بالموت أن تكتب الموت كأنك تراه -ولكنك لا تراه- تلك لعمري شجاعة الأحياء
أجمل ما في هذه الحكاية تطابق الشفة مع الجبين مغ اختلاف معكوس في درجات الحرارة أرى أن هذه هي بؤرة الحكاية لكنك فضلت أخذ يد قارئك إلى مقبرة نصّه. تحية وسلام

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

القصة والتراث

تكريم الهكواتي

أنا أيضا ... حوماني