إلى اللقاء القريب...

سنتي على جناح السّرد – النّص 13 من 53 – 02 ماي 2008

إلى اللقاء القريب...

"تعبت من انتظارها"، قال. ثمّ سكت.
أخيرا تكلّم... انشرح وجهه فبدا لي مطمئنّا وعلى جمال أكيد. ما شجعني على قضاء ردح من الليل أسامره وأحثّه على القول فيحدّثني حديثها، بين صمت طويل وصمت أطول. وهذا تقريبا، ملخّصُ ما قال لي عنها:
*****
كانت لجدّي - قال - "سانية" صغيرة، كنّا نسمّيها "سانية المَصْيَدْ". كانت بعيدة عن المدينة العتيقة، تمتدّ في الشّاطئ الصّخري ذراعا لا يكاد ينبت زرعا إلاّ مدخلُه، حيث كانت تنتصب توتتان وخرّوبة فارعة الطول وشجرتا تين. وكانت أغصان كلّ هذه الأشجار التي لا يعرف لها سنّ، تتشابك على مساحة ضيّقة فتشكّل حاجزا آخر بعد طابيتي الهندي* والصّبّار، يمنع أعتى الرّجال الأغراب من التّفكير في مجرّد عبور السّانية إلى الشّاطئ.
وكانت ما تزال هناك برّاكة عزيزي* الشّهيرة، وهي عبارة عن مغارة علي بابا فيها شباك و"قارور"* وأدوات صيد مختلفة ومواعين أخرى. وعلى رشم الماء زورقه الصّغير المهمل منذ موته قبل قرابة الأربع سنين أو أكثر. فخالي كان قد هجر الفلاحة والبحر ليشتغل بالبناء. أمّا أنا فقد كنت فشلت في عشقتي الأولى فشلا ذريعا، كرهت معه الحياة. فانعزلت "بسانية المصيد" عازما على الانتحار غرقا.


كان الوقت غروبا. وكنت جالسا على صخرة متطرّفة من الرّأس، أشرف منها على ساحل السّواني* بخليجيه. كنت أدير ظهري إلى برّاكة عزيزي، أتظاهر بمراقبة انطفاء قرص الشّمس في الماء المالح، وأرقب في سرّي حركة الصّيادين لأتأكّد من أوبة جميع مراكبهم ومن انصرافهم إلى بيوتهم قبل أن أندفع نحو قدري وأنفّذ مشروعي وأنا واثق من أنّ أحدا لا يقدر عندها على نجدتي.
وإذا بي أسمع ورائي بابَ البرّاكةِ يُغْلق، وخطواتٍ تقترب منّي وهي تُكَرْكِرُ شَلاَكَةً*. لم ألتفت لاستجلاء الخبر ولم أكد أصدّق ما أسمع. فإذا امرأة تتجاوزني حاملة بيدها قِرْبِشًا* قصبيّا تنزل به الجبل ولا تعير وجودي أدنى اهتمام. وكأنّني أنا الغريب في سانية جدّي وهي صاحبة المكان.
كنت قد فقدت كلّ رغبة في الإبقاء على أيّ علاقة مع ما يدور حولي. لذلك تجاهلت العابرة كما تجاهلتني. ولكنّني لا أنكر أنّها أثارت فيّ بعضَ فضولٍ لأرى ما هي فاعلة بالقربش.
ما إن وصلت إلى الماء حتّى دخلت فيه إلى أن بلغ ركبتيها فحصرت القربش بين رجليها ثمّ رفعت رأسها لترنو إلى غروب الشّمس عوضا عنّي. فقد أضحت عيناي مركّزتين عليها وعلى ذاك القربش الذي كانت لي معه حكايا تعود إلى عهد صباي الغضّ.
فلطالما ملأه لي جدّي في فصل الصّيف تينا أو توتا. ولطالما وقفت صحبة خالي على حافّة الطّريق المعبّد ننتظر توقّف أصحاب السّيارات يشترون منّا ما يحويه. فكان جدّي يرجع لنا نصف المحصول مصروفا نتقاسمه بالتّساوي.


قبل أن تغرق الشّمس تماما في أمواج من الذّهب المتفحّم، كانت المرأة واقفة أمامي تمدّ إليّ يدها بقربشي ولا تنطق بحرف. كنت قد عدت إلى تأمّل منظر الغروب بمجرّد أن رأيتها تعود أدراجها مولية ظهرها إلى البحر. فتظاهرت بتجاهلها تماما مسترقا النّظر إليها بمزيد من الفضول حتّى رسخت في حافظتي صورة عنها، ولكنّني لم أحرّك ساكنا.
كانت امرأة متوسّطة القامة متوسّطة الأنوثة، لا عمر لها ولا يبدو على وجهها تعبير عن أيّ شيء لافت. لا أدري لماذا ارتسمت على شفتيها ابتسامة مشحونة بمعاني السّخرية والتّحدّي والحنان في آن معا. ولكنها انـحنت محافظة على كامل هدوئها، لتضع القربش قرب الصّخرة التي كنت أجلس عليها. وانصرفت تمشي بـخطى حازمة، لا تتوقّف ولا تلتفت إليّ. فتركتُ الأفق يلتهم الشّفق والتفتّ أتابعها بالنظر. كانت رجلاها الصّغيرتان تائهتين في شلاكة بلاستيك زرقاء أعرفها جيّدا، إذ كانت لجدّي ينزل بها إلى البحر. ودون أن تتوقّف، رمت من رجليها الشّلاكة أمام البرّاكة ثمّ غابت في الظّلام بين أغصان الأشجار وطابية الهندي.
التفتّ إلى القربش فإذا فيه سمكة قاروص فالحة لا يقلّ وزنها عن ثلاثة أرطال، مازالت تنتفض في محاولة يائسة للعودة إلى الحياة. لم أر بعينيّ ولا سمعت أبدا عن غير هذه المرأة اصطاد مثل هذه القطعة المعتبرة بمجرّد وضع قربش بين رجليه في ماء لا يكاد يصل إلى ركبتيه. لذلك زاد تعجّبي وتضاعف فضولي. فدخلني الشّك في سرّ ما قد يكون وراء كلّ ما يجري. وصار لي ما يشبه اليقين أنّ أحدا ما قد يكون كشف تفاصيل ما خطّطت له وأنّه بصدد مراقبتي من حيث لا أدري. فعزمت على الإيهام بأنّني ما جئت "لسانية المصيد" إلاّ للاختلاء بنفسي قليلا.

*****

نزلت من صخرتي وأخذت القربش معي إلى البرّاكة وفي ظنّي أن أوهم من يراقبني بأنّني أعدّ عشائي. وفعلا، فقد كان في البرّاكة مواعين للطّبخ والأكل. ذلك أنّ خالي دأب ، منذ انقطع أبوه عن المجيء للصّيد، على إقامة سهرات خمرية في السّانية بين الفينة والأخرى، يدعو إليها بعض أصحابه. حتّى أنّني شاركته بعضها، حيث لم يكن فارق السّن بينه وبيني يتجاوز سنة وبضع أشهر.
غبت عن السّانية ربع ساعة لشراء بعض الحاجات من أقرب دكّان. ثم أوقدت فنارا بتروليّا وأعددت على بابور القاز* سمكا مقليّا مع شكشوكة حارّة. وكنت أثناء الطّبخ لا أنفكّ عن الجيئة والذّهاب بين البرّاكة والصّخرة، سعيا إلى كشف ما قد يدور من حركة مراقبة.
تهيّأ لي أنّ المرأة عائدة لا محالة، فقسمت عشائي على صحنين ونضّدت مائدة كما اتّفق وأخذت أنتظر أن أراها تطلّ برأسها بين الحين والآخر. ولكنّها أبطأت في المجيء، فوجدتني أشرع في الأكل قبل أن يبرد السّمك. فإذا للطّعام نكهة آخر وجبة، وإذا أنا أوطّن نفسي على التلذّذ به.
شبعت من الأكل ولم تأت. ولمّا تعبت من المشي والمراقبة ويئست من مجيئها، افترشت حصيرا وتمدّدت، متوسّدا ذراعي مستسلما لموسيقى الأمواج والصّراصير تهدهدني حتّى غلبني النّعاس.
لا أتذكّر أنّني غطّيت ما تبقّى من الأكل، ولا حتّى أنّني وجدت في البرّاكة منديلا يمكن استعماله لهذا الغرض. ولكن، حين غمرتني أشعّة الشّمس وأجبرتني على فتح عينيّ، وجدت كلّ المائدة مغطّاة بمنديل مطرّز تطريزا يدويّا جميلا بخيوط من كلّ الألوان. سحبت المنديل فإذا الصّحن الذي تركته للمرأة قد خلا من السّمك. كلّ القطع استهلكت، حتّى قطعة الرّأس التي تركتها لها مجاملة أُكلت بعناية ومُصمصت بدراية بنت بحر، فنّانة رفيعة الذّوق. أعدت الغطاء على المائدة وأخذت أتأمّله. فإذا الزينة على المنديل خطاب بخطّ مطرّز، وإذا الخطاب موجّه لي، وإذا أنا أقرء فيه هذا الوعد : "إلى لقاء قريب، حياة".

*****

هكذا عرفت اسمها. ولكن، كيف تمكّنت من دخول السّانية ليلا مخترقة الطّابية والأغصان، ثمّ أكلت بجانبي ومصمصت أشواك السّمكة ورأسها وانصرفت كما جاءت دون إيقاظي وأنا الذي كنت خفيف النّوم دائما ؟
زاد عجبي أضعافا مضاعفة واستبدّ بي الفضول وقدّرت أنّ في الأمر سرّا عميقا لا بدّ لي من كشفه ولو تطلّب منّي الأمر تأجيل مشروع انتحاري إلى حين.
طفقت أنتظر عودة حياة كامل اليوم، ولم تأت. ومرّت أيّام كاملة وأسابيع وأنا أنتظر دون جدوى. حتّى قرّرت أن أنقطع عن مهنة التّدريس لأعيد المجد إلى ما ورثته من صنعة جدّي وأتفرّغ كامل الوقت لانتظار عودة حياة إلى "سانية المصيد". أصلحت الزّورق الصّغير والشِّباك وشمّرت على سواعدي ونزلت إلى البحر لا أرتزق إلاّ منه. وصل بي الأمر إلى هجر المدينة العتيقة للاستقرار صيفا وشتاء ببرّاكة عزيزي. بل توصّلت إلى إقناع أمّي بقبول "سانية المصيد" منابا لها من ميراث أبيها وأنا أعلم علم اليقين أنّها على وشك أن تقع تحت طائلة قرار انتزاع للمصلحة العامّة.
ثمّ مرّت السّنون. أخذت منّي البلديّة "سانية المصيد" وفرضت عليّ ظروفي أن أهجر السّواني والمدينة برمّتها وأعود إلى التّدريس في قرية لا يمكنني فيها أكل سمك طازج. وفجأة فاض قلمي بنصوص من شعر ونثر. فوجدتني وقد نسيت عشقتي الأولى تماما، لا أكتب إلا عن حياة ولحياة. كنت أقضّي كلّ ساعات راحتي تائها في المدائن باحثا عنها منتظرا أن تستوقفني في كلّ حين وكلّ مكان. وكنت مستعدّا للتّعرّف عليها في أيّ هيأة شاءت أن تظهر لي.
ولكنّ حياة لم تف أبدا بوعدها ولم تأت. فقد تكون نسيتني تماما. أمّا أنا فقد تعبت من عيش طال بي سنين لم أعد أحسن عدّها. وقد مللت الجري وراء سراب عودتها للقائي. ولم يبق في هذا الجسد ما يطيق كلّ هذه الآلام التي تنخرني.

****

سكت وقتا طويلا ثمّ أخذ يسعل فلا يستنشق إلاّ بعسر وأخذت أوداجه تنتفخ وتتشنّج وتمسّك بمئزري بكلّ ما بقي في يديه المرتعشتين من قوّة وهو ينظر إليّ بعينين واسعتين متضرّعتين ويقول بصوت متقطّع:
- أرجوك... يا بنيّتي... أتوسّل... إليك... ساعديني ... على انجاز... مشروعي...
بقيت أنظر إليه شادّة على يديه أسأله عن المشروع الذي يطلب في شأنه مساعدتي. ولكنّه لم يتوصّل إلى إضافة كلمة واحدة. بل استغرق في سعاله حتّى انقطع عنه النّفس تماما. فجأة تركت يداه مئزري لتشدّ بعنف على غطاء سريره. عندها فقط تفطّنت إلى ضرورة وضع كمامة الأكسيجين على فمه. ولم أدر كيف ارتبكت فلم أستطع تشغيلها إلاّ بـجهد فوق طاقة البشر.


جريت إلى قاعة المراقبة وبحثت عن رقم الطّبيب المداوم فلم أجده إلاّ بعد بحث في كلّ السّجلاّت. ولأنّ العامل على موزّع الهاتف لم يرفع السّمّاعة، ولأنّ الطّبيب نفسه كان، ولا شكّ، نائما، فإنّني طلبته من هاتفي المحمول قرابة العشر مرّات قبل أن أتحصّل عليه. فما وصل أخيرا إلاّ ليجد مريضه قد فارق الحياة.
رحم الله عمّ عيّاش. لقد مات أعزب ولم يحقّق مشروعه.

الهكواتي – المنستير

الهندي : التين الشوكي - البرّاكة : كوخ خشبيّ - عزيزي : جدّي – القارور :نوع من القوارير الفخّارية لصيد الاخطبوط – السّواني : منطقة فلاحية على الشاطئ الجبلي بالمنستير اقتحمها اليوم البناء وصارت تدعى بالفرنسية "فالاز"- قربش : قفّة من قصب لنقل التين والتوت عادة – شلاكة : نوع من الخفّ البلاستيكي أو الجلدي.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

القصة والتراث

تكريم الهكواتي

أنا أيضا ... حوماني