صفقة عمري

سنتي على جناح السّرد – النّص 17 من 53 – 30 ماي 2008

صفقة عمري

حمار ابن حمار هذا الذي في يده مقود "البي آم"* البيضاء. حمار يلبس ثيابا، وإلاّ لما كان خاف إلى هذا الحدّ من أن يقطع كلب عليه الطّريق، فكاد يتسبّب في حادث فظيع، إن لم يكن قد تسبّب فيه فعلا. فأنا لم يكن لديّ الوقت للالتفات ورائي ومعرفة ما جرى بعد عبوري بسلام.

كانت سرعة سيرنا لا تقلّ عن المائة كيلومتر في السّاعة وكنت وراءه، على مسافة أمتار قصيرة، منهمكا في مناورة ملّيمترية أعبر بها بينه وبين شاحنة "أو سو زو" كانت على يساري تحاول بدورها مجاوزته. وإذا به يفرمل بشكل مفاجئ فيكاد يجبرني على النسج على منواله والاصطدام بالسّيارة التي كانت تتبعني بنفس السرعة محاولة العبور بدورها من الفتحة التي كنت أحدثها بين هاتين السيارتين.
من حسن حظّي أنّني رجل يتحكّم جيّدا في السّيارة ولا يتردّد أبدا في استعمال دوّاسة البنزين حيث يستعمل آخرون دوّاسة المكبح. هكذا فقط نجحت في الإفلات من وضعية حرجة كهذه. وإلاّ لكان اصطداما يجرف عشر سيّارات على الأقلّ. نعم، وحدها السّرعة أنقذتني من أن أعجن داخل سيّارتي.
*****
ولكن ركوبي كلّ هذا الخطر ما أجداني نفعا :
- هيه، هيه يا ناس، أنا مستعجل... لا مناص لي من الوصول قبل منتصف النّهار إلى إدارة إيداع عروض الخدمات، وإلاّ لذهب تعبُنا كلُّه أدراج الرّياح.
ما هذا الحظّ النّكد ؟ لم أكد أعبر ذاك المضيق مخلّفا ورائي كلّ خطر حتّى توقفت حركة السّير تماما على الطّريق السّريعة بين المرسى وتونس العاصمة. وهذه عشرات السّيّارات، بل ربّما المئات منها يلتصق بعضها ببعض فتشكّل سدّا يحول بيني وبين مقصدي. لو لم أكن واثقا من أنّ هناك ضوءا أحمر لقلت إنّ أصحاب هذه السّيّارات متآمرون ضدّي يساعدون من يريد أن يقطع عليّ طريق الفوز بصفقة العمر.
صفقة العمر نعم. قامرت فيها بكلّ ما في حوزتي، وكان يكفي أن أفوز بها لأضمن لزوجتي ولي عيشا في جنّة النّعيم بقية العمر، ولابني الوحيد دخول عالم المقاولات من أكبر أبوابه. ما يخلّد اسم عائلتي في عالم الأعمال إلى أبد الآبدين. ولكن ما الذي يجري ؟ ولماذا يطول انتظار الضوء الأخضر كلّ هذا الوقت ؟ لو تواصل الانتظار بهذا الشكل لوصلت إلى إدارة إيداع العروض بعد الأجل المحدّد.
لا بدّ أنّ أعوان الشّرطة بصدد تنظيم حركة المرور. هم دائما هكذا إذا وضعوا أيديهم في حركة سير طبيعيّة عطّلوها. إنّهم يعطون الإذن بالمرور ثمّ ينهمكون في الحديث فيما بينهم فلا هم يتفطّنون إلى الأضواء إذ تتغير ألوانها ولا هم يقسّمون وقت المرور بين السيّارات بالعدل.
لا مناص في مثل هذه الحال من شنّ هجوم منظّم بالمنبّهات للفت انتباههم. وهذا ما كان بالضّبط. بادرت بالتّزمير، فكان طبيعيّا أن يقتفي أثري المزمّرون. وهكذا علت في الجوّ سمفونيّة تصمّ الآذان انفتح بفضلها الطريق أخيرا.
*****

حركة السير الآن طبيعيّة وأنا أسرع على راحتي ومازال أمامي بعض الوقت. مع شيء من الحظ سأصل في الوقت المناسب. بل يمكن حتّى أن أصل قبل الموعد المحدّد إن لم تعقني أضواء أخرى.
لو كان الأمر بيد ابني لوصل الملف في السّاعات الأولى من النّهار. فابني لم ينصرف للنوم قبل إتمام العمل المطلوب منه، أي في آخر هزيع من الليل. وكلّ فريق العمل المشارك في إعداد العرض سهر معه حتّى يتركوا لي ملفّا جاهزا. ولكنّني أنا من أخّرت إعداد الملفّ النّهائيّ إلى هذه السّاعة.
كان لا بدّ من تدخّلي. وهذا سرّ من أسرار المهنة لا أطلع عليه حتّى ابني ذاته. هو وفريقه تركوا لي، كما أمرت، تعمير بعض الخانات في الجدول المتعلّق بالموازنة المالية للعرض المقترح. ولكنّني وصلت إلى مكاتب المؤسّسة حالما خرجوا منها. وشرعت عندها في العمل الفعليّ. فقد كنت في الحقيقة مستعدّا لتعويض جداول الموازنة بالكامل على ضوء ما غنمته من أخبار المنافسين. وهذا ما أخّرني إلى هذه السّاعة. تلك وصفتي السّريّة التي كنت أعتزم شرحها لابني بعد أن يفوز عرضنا بالصّفقة.
خرجت من الطّريق السّريعة في وقت قياسي. بحوزتي الآن ملفٌّ مكتملٌ سأنبثق به في آخر لحظة فأسدّد به ضربة قاضية لكلّ المشاركين في المناقصة. ولكن ها أنّ ازدحام السّيّارات يتكرّر بأكثر كثافة من الازدحام السّابق. سأخسر الرّهان تماما لو بقيت هكذا أنتظر أن يمرّ كلّ هذا الحشد قبلي بمعدّل سيّارة واحدة في الدّقيقة.

كلّ شيء قرأت حسابه في هذه العمليّة إلاّ أن يتكرّر الزّحام بهذا الشّكل فيحول دوني والوصول في الوقت المناسب. لا مناص إذًا من إيجاد حلّ. وكلّ الوسائل مشروعة. المهمّ هو الوصول إلى الهدف في الوقت المناسب. ولم يعد من حلّ أمامي سوى "السّيستام د."*، أي سلوك حاشية الطّريق الترابية على يمين المعبّد، ما يمكّنني من تجاوز الجميع.
كانت بيني وبين تراب الحاشية العاري سيّارتان. ضحكة لهذا الشيخ وتعسّف على هذه المرأة المغرورة، فإذا أنا في طريق مفتوح أقطع مئات الأمتار منفردا. الإشكال الآن يتمثّل في العودة إلى المعبّد. ولكن ما للنساء أصبحن جميعا عنيدات هكذا ؟
- "لحظة من فضلك يا سيّدتي ... لماذا أنت شمطاء هكذا ؟ طيّب ... طيّب اعبري سريعا أيتها العجوز المريضة ... وأنتم ما لكم تزمّرون هكذا ؟ ألا تفهمون أن يكون إنسان مستعجلا ؟ هل انقطعت الرّحمة في هذا البلد أم ماذا ؟
*****
أخيرا وصلت إلى نقطة اختناق السير. كنت واثقا من أن في الأمر حادثا. هناك سيّارة مقلوبة على ما يبدو. لم أكن لأرى غير الشرطي وهو يأمر أصحاب السيارات بالابتعاد سريعا. ها أنا أحاول الامتثال بكلّ انضباط لأوامر العون بينما بقية السّواق يريدون الاطلاع فيعرقلون حركة السّير.
- "ما لكم لا تمتثلون لأوامر الشرطة ؟ غريب أمر هذا الشعب... لقد صدق من قال فينا إنّنا ما نزال بعيدين عن السّلوك الحضاري.
زمّرت لهم وانـحشرت بينهم ومررت أخيرا تاركا الرّجل الذي توقّف ليخاصمني ينبح وحده كالكلب. بل يبدو أنّ خلافه الآن أصبح مع الشرطي الذي جاء يطلب أوراقه ليحرر له محضر مخالفة : عدم الامتثال لإشارات عون المرور والتّسبّب في تعطيل حركة السّير في الطريق العام.
- هكذا ينبغي أن تكون شرطتنا الوطنية، حازمة في ردع أمثال هذا القرد...
*****
السّاعة الآن منتصف النّهار إلاّ عشر دقائق. السّرعة محدّدة هنا ولكنّ الطّريق كانت سالكة وأنا كنت مضطرّا لأبيح لنفسي هذا التّجاوز البسيط. أنا الآن على بعد بعض مئات الأمتار من الإدارة. فقط يجب أن ألحق المفترق قبل اشتعال الضوء الأحمر.
- بر تقالي... أنا رأيته برتقاليّا.
- بل كان أحمر. أرجوك، هات أوراقك من فضلك.
- آسف يا سيدي الشرطي ولكنني والله رأيته برتقاليّا. وأنا للحقيقة مستعجل والإدارة أمامك هناك و...
لم أجد مع الشرطيّ أيّ حلّ غير مدّه ببطاقة التّعريف ورخصة السّياقة بل وبكامل أوراق السيّارة. حتّى السّيّارة نفسها تركتها مفتوحة أمامه ومحرّكها يشتغل. وانطلقت أجري آخذا معي ملفّ المناقصة. والشّرطيّ ينظر إليّ باستغراب حتّى وصلت أخيرا إلى مقرّ الإدارة.
- أووف ... منتصف النّهار إلاّ دقيقتين. مازال عندي الوقت لإيداع ملفّي.
قبل أن أضع رجلي على الدّرجة الأولى من السّلّم المؤدّي إلى مدخل الإدارة، رنّ هاتفي الجوّال. إنّه رقم ابني. فتحت الخطّ وتوقّفت لأطمئنه على وصولي في الوقت المناسب. ولكنّ صوتا آخر بادرني بالخطاب :
- هل تعرف هذا الرّقم ؟
- - بالطبع أعرفه.
- هل أنت أب صاحب هذا الخطّ ؟
- نعم. من أنت وما الذي جرى لابني ؟

- معك شرطة المرور. تجلّد يا سيّدي وكن قويّا. حادث اصطدام عشر سيّارات على الطريق السّريعة بين المرسى وتونس العاصمة. عديد الجرحى... والقتلى. أنت مطلوب حالاّ للتّعرّف على ابنك.

الهكواتي - تونس

تعليقات

‏قال غير معرف…
مرة أخرى أجد نفسي أمام نص ممتاز وسرّ ذلك في اعتقادي أنه من حيث الشكل جدّ منظبط لمواصفات القصة القصيرة التقليدية ودون محاولة ما يسمى التخريب/التجريب ، ومن حيث المضمون وفقت في هذه المراوحة بين الداخل والخارج التي أصبحت سمة غالبة على كتاباتك السردية
في ظل هذا الانظباط الصارم لمؤسسة القصة القصيرة جاءت الخاتمة بشكل غير متوقع بتاتا لتكون في الحقيقة بداية أخرى للنص في حيّز التأويل
أفسر أكثر : لقد نجحت في هذا النص في الإيقاع بالقارئ والفتك بانتظاره فالقصة تجعل القارئ يفكر في تلك الجمل التي تضمنت سخرية طفيفة وتلميحا ذكيا إلى البيروقراطية ولكن في النهاية نكتشف أن المعنى أعمق من مجرد ملامسة الواقع بشكل نقدي وإنما هو تعبير فني جيّد عن هذا التعايش المأسوي بين الحياة والموت..

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

القصة والتراث

تكريم الهكواتي

أنا أيضا ... حوماني