حجّة الغائب

سنتي على جناح السّرد – النّص 16 من 53 – 23 ماي 2008

حجّة الغائب

كالعادة، انفجر كقنبلة من كلمة بسيطة قلتها له. صاح آآآآه. ثمّ لاذ بصمته وسدّ أذنيه كالعادة ليتركني أشرح رأيي فيه لأثاث الصالون.
كنت أراه يغلي في داخله غليانا. وكان واضحا من أذنيه المحمرّتين ووجهه المتعرّق أنني كنت أقول له من حقائقه ما يلامس الدمّل القديم المتقيّح في أعماقه. هكذا الحقّ، جارح أبدا، خاصة متى يكون واضحا للعيان، ولا يمكن نكرانه. أنا دائما أقول له رأيي فيه بصراحة لأنّني أحبّه فعلا. فلو كانت نقائصه في شخص أخر غيره لتجاهلته لأنّ شأنه لا يهمّني. أمّا هو فزوجي وحبيبي ولا أقبل أن يكون ساهيا عن حقيقته.

هو رجل طيّب لا محالة، حنون لا محالة، ذكيّ لا محالة، ولكن طبعه حادّ وآراءه قاطعة تنفّر منه المجتمع بأسره. وأنا أريده أن يتحسّن، أريده كاملا أو أقرب ما يكون من الكمال. هكذا أريد زوجي وهكذا كان يمكنه أن يكون لو سمع كلامي وراجع مواقفه مراجعة جذرية. لذلك إنّما أقسو عليه أحيانا. ولكن ما بالطبع لا يتغيّر. فقد مرّ أكثر من ربع قرن، لم استطع خلاله أن أغيّر فيه ولو مثقال ذرّة.
لو كان اعترف لي بصحة رأيي فيه وبتفوّقي عليه في فهم النّفس البشرية والتأقلم مع المحيط الاجتماعي الذي نعيش فيه، لو وعدني، مجرّد وعد، بأن يحاول تغيير ما بنفسه، لانتهت الخصومة في دقائق معدودة. ولكنّه كان يعرف أنّ صمته يغيظني ويدفعني إلى قول مزيد من الحقائق المرّة. ما يزيده هو غضبا وغليانا ويدخلنا في حلقة مفرغة من المزايدات لا تنتهي إلاّ بانصراف أحدنا. لذلك آثر هو الانصراف كعادته حتّى لا يتفوّه بما من شأنه أن يقضي بالانهيار على علاقتنا، بل على بيتنا كلّه.
لم يطل غضبي أكثر من الوقت الذي استغرقه وصوله من الصالون إلى باب الحديقة الخلفيّة. فأنا أعرف زوجي جيّدا، أعرف طيبته وتمسّكه بالحياة العائليّة إلى حدّ تقديسها، وأعرف أنّ الغضب لا يطول به إلاّ نادرا. وحتّى إن طال فهو لا يترك له أن يتجاوز حدود بيتنا. كم مرّة هدّد بترك الدّار نهائيّا ؟ ولكنه ما بارحها أبدا إلاّ ليعود إليها.
كالعادة، سيغيب ساعة أو بعض ساعة ثمّ يعود هادئا مسالما. قد يكون روتين الحياة الزّوجيّة أصاب الحب الذي جمعنا من زمان ببعض الذّبول أو حتّى ببعض الصّدئ، ولكن على أنقاضه نبتت عشرة من الذّهب الخالص، لا يطالها الصّدأ أبدا. لذلك، فهو إن لم يعد لأجل الحبّ فسيعود لأجل عشرة بيننا يدرك أنّني لا أستطيع العيش بدونها. عشرة جعلته يخاف عليّ أكثر من خوفه على أبنائه بل أكثر حتّى من خوفه على نفسه.
بعد ربع ساعة من انصرافه، فتحت شبّاكا يشرف على الحديقة الخلفيّة وبالتالي على المستودع. فتبيّن لي أنّه لم يذهب بعيدا. إذ أنّه خرج راجلا وترك شاحنته الصّغيرة راسية في مكانها. لا بد أنّه ذهب إلى بيت زميله في الشغل وصديقه سي العادل. سيسهر معه كالعادة إلى حدود العاشرة والنصف ليلا -فتلك ساعة نومه دائما- وحتّى يغيظني فسيشرب بعض كؤوس من الخمر معه. أمّا أنا فسأتصنّع الغضب، كالعادة، سأقول له إنّني أكره رائحة فمه النتنة وسأدير له ظهري في الفراش. بل سأتظاهر برفض وصله حتى أهيّجه أكثر. وكالعادة سيحضنني من الخلف رغما عنّي بدعوى ممارسة حقّه الشّرعيّ في جسدي. وعندها سأفتح معه مواجهة جديدة لن تنتهي إلاّ ونحن متعانقين ننام سمنا على عسل.
لا أحد من الأولاد عاد هذا السّبت. لذلك فإن كان سيادته يسمح لنفسه بالخروج متى يعنّ له، فأنا أيضا أخرج متى أشاء. كانت سيّارتي جاثمة أمام باب الدّار، فمستودعنا لا يتسع لأكثر من سيارة واحدة. من يعود منّا إلى البيت أوّلا يركن فيه سيارته. ولأنّني لا أستطيع الخروج من عملي قبل الوقت الإداري، فإنه غالبا ما "يحسبها جيّدا" ليعود قبلي فيركن شاحنته الصّغيرة الخردة في المستودع ويترك سيارتي الجديدة عرضة لكل مخاطر الرّكون في الطريق العام. ولكنّ هذا مصدر خلاف لا أحد منّا يصرّح به ولا يطرحه للنّقاش سعيا لحلّه.

*****

ركبت السّيّارة واندفعت نحو المدينة. وكعادتي في مثل هذه الظّروف، ذهبت إلى بيت نائلة صديقة صباي. سألتني نائلة، كالعادة، عن أحوال الأولاد فقلت إنّ الامتحانات على الأبواب، وإنّهم فضّلوا البقاء في أحيائهم الجامعيّة للمراجعة في أحسن الظّروف. ثمّ سألت عن زوجي وعن صحته، فقلت لها إنّه أصحّ من جمل. ولأنّها تعرفني أكثر مما أعرف نفسي فقد رمتني بفجاجة بسؤال عن حال علاقتنا الزوجية. هنا سكتّ ما أمكنني السّكوت وهي تنظر إليّ وتنتظر الجواب. ثمّ قلت "زفت كالعادة". ومضيت أفرغ كامل جعبتي دون إهمال أيّ من تفاصيل معركتنا.
لم تدعني أنصرف من بيتها إلاّ بعد أن اعترفت لها بأنّني كنت الظّالمة هذه المرّة. ولكنّني أصررت كالعادة على أن لا أقرّ له بذلك أبدا. بل صمّمت على أن لا أصالحه إلاّ بعد أن يعتذر هو عن غضبه المفرط وصمته الجارح الذي تعلّم أن يجابهني به كلّما طرحت موضوعا لا يروقه أو عبّرت له بصراحة عن رأيي فيه.


كالعادة، "حسبتها جيّدا" أنا الأخرى، فعدت في الوقت المناسب وتعشّيت وحدي بسرعة ثمّ اندسست في الفراش قبل الوقت الذي تعوّد أن يؤوب فيه من بيت صاحبه كلّما قضّى السّهرة يشرب معه. أخذت أتظاهر بالنّوم فلم أتفطّن إلى أنّه غلبني إلاّ عند صياح ديك الجيران. التفتّ فإذا مكانه في الفراش شاغر.
هكذا إذا، يريد أن يفجّر الموقف. سيادته قضّى الليل، ولا بدّ، في بيت أخيه. ولا بدّ أن شادية، سلفتي الموقّرة، قد فهمت جيّدا سبب تراخيه في السّهر عندهم حتّى آخر الليل، وأنّها هي من عرضت على زوجها أن يقترح عليه المبيت. ولا بدّ أنّها قد فرحت كثيرا لقبوله الاقتراح.
قلت في نفسي : "سيعود عاجلا أم آجلا إلى البيت وسأعرف كيف أعاقبه على هذه الفرصة التي أتاحها لغريمتي حتّى تشمت فيّ". وبدأت في الحال أنفّذ وعيدي. هو يصرّ على أن أطبخ الكسكسيّ لغداء يوم الأحد. حتّى أنّنا قد اشترينا معا كلّ ما يلزم لطهوه قبل أن تنشب المعركة. وأنا حلفت أن لا يحصل هذا ولو وصل الأمر إلى قطيعة نهائيّة بيننا. لقد فسح المجال "لشادية المرعوبة"* حتّى تحكم كيدها لي، وسأريه أنا من كيد النّساء أصنافا لم يرها طيلة ربع قرن.
قضّيت كامل الصّباح في الفراش، أقرأ مجلّة وأستعدّ لإشهار الحرب عليه بمجرّد أن يعود. ولكنّه لم يعد. هو إذًا مصمّم على إطالة جفوته هذه المرّة. تغدّيت خبزا وجبنة. ثمّ عدت إلى الفراش أفكّر في ما ينبغي عليّ أن أفعل لو استطاع فعلا أن يغضب منّي إلى حدّ هجر البيت كما هدّد بذلك مرارا.
استعرضت برامجنا العاجلة فوجدت من بينها موعدا ضبطناه لصباح الاثنين مع صديق له موظّف في بنك، ليتوسّط لصديقتي نائلة، حتّى تحصل على قرض تكميليّ تنهي به بناء بيتها. ولأنّه لا ينبغي أن أسمح لخصوماتي الزّوجيّة بأن تربك مخطّطات صديقتي، فقد بدأت بمراجعة استراتيجيّتي وإقناع نفسي بأن الأسلم لي أن أبادر أنا بالمصالحة.
اغتسلت وتجمّلت وتطيّبت ولبست قميص نومي الورديّ وانتظرت عودته حتّى الغروب. وحين أدركت أنّه مصمّم على مزيد الغياب، قرّرت أن أطلبه على هاتفه الجوّال لأشنّ عليه، عن بعد، هجوم المصالحة. ولكن، ها هو المنبه يستنفد رنينه مرتين ولا جواب. جرحني منه أن لا يفتح خطّ هاتفه ليجيب، ولكنّ خوفي من تواصل ردّ فعله بهذا الشكل صار أكبر. فهو رجل متطرّف في كلّ شيء. متطرّف في طيبته، متطرّف في سرعة زوال غضبه، ولكنّه متطرّف جدّا متى قرّر ردّ فعل جذريّ.
لذلك قدّرت أنّه عليّ أن أطرق الحديد ما دام حاميا، وأن أعترف بذنبي كاملا وأقدّم له كلّ التّنازلات دفعة واحدة، حتّى آمن ممّا يخبّئه المجهول. طلبت أخاه فوجدت هاتفه الجوّال مغلقا. لذلك زاد هلعي وقدّرت أنّ تحمّل شماتة "شادية المرعوبة" أهون عليّ من ترك زوجي عرضة لشراك أوّل امرأة يمكن أن تعترض طريقه وهو في هذه الحال، فتختطفه منّي بسهولة.
*****
ارتديت ملابسي في الحال وذهبت إلى شادية. كانت هي الأخرى وحدها في البيت. فهل اتفق الأخوان على مخاصمة زوجتيهما في نفس الوقت ؟ كالعادة، أجابت على ما هجست به بقولها لي إنّ كل شيء في بيتها على ما يرام. وبرّرت غياب زوجها بأنّه في الجنوب يشارك في ندوة لن يعود منها إلاّ في آخر الليل.
لو كان زوجي بات في بيتها لأطنبت في تعديد ما قدّمت له من مأكل ومشرب من لحظة دخوله حتى لحظة انصرافه. ولكنّها سكتت تماما. ما يعني أنّ سيادته إنّما أراد أن يصيبني بالذعر باختفائه حيث لا يمكنني العثور عليه. طلبته مرة أخرى على هاتفه الجوال. فتركه يستنفذ رنينه ولم يردّ عليّ. عندها استشطت غيظا وقرّرت الذّهاب إلى بيت أمّي لأبقى عندها حتّى يأتي هو لمصالحتي ويعتذر لي.
هناك، أمام بيت صباي، كان أخي يتحادث مع صاحب المكتبة المجاورة بينما كنت أركن السّيّارة وأجمّدها بالمكبح اليدويّ. كان يلوّح لي بيده وأنا أفتح الباب وأهمّ بالنّزول. ولكنّ فكرة اخترقت ذهني فجأة، انقبض لها قلبي. فأطبقت باب السيّارة وأدرت المحرّك من جديد لأنطلق بسرعة طائر لا حاجز يمكن أن يوقفه.


لا أدري كيف قدت السّيّارة ولا من كان يلاحقني ولا كيف وصلت إلى بيتي. لا أدري حتّى منذ متى وأنا أقيم مغلولة اليدين والرّجلين في غرفة الإنعاش في هذا المستشفى، لا أكاد أستيقظ حتّى يحقنوني من جديد بهذا المخدّر.
كلّ ما أذكره، ولا أدري إن كان واقعا أم كابوسا، هو أنّني كنت أعدو في الظّلام التفافا حول البيت من داخل الحديقة، حتّى إذا بلغت المستودع وفتحت باب الشّاحنة الصّغيرة، وقع في حضني جسده المتصلّب. فسقطت فوقه مغشيّا عليّ أملأ رئتيّ من رائحة الموت المثلّج التي كانت تفوح منه والتي مازالت تملأ خياشيمي إلى الآن.

الهكواتي – الحمّامات

* المرعوبة : قطعة الفحم التي لم يكتمل طبخها والتي تبقى مدخّنة أثناء اشتعالها في الكانون.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

القصة والتراث

تكريم الهكواتي

أنا أيضا ... حوماني