وسادة لعيد الحبّ

سنتي على جناح السّرد / النّص 03 من 53 / 22 فيفري 2008

وسادة لعيد الحبّ

وردة بيضاء كلون الثّلج يزيدها ضوء القمر نصاعة. شوارع تخلو لتمنح العشّاق سكينة لخلواتهم وتبادل هداياهم. وهذا العاشق، إلى جانب السيّارات الرّاكدة حذو الرّصيف، "منتصب القامة، يمشي"، مرفوع الوردة، ممدود اليد قدّامه يتأمّلها ويصلّي لسيّد المخلوقات جميعا: لبّيك يا حبّ، لبّيك.
يقال إنّ وردة الحبّ لونها أحمر. هذا يعرفه جيّدا. وما يزال لدى بائع الزّهور من الورود الحمراء ما يغرق عشّاق المدينة بأسرها في حبّ أحمر من الزّهور جميعها. ولكنّه يحبّذ البياض. فحبّه نقاء وصفاءُ قلبٍ وسماحٌ واعتذارٌ عن الماضي والآتي معا.
ودّ لو يشكر مخترع الهاتف الجوّال. فلولا أنّه برمج منبّهَ جوّاله، لما استطاع تذكّر عيد الحبّ ولما استعدّ من الفجر لإحيائه، لأوّل مرّة، بما يليق بجلاله. فكّر أنه لو وجده في الحين أمامه، لعاد ليشتريَ له، هو الآخرَ، هديّة بمناسبة عيد الحبّ، ولكانت الهديّة، طبعا، وردة بيضاء كهذه.

*****

في سنة زواجه الأولى، ذكّرته بعتاب خفيف. فأجابها بقوله: "أنا رجل شرقيُّ العادات لا أومن بهذه الخرافات ذات الطّعم الغربّي". ثمّ سرعان ما تنازل عن رجعيّته، بضغط من أمّه العجوز، فوعدها بتلافي السّهو في العام الموالي.
في السّنة الثّانية، دعت لعشاءٍ مفاجئٍ أمَّها وأخيها. وانتظره الجميع حول مائدة طويلة زيّنتها شموع موقدة واستقرّت في وسطها كعكة حلوى. بل إنها قد أعدّت خطّة، لتفسح له مجال الشّرب خفية عن أعين الأمّين العجوزين. فأرسلت أخاها لشراء قارورة خمر، من المغازة العامّة، بعد أن اقتصدت ثمنها من مصروف الأكل اليومي. كلّ ذلك، لتلقاه بعد العشاء ثملا بحبّه لها. وقد كانت واثقة من أنّه سيتذكّر وحده. ولكنّها، حين حلّ ركبه بلا هديّة ولا وردة حمراء، أطبقت خلفها بعنف باب الدّار، ودلفت إلى دار الجيران، قبالته، لتنحشر في غرفة صباها وتقضّي ليلتها تندب سوء حظّها.

حين حلّ ركبه بلا هديّة ولا وردة حمراء، أطبقت خلفها بعنف باب الدّار، ودلفت إلى دار الجيران، قبالته، لتنحشر في غرفة صباها وتقضّي ليلتها تندب سوء حظّها

في السّنة الثالثة أودعت وليدهما، من العشيّة، عند أمّها واستعدّت لعشاء معه على انفراد في مطعم الميناء الذي كان حديث الجميع، حيث كان يقدَّم السّمك الطّازج صيفا وشتاء، من أيدي أمهر طبّاخ في المدينة. لقد ألحّت عليه بنفسها منذ الصّباح حتّى لا ينسى موعد عشاء القدّيس فالنتاين.

لسوء الطالع، حجزه عرفه للعمل إلى ما بعد منتصف الليل. حال وصول صوتِه، عبر الهاتف، معتذرا لها، التحقت بابنها ولم تعد إلى بيت الزّوجية إلاّ بعد شهرين. وتعرف الحومة وما حوت من أزقّة أنّه أقدم على تنازل لم يجرؤ على تقديمه قبلَه أيُّ رجل في المدينة العربي بأكملها. وكما لو أن ذلك لم يكفها ثمنا للصّلح، أهداها طقم مصوغ كاملا من الذّهب دفع فيه أكثر من مليونين ونصف، سلفة من البنك خصّصها لترضيتها، طاعة لأمّه المسكينة التي كانت قد شُلّت بعد والتي أصدرت أمرها بلهجتها الصّارمة المعتادة: "على خاطر هاك الملائكة اللي لا عملت لا يدّه لا ساقه، أما أنا موش دائمة لك".

في السنة الرّابعة، قامت من الفجر لتذكّره بسان فالنتاينها. وفرضت عليه التّغيّب عن عمله بداعي مرضٍ، ما كان أصيب به أبدا. أخرست معارضتَه بشهادة طبّيّة جاهزة تحمل اسمه وتاريخ الرّابع عشر من فيفري. كانت الشهادة هديّة سان فالنتاين من صديقة لها تعمل في المستشفى.
ورغم خضوعه آخر الأمر لنزوتها، لم يعودا من النّزل إلاّ ليتخاصما. فانعزلت في غرفتهما ولم تترك له خيارا سوى النّوم في غرفة أمّه. وقد كانت المسكينة انتقلت بعد، منذ قرابة السّنة، للعيش في مأوى العجّز. وهناك، أخذ عجزها يتفاقم يوما بعد يوم حتى أقعدها عن كلّ اعتماد على نفسها.
*****
في هذه السّنة، لم تنتظر حتى تتثبّت مما إذا كان سيتذكّر عيد الحبّ. حملت طفلها وحقيبتها، منذ عشرة أيّام أو أكثر، وأعلمته باستقرارها نهائيا بالبيت الجديد الذي بنته أمّها على شاطئ البحر.
ما كان ليتصوّر حماته ترضى بالبعد عن زقاقها في الحومة العربي، مرتع طفولته، أيّام لم تكن نجوى أكثرَ من بنت جيران. كان طولها لا يتجاوز خبزة طليان. وكان وأنفها لا ينقطع عن إفراز المخاط صيفا ولا شتاء. ولكنّ "لِلاّ"، كما كان ينادي أمَّ نجوى منذ علّمته أمُّه أسماء الجيران، لم تكتف بهجر وكرها، بل كرته هذه الأيّام، لأوّل "برّاني" دخل الزّقاق ساكنا منذ أن كان الرّبط ربطا.

*****

الوردة بيضاء كلون الثّلج وهو يمسكها بيمناه ويمشي إلى الأمام على رجليه. لقد تخلّى عن درّاجته النّارية منذ عشرة أيّام. قرار اتخذه للتّخلّص من بعض الكيلوغرامات المحيطة ببطنه والتي لم تعد زوجتُه الحبيبةُ، نجوى، تكفّ عن تعييره بها وعن دعوته إلى الالتزام، للقضاء عليها، ببرنامج حمية اقترحته، بطبيعة الحال، صديقتها العاملة في المستشفى.
"زوجته الحبيبة" قال ؟ نعم بالتأكيد، هو لا يمزح إذ يقولها. لأنّ أمّه استطاعت أن تجعله يحبّها فعلا. كانت تصرّ، في كلّ مرّة ينفر منها، على أن تعيده إليها. وكانت لا تكفّ عن محاولة إقناعه بأنّ كلّ الأزواج، منذ بدء الخليقة، يتخاصمون. كانت تقول له، حتّى وهي تعيش في المأوى ولا تتكلّم إلاّ بعسر، إنّ الوقت قد تغيّر تماما وإن كنّة واحدة لم تعد تقبل حماة تعيش معها في نفس البيت.
هو يعترف، ولا شكّ، بأنه ما كان عليه أن يتنازل لزوجته إلى حدّ القبول بترك أمّه تعيش بقية حياتها بعيدة عن بيتها، حتّى تموت في مأوى العجّز، في ظروف فجّرت في الحومة فضيحة وموجة غضب عارم. فالمنتقلة إلى رحمة ربّها لم تكن تستأهل ذلك المصير. لقد كانت تحبّ كنّتها نجوى وجارتها أمّ نجوى، كما تقول المسلسلات السّوريّة، حبّ إسراف، وتعطيهما من ذاتها بغير حساب.
ولا شكّ في أنّها كانت، كما قال الجيران، آخر رمز للمحبّة في الزّقاق. بل لعلّ عمّ ناجي محقّ في اعتبار شللها نتيجة مباشرة لاشتراط نجوى أن لا تعود إليه إلاّ متى سُجّل البيت ملكا مشتركا بين الزوجين حتى يتسنّى لها العيش فيه دون حماة.
ولكنّه، للحقيقة، لا ينزّه أمّه الفقيدة عن بعض التّدخّل في ما لم يكن يعنيها في شيء، بل حتّى عن بعض الجمل القصيرة التي كانت تخرج بها عن صمتها من حين لآخر، وقد صاغتها بكلمات من ماء النّار.
أنعشته رائحة الملح البارد تدغدغ أنفه عن بعد، وبدأ يتهيّأ له أنّه يسمع صوت الأمواج وهي تنكسر هناك على صخور الجزيرة ومدخل الميناء العتيق.
*****

الوردة بيضاء كلون الثّلج. وها هو يمشي ملفوفا في كسوته الجديدة البيضاء بربطة العنق الفراشة، هذه التي يلبسها لأول مرّة في حياته. ها هو يترك وراءه آخر مساكن المدينة العربي، وقد أنعشته رائحة الملح البارد تدغدغ أنفه عن بعد، وبدأ يتهيّأ له أنّه يسمع صوت الأمواج وهي تنكسر هناك على صخور الجزيرة ومدخل الميناء العتيق.
أكثر من عشرة أيّام قضّاها يفكّر في ما ينبغي عليه فعله. ثمّ أسعفته بالحلّ يوميّةٌ معلقة على جدار بغرفة النّوم. كانت نجوى قد رسَمت عليها بخطّ يدها وبقلم وبريّ أحمر دائرةً حول يوم الرابع عشر من فيفري، ينطلق منها سهم نـحو قلب تحته بعض قطرات من دم. تماما كذلك الذي كان يرسمه بنفسه على جدران المعهد أيّام كان يحبّ غالية بنت زقاق الغربال، في الطرف الآخر من الرّبَطْ*.
شيء ما، في هذا الرّسم، يعني أنّ قدرا من المحبّة نـحوه مازال يسكن قلب زوجته الغاضبة. شيء شبيه بما لم يزل يسكن قلبَه نـحو غالية. أليس من واجبه بناء عليه، اليوم وقد توفيت أمّه، أن يقدّم كلّ التّنازلات من أجل أن لا يدفع طفلُه ثمن وضع لا ذنب له فيه ؟

*****

الحقيقة أنّ حكاية حبّه لغالية قد نشأت ميئوسا منها أصلا. فقد كانت بنت زقاق الغربال تكبره بسنتين أو أكثر. حتّى أنّها أعلمته من البداية بأنّها كانت مخطوبة. وأوضحت له أنّها ستكتفي بأن تحبّه مثل أخيها. ولو أنّه كان يستشعر من نظراتها وتورّد وجنتيها كلّما لمست يديه يداها، أكثر مما كان يمكن أن يعبّر عنه قلب أخت كبرى. إلاّ أنه كان من النّوع الذي يقنع بما تجود به عليه، في حدود كان يترك لها أن تضبطها بنفسها.
حالما كشفت أمّه أمر حبّه الصّبيانيِّ لغالية، أمرته بالكفّ نهائيّا عن التفكير في هذا الأمر، وأعلمته بسرّ وصيّة أبيه: "أنت موعود لنجوى دون سواها، منذ ولادتها. وفي المقابل إنّما كُتب هذا البيت كلّه باسمك أنت". فَهِم في الحين، من تركيزها على كلمة "المقابل"، أنه لا يتمتع بأيّ حقّ في نقض الحكم. نظر إلى التي ستصبح فتاة في يوم ما، والتي لم يكن يجمعه بها أكثر من إرادة أبويهما ووفاة كليهما. نظر إليها بعينين لا تصدّقان ما يجري، وسلك، والشعور بالموت يعتصر قلبه، طريق السمع والطاعة. فكفّ عن انتظار حبيبته أمام معهد الفتيات الحقيقيات، بل وحتّى عن المرور أمام زقاقها في طريقه. أمّا أحلامه، حتّى تلك التي كان يعيشها في اليقظة، فلم يكن، ولن يكون سلطان عليها لأحد، ولا حتّى نجوى التي تعلّم أن يحبّها بالتّعوّد.
****

الوردة بيضاء كلون الثّلج. وها هو يضمّها برفق إلى صدره ويمشي تحت قمر لم ير مثله اكتمالا وسطوعا منذ سنين. لم يعد في حاجة إلى تخمين رائحة الملح البارد وصوت الأمواج المصطخبة. فقد غدا حضورُهما أوضحَ من الوضوح. أما ما ليس واضحا في ذهنه، فذكرى باب قد يكون فتح له أو أحد قد يكون رحّب به أو حتّى كلب قد يكون نبح عليه. لم يكن له من يقين في تلك اللحظة سوى أنّه يقف أمامها ويمدّ يده إليها بالوردة البيضاء: لبّيك يا حبّ، لبّيك.

- إشتقت إليك كثيرا يا أغلى نجوى في الكون لديّ. لا تغضبي إن كانت وردتي بيضاء. فالورد الأحمر يعبّر عن حبّ كحبّ الآخرين جميعا. وحبّي لك، والله، أنقى من كلّ حبّ وأبيض من كلّ ثلج. ها أنا أتيت الليلة محتفلا بعيد الحبّ، لأوّل مرّة من تلقاء نفسي، معترفا لك بأنّك أعظمُ نجوى أنجبها زقاق ربطيّ* منذ بدأت الخليقة. وها أنا أقف أمامك طالبا صفحك وغفرانك ورضاك.
لم يكن كلامُه همسا. كان يمكن لأيّ كان سماعُ كلِّ شيء، حتّى عن بعد. وكان هو أمامها واقفا يتكلم والصوت منه صريح لا تخنقه عبرة. أمّا هي، فكان صمتها شامخا، وما كان لكلامه أن يؤثّر فيها. فما يقوله لم يكن ليحرّك لها شعرة واحدة.
جثا على ركبتيه أمامها، نعم، نعم، ليترجّاها. حتى أنّ دموعه صارت الآن تنهمر. ولكنّها لم تمدّ يدها لتأخذ منه وردته ولا حرّكت ساكنا أو نبست، لتردّ عليه، بحرف واحد. شعر فجأة بأنّه بات أحقر خلق الله جميعا. وكما لو أنّ هذا الصّمت وحده لم يكن كافيا لإهانته، ها هو صوت أمّ كلثوم ينطلق في تلك اللحظة بالذّات صادحا: "فات المعاد".
كان نور الفجر قد بدأ يضيء قطرات الطّل المتجمّعةَ على الرّخام المنتشر من حوله.
*****

فات ؟
كانت الأغنية قادمة من خلف شجرة ما كانت بعيدة عنهما.
- يا خويا... خويا... قوم يعيّشك من غادي... أعرافي ما يحبّوليش.
- ما يحبّولكش ؟
حين أفاق على صوت الحارس، كان نور الفجر قد بدأ يضيء قطرات الطّل المتجمّعةَ على الرّخام المنتشر من حوله. لم يكن يدري، إن كان قد أغمي عليه من شدّة ما شعر به من إهانة، أو إن كان فعلا، كما يدّعي الحارس، قد نام، وسادتُه الوحيدة وردة بيضاء على رخامة قبر أمّه.
حين أشرف من المقبرة على الميناء القديم، كان الفجر قد طلع تقريبا. لم تكن قد بقيت موجة واحدة تندفع متهوّرة نـحو الجزيرة الصّغيرة. كأنّما اليومُ كان يعد بأكثر صفاء.

الهكواتي – المنستير

*******
الرّبط أكبر أحياء مدينة المنستير العتيقة، وفيه مولد الكاتب – ربطيّ نسبة إلى هذا الحي

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

القصة والتراث

تكريم الهكواتي

أنا أيضا ... حوماني