ترانسفرسال*

سنتي على جناح السّرد – النّص 02 من 53 – 15 فيفري 2008



ترانسـفرسال*




صباح الخير سيّدي الشّرطي. هاهو ذا المجرم، أخيرا، في قبضتي الحديدية كالفلّوس. سأتركه لك بعد أن أكمل حديثي. وحذار من ترك المجال أمامه للفرار.
صحيح أنك لم تطلب منّي أكثر من أن أدلّك على المجرمين في كنف التّكتّم، إن عثرت على أحدهم صدفة، وأنك حجّرت عليّ القبض مباشرة على أيّ منهم. ولكن ما حيلتي، هذه المرّة، وقد وجدته متلبّسا بالهرب في ساعة مبكّرة من الصّباح ؟
أنظره يا سيدي الشّرطي كيف أرفعه بيد واحدة كما أشاء وأخفضه كما أشاء، رغم كونه اشتهر بقوّة العضلة وعنف الرّكلة وسرعة الجرية. ولكنّني أنا يا سيدي الشرطيّ من قبضت عليه، بدهائي الكرويِّ وحده، وبأسرع من هبّة الرّيح.

قلت لنفسي حين بلغت قمّة نشوتي على مقربة من ملعب كرة القدم: " يا ترانسفارسال، هذه آخر مرّة ترى فيها ستاد"


صحيح أنّه قصير القامة وأنا والحمد لله عملاق. ولكنّ قبضي عليه إنجاز لا يقلّ قيمة عن تسجيل هدف في كاس إفريقيا للأمم. أقصد أنّه، لو كانت الدّنيا دنيا، يعني، لما قضّيت طفولتي في إصلاحية الأحداث، ولكانت سطوتي على الميدان إذًا أكبرَ من سطوته.
نعم، نعم يا سيدي الشّرطيّ، لا ينبغي أن تحتقرني. وقل لزميلك أن يبقى بعيدا في مكانه حتّى أكمل كلامي وأسلّمكم الأمانة بنفسي. هذا طبعا إن كنتم تريدون أن أسلّمكم هذا الفرّوج سليما. وإلاّ فأنت تعرفني حين أجنّ على أحد ولو كان من الكبار. إلاّ العجوزَ أمّي بطبيعة الحال. ولكن العجوز ماتت الآن. ولم يعد لكم أحد يقدر على تهدئتي باللين. فما بالك بمن سلك معي طريق العنف.
لا تحتقر خلق الله يا سيدي الشرطيُّ إذًا. ولا يغرّنّك في شأني ما تراه من فقري وبطالتي وتواضع كوخي في حيّ البتاتي*. فأنا في الكرة معلّم بلا منازع. وعندما أقول لك إنّني أفهم في الكرة أكثر من باش مدرّب، لا تقل لي إن في تونس عشرةَ ملايين كلهم مدرّبون. هذا خطأ فادح. فأنا ما مثلي أحد يا سيدي الشرطي. أقولها بكل تواضع. ولو كانت الدّنيا دنيا لكانوا عيّنوني ضمن الإطار الفنّي للفريق الوطني، ولكنت اليوم في غانا مع الأولاد لنلعب النّهائي.
أعترف للسّيد لومار (1) بأنّه، هو الآخرُ، صنائعيُّ كرة من الطّراز الرّفيع. ولكنني ابن بلد. أمّا هو، فبلا أدنى عنصرية، برّاني. ثم ماذا يمكن للمدرّب أن يفعل، أثناء المباراة ؟ لا شيء على الإطلاق. إنّه يكتفي بالجلوس على بنك البدلاء. أمّا أنا فاللاعب رقمُ اثني عشر. واللاعب الثاني عشر في التّشكيلة، ينبغي إدماجه في الطاقم الفنّي. هذا هو تكتيكي أنا للخروج دائما بالانتصار. لأنّ رقم اثني عشر هو وحده القادر على كسب الطّرح بالتشجيع المتواصل فقط. ولا أحد غيري يملك، لتوليع الفيراج*، كلّ المعرفة وكلّ التقنية. ولكن، الآن وقد عدنا نجرّ أذيال الإهانة، فما هذا وقت التّحسّر على ما فات. المهمّ الآن، يا سيدي الشّرطيّ، هو أن نوحّد الصّفوف لنعيد البناء على أسس صلبة. ولهذا الغرض ينبغي أن نـبدأ بالاحتفال معا بالقبض على هذا القطّوس.
لم أستعمل معه قوّة ولا تهديدا. قبضت عليه بنضجي التكتيكيِّ وحده. فلقد سمعت الخبر منذ البارحة. فكان لي بمثابة الصّدمة الحقيقية، وقضيت الليلة مشوّشَ البال حتّى أنّ زوجتي تفطّنت إلى بكائي. " لا شيء هناك" قلت لها، وواصلت البكاء كالوليّة. فأنا لا أحبّ نكران الجميل.
لبدت له من الفجر في رأس الزّقاق، من ناحية مصبّ القمامة. وحين رأيت سيّارته تتهيّأ للانطلاق أشرت إليه بأن يأخذني معه إلى وسط البلاد. بدا لي وكأنّه قد تفطّن إلى لفخّ. قال لي مرتبكا: "آش بيك يا ترانسفارسال ما تهبطش على بسكلاتك* كي العادة ؟" قلت له إنّها معطّبة. فصدّقني هذا الضّبع. مع أنّ الدّرّاجة كانت أمامه لا عيب فيها.
هذا هو ما نسمّيه التّمويه الفنّي في الكرة يا سيّدي الشرطي. تتجه بإصرار إلى اليمين وتتهيّأ لقذف الكرة برجلك اليمنى، ثمّ تغيّر اتجاهك فجأة. فيسقط المدافع وحده وتجد أنت المساحة مفتوحةً فتقذف بالرّجل اليسرى. وااا الهدف.
هكذا فعلت تماما. ركبت بـجانبه وأطبقت الباب وقلت له توكّل على الله. أخذت أروي له حكاية "حيّ درابك*" عن عطب الدّرّاجة حتى اطمأنّ إليّ. وفي سرعة البرق أخرجت بيسراي خنجرا كنت أخفيه في الكُمّ الأيمن لمعطفي، فلم ينتبه إلاّ وحدُّه منحشرٌ تماما تحت إبطه. "توّة يا قطيطس باش تسمع كلامي وتسوق السيّارة وتفكر في حياتك بحرارة". هكذا قلت له. وأخذت أملي عليه تعليماتي : "در على اليمين ... در على اليسار ... توقّف هنا قليلا ... انطلق الآن من جديد، الخ... الخ.."، حتّى أحضرته إلى هنا، وها هو بين يديك.
يعرف هذا القطيْطسُ جيّدا، يا سيّدي الشّرطي، أنني لا أمزح في حبّ الجمعية. صحيح أننا في حي البتاتي لا نملك مالا ولكن عندنا مدرّب عسل الدّنيا. رجل متواضع، يجلس معنا في المقهى. ويلتقيني شخصيّا ليلة كلّ مقابلة ليفسّر لي خطّته، ويقنعني بها قبل أن يطبّقها من الغد حرفيّا. وعندنا كذلك وليدات ما شاء الله عليهم مثل هذا القطيطس. أنا الذي سمّيته القطيطس تبرّكا بلاعب مشهور أيام زمان. أيّام كان الكلّ يلعب من أجل المريول*. هو يعرف أنني أحبّه. ليس لأنّه ابنُ الجيران ولكن لأنه لاعبٌ فنّان بحق. فهو جوكار* الفريق. وبدونه نعود إلى القسم الرّابع بلا نقاش.
أنا الذي أخذته معي أوّل مرّة إلى تمارين الجمعيّة. وهو يعترف بهذا. نصحت به صديقي المدرّبَ فأرسله في الحين ليتمرّن مع الصّغار. فأنا، يا سيدي الشّرطيّ، صاحب حدس لا يخطئ أبدا في الكرة. فهذه الجرية التي أصبح يعرف بها اليوم، كانت هي نفسها يوم لم يكن بعدُ إلاّ صبيّا. حتّى أنّه كان في طفولته صانعا عند "الشّاباتي" يستخدمه في نشل حقائب النّسوة. أنا من هدّدت "الشاباتي" : "إمّا أن تتركَ الولدَ لحاله حتّى ينتظم في التمارين مع الجمعية وتكفَّ عن استعماله في تجارتك الشيطانية، أو أصبّ بك الصّبّة*". فامتثل "الشاباتي" في الحين يا سيدي الشرطي. ومن ذلك الوقت أصبح القطيطس يتصرّف برجوليّة. ولقد نبّهته منذ كان في الأصاغر. قلت له "يا قطيطس العب ع المريول ما تعملش كيف الأخرين".
الآخرون يلهثون وراء المال يا سيدي الشّرطيّ. لا يشعرون بأي حبّ لجمعياتهم ولا لحوماتهم ولا لأهلهم ولا حتّى لبلدهم. أما نـحن في حيّ البتاتي فكلّنا وطنيون، نـحبّ البلاد. نقول بالدّار ولا نقول بالدّينار. فينا من يسرق، هذا صحيح.. فينا حتّى من يشتغل بزوجته، وهذا صحيح أيضا... ولكنْ لمقاومة الجوع فقط. ومن يبق له بعضُ المال الزائد، يذهب إلى الناحية الأخرى من مصبّ القمامة، ليسكر ويسقي أولاد الحومة فيخمّجونها* معا. ومن الغد تراهم متصالحين عسل وسكّر. لا أحد فينا يكدّس الأموال مبدئيّا من أجل الثّراء. نـحن أناس عندنا الشرف مقدّس، لا نتسلّق حبالا إلى قمر أبعد من خيالنا ولا نـحبّ الظّلم أبدا.

ومن يبق له بعضُ المال الزائد، يذهب إلى الناحية الأخرى من مصبّ القمامة، ليسكر ويسقي أولاد الحومة فيخمّجونها* معا

لذلك، وقبل أن أفعل أيّ شيء، سألته إن كان ما سمعته صحيحا. اِعترَفَ بدون مراوغة. ولكن، كيف يمكن هذا والموسم في أوجه ؟ وكيف يجرؤ على هذا وهو يعلم أن ليس لنا أحدٌ يمكن أن يعوّضه ؟ هل تريد أن نقوم بتجربة يا سيدي الشرطي ؟ أكسر له رجلا في الحال ونتراهن. يتغيب عن مقابلتين أو ثلاث فقط، ثمّ نرى. ستسقط الجمعية إلى القسم الرابع من جديد، ورأس ربّي. هل ستصدّقوننا أخيرا ؟
"لست أنا من يحبّ الانتقال إلى جمعية القسم الثاني"، قال. "هي والله تعليمات رئيس الجمعية". لماذا لا أراه أبدا، رئيسَ الجمعية هذا ؟ فليأت لمقابلتي ولنتحدّث. لماذا المحقرانيّة* ؟ أيّهما أحسن أن يبقى قطيطسنا فنصعد نـحن إلى القسم الثاني، أم أن نبيع قطيطسنا فنحصل على جوز صوردي* لا نصنع بهما شيئا ونعود من حيث أتينا ؟ جريمة هذه، جريمة، ألا تفهمون ؟ والمجرم الحقيقي هو هذا القطيطس، لم أعد أبحث عن فهم شيء آخر. لأنه هو من أمضى العقد.
ألف مرّة يوقف السّيّارة على حافّة الطّريق ويحلف لي : "أنا والله العظيم بريء يا ترانسفارسال. والله لا رقدت معاها مرتك حتّى وأنت في الحبس".
أنا لا أريد إلاّ أن أصدّقه يا سيدي الشّرطي. تعرف أنّني سامحتهما لأنني صدّقتهما. قالت لي أيّكما الأطول هو أم أنت ؟ قلت لها أنا. قالت لي أيكما الأقوى ؟ قلت لها بالطبع أنا. صاحت فيّ وهي تضرب على الطّاولة : "كيف تصدّق أنّ امرأة واحدة في الدّنيا تترك الأقوى وتتبع الأضعف؟" أقنعتني.
سامحتهما، رغم اعترافهما في حضرتك بأنّه وصلها. حلفت لي أنّهما اعترفا هكذا من شدّة الخوف. وهذا، أنا أصدّقه يا سيدي الشرطي. لأنني أعرف جيدا معنى الخوف من البوليس.
سامحته. حتّى يوم عدت إلى البيت على حين غفلة فوجدته في مرحاضي، سامحته. لم تكن هي في البيت وإلاّ كنت قبضت عليهما متلبّسين. لو كان عندي شيء يسرق لقلت إنّه نزل إلى بيتي من السّطوح ليسرقني. حلف لي أنه شعر بحاجة ماسّة إلى التّبوّل. وأنّه إذ وجد أمّه في مرحاضهم، قفز من السطوح إلى مرحاضي في آخر لحظة.
أقفلت عليه باب المرحاض و ذهبت إلى بيتهم... فلم أجد أمّه يا سيدي الشرطي. كان أبوه حمادي الكمبا ملقى على حصير في السقيفة. قال لي إنّه لم ير امرأته منذ خرجت في الصّباح. منعني الحياء من الدخول لأتثبّت مما إذا كان هناك أحد في مرحاضهم. ماذا كان سيقول عنّي الكمبا ؟ إنّني أقتحم بيوت المعاقين في غياب زوجاتهم ؟
فتحت المرحاض على هذا القطيطس، ووضعت يدي على رأسه، وطلبت منه أن يحلف ثانية أمام سي أنيس. فحلف بأنّه لم يرقد معها أبدا. فسامحتُ عندها، وتركت القطيطس يخرج من بيتي بكل حرّية، كالعصفور من قفص.
إن كان على حدّ استعمال مرحاضي للتّخفّف من بولة، فليخلِفِ الله علينا. صحيح أنّني أحضرت سي أنيس، يومها، ليعاين وجود القطيطس في مرحاضي. ولكنّني كنت أريده أن يشهد أيضا عليه وهو يحلف. لعلّ جيراني ينقصون إذًا من تناقل الكلام عن زوجتي. فالأطفال يتحدّثون فيما بينَهم عن كلّ شيء دون تمييز، يا سيدي الشرطي. وابنتي بدأت تكبر وأصبحت تفهم كلّ شيء.
النّساء هنّ اللواتي تتكلّمن أمام أطفالهنّ عن عشق امرأتي للقطيطس. لم تنقطعن عن اتهامها حتّى بعد أن كفت عن مصاحبتي إلى الملعب، ولبست الخمار، وصارت لا تغيب عن الصّلاة في الجامع يوم الجمعة، ولا تترك صلاة واحدة في البيت على مدى اليوم كلِّه.
حتّى أنّني أصبحت المتضرر الأكبر من صلاتها... ماذا ؟ هل ينبغي أن أقول : هنا بئر، يا سيّدي الشّرطي ؟ أصبحت لا تتركني أقربها إلاّ مرة في الأسبوع، بسرعة، قبل اغتسالها لصلاة الجمعة. وكما لو كنت أتسوّل منها ذلك. هل فهمت الآن ؟
رجل محترم سي أنيس يا سيدي الشّرطي. كنت واثقا من أنه سيروي لأمّه العجوز ما رآه بعينيه الاثنتين وسمعه بأذنيه الاثنتين. فيقول لها إنّ القطيطس كان يقفز من السّطوح ليبول في مرحاضي، لا أكثر ولا أقلّ. ويأمرها بالكفّ وجاراتِها عن نهش أعراض النّاس. رجل، حقيقة، محترم جدّا، سي أنيس. هو الوحيد الذي، من كلّ سكان حي البتاتي، أكمل تعليمه وتخرّج من المدرسة العليا للسّياحة. سيّارته سيّارة شعبيّة حقيقية وجديدة.
أمّا القطيطس فسيّارته خردة مسوّسة. حين جاء بها إلى الحيّ في بداية الموسم، حلف لي أنّه لم يدفع فيها مليما واحدا وأنّ رئيس الجمعيّة هو الذي أعطاه إيّاها على وجه الإعارة. لم أصدّقه. دعوت ولد رزوقة في الحال وجعلته يقرأ ليَ البطاقة الرّمادية. كانت فعلا باسم رئيس الجمعية. لم أكن أدري أن تلك الخردة طُعم ابتلعه القطيطس ليجد نفسه مجبرا على إمضاء عقد يبيع به نفسه، ويبيعنا نـحن أيضا أحبّاءَ الجمعية التي أنجبته.
كان يمكن لهذا البيّوع أن يسافر ليبدأ، من اليوم تمارينه مع جمعية القسم الثاني. فلن أتفطّن إلى أمره إلاّ عندما لا أجده يتمرّن مع أولادنا. ولكن، من سوء حظّه أن زوجتي سرّبت لي رأس الفتلة*. ضبطتها البارحة وهي خارجة من بيت الكمبا رغم أنّني نبّهت عليها بأن لا تعود إليه أبدا. شرحت لي أنّها كانت هناك لتواسي جارتها امرأة الكمبا لأنّ ابنها القطيطس العائق سيترك البيت ويذهب للعيش في زريبة تخصصها لسكنى المرتزقة جمعيتُه الجديدة.

تفطّنت وأنا أستعرض شريط حياتي إلى أنّني لم أدخل السجن أبدا من أجل جريمة محترمة.

هذا كلّ ما عندي يا سيدي الشرطي. ها أنا الآن قد قمت بواجبي. ها أنا أطلقه من قبضتي وأعهد به إليك. وعليك الآن أن تحبسه. ولكنّني مستعدّ لأن أسامحه مرّة أخرى. على شرط : أن تأخذ عليه تعهّدا بأن يتراجع عن إمضاء العقد ويبقى في الجمعيّة، على الأقلّ حتّى نصعد إلى القسم الثّاني، وإلاّ...
وإلاّ... لست أدري، لست أدري حقيقة... خذ منّي هذا الخنجر وضع كبّالتيك في يديّ أنا... احبسني أنا، على مدى الحياة.
صدّقني يا سيدي الشّرطي. لم أذق البارحة طعم النّوم. تفطّنت وأنا أستعرض شريط حياتي إلى أنّني لم أدخل السجن أبدا من أجل جريمة محترمة. كلّ مرة دخلته كان من أجل خصومات في الملعب أو مشاركة في قذف حكم بالحجارة، هكذا، أخذا بخاطر الأصحاب مع تعمّد أن لا أصيبه أبدا، رغم الظلم الصّارخ الذي يسلّطه علينا التحكيم دائما.
لو تحوّل القطيطس يوما ليلعب في جمعية أخرى، فلن أستطيع مسك نفسي عن ارتكاب جريمة حقيقية. وعندها سأدخل إلى السجن دخول الرّجال الحقيقيين. صدّقني يا سيدي الشّرطي. لقد فكّرت في غرس هذا الخنجر بين ضلوعه. ولا أدري كيف نجحت في مسك نفسي عن ذلك.
حكمت عليه بأن يأخذني إلى رادس لأتفرّج على درّة المتوسط، ولو من الخارج. كنت متأكّدا من أنّّها ستكون المرّة الأولى والأخيرة التي أزور فيها ذلك المكان. تعرف يا سيدي الشرطي ؟ إنّها بالفعل مدينة كاملة عظيمة جدّا، فيها كلّ أنواع الملاعب. والفضاء هناك فسيح أكثر مما يظهر لنا في التلفزة. لذلك قلت له أن يسوق السّيارة بسرعة بالغة. ولأنّه يحبّ السّرعة بطبعه فقد امتثل. فأخذت السيارة تجري بنا بسرعة لم أكن أتصوّر أبدا أنّ مثلها قادرةٌ عليها... كانت تجري بنا وتحوم حول المدينة كلّها بملاعبها ومآوي سيّاراتها. وكان ذلك الدّوران المتواصل يسكرني. قلت لنفسي حين بلغت قمّة نشوتي على مقربة من ملعب كرة القدم: " يا ترانسفارسال، هذه آخر مرّة ترى فيها ستاد". ولولا ألطاف الله، وتلك اللمعة التي جعلتني أستعيد الأمل في آخر لحظة في أنّ القطيطس قد يتراجع بضغط من الشرطة عن إمضائه هذا العقد، لجذبت إليّ المقود فجأة بيد وطعنته باليد الأخرى. ولكُنّا، الآن، خليطا من لاعب صاعد ومشجّع معتّق معجونين داخل خردة محطّمة على بعد أمتار من أكبر ملعب لكرة القدم.
تعبت الآن يا سيدي الشّرطي. لا تخف وتقدّم خذ منّي هذا الخنجر أرجوك. واحبسني بسرعة. احبسني إلى الأبد. صدّقني فقط حين أقول لك إنّ جلبي القطيطس إلى هنا، ليس انتقاما ولا خوفا. ولكن لحمايته من ضعف قد يتملّكني. وهذه هيّ الرّجوليّة عندي. أنا قادر على عجن آلاف مثله بين قبضتيّ ولكنّني لا أفعل لأنّي هكذا فقط، أحسّ بأنّني مازلت رجلا.
ولكن هيّا احبسني بسرعة، أرجوك يا سيدي الشرطي. فهكذا فقط، يمكن لابنتي الوحيدة أن لا تجد نفسها يتيمة، وأن تبقى لها، على الأقلّ، أمّ حرّة تسهر عليها. وهكذا فقط تحصل جمعيّتنا، من ناحيتها، على بعض النّقود لتضمن تواصل وجودها. فأنا أعي كلّ الوعي، يا سيّدي الشّرطي، أنّ الوقت تبدّل تماما، وأنّ قدرنا أبدا أن نعود في كلّ مرّة على أعقابنا إلى القسم الرّابع.
لو كنت سأقتل القطيطس، لما كان شيء منعني الليلة البارحة من ذلك. هل تسمعني ؟ ما لم أقله لك، هو أنّني كنت فوق سطحي وأنّني رأيت كلّ شيء.
كانت زوجتي في وسط دار الكمبا تهمّ بالخروج ثمّ تعود لتهجم على هذا القطيطس، فيقبّلها على فمها. كانت قبلا على درجة من العنف لم أكن أتصوّر هذه المرأة المسكينة قادرة على تحمّلها. أمّا امرأة الكمبا فكنت أراها من سطحي. كانت، كعادتها في مثل تلك الساعة، في حانوت صديقتها الماشطة. وكانت ما تزال هناك بعد عشر دقائق كاملة حين خرجت زوجتي من دارها مسرعة الخطى، ومسبحتها تتدلّى من يدها اليمنى، كما لو كانت خارجة من مسجد.
أترك لك أن تتصوّر، يا سيّدي الشّرطيّ، كم يحتاج عملاق مثلي حينها من قوّة الأعصاب ليتمالك نفسه ويتظاهر بأنّه إنّما كان يعترضها بمحض الصّدفة.


الهكواتي – تونس الكبرى

********
(1) السيد روجي لومار هو المدرّب الفرنسي للفريق الوطني التونسي لكرة القدم، الذي كان يشارك، عند كتابة هذا النّصّ، في نهائيات كأس إفريقيا للأمم بغانا. ولم يحصل أبدا أن وضعت سلطة مدرّب وطني قبله موضع نزاع من قبل كلّ أحد وأيّ أحد، على خلفية من كراهية الأجنبي لا تمتّ بصلة لما يتحلّى به التونسي الأصيل من طيبة أسطورية. وإنّي لأحرص، بتواضع لاعب كرة القدم السابق، على أن أحيّي، بهذا النّصّ، هذا الفنّيّ الكبير الذي لم أعرفه ولا رأيته قطّ خارج إطار الشاشة الصّغيرة. لعلّه يجد فيه بعض اعتذار باسم تونسيين يعشقون كرة القدم، ويبقون دائما عقلاء. (المؤلّف)
شروح أخرى للقراء من خارج تونس والمغرب العربي:
*ترانسفرسال: العارضة بالفرنسية / *البتاتي : ج. بتيّة وهي صهريج ينقل فيه الماء/ *توليع الفيراج : اشعال النار في المدارج / *البسكلات : الدّراجة / *حيّ درابك : عبارة دارجة للإشارة إلى أن الحكاية فارغة / *القطّوس : القطّ والقطيطس تصغير له / *المريول : القميص / *جوكار : ورقة لعب صالحة لتعوض كلّ الأوراق الأخرى / *أصبّ بك الصّبّة : أشي بك /*يخمجونها : يقترفون كلّ القذارات / *المحقرانيّة : الاحتقار / *الصّوردي : أصغر قطعة من العملة الفرنسية في عهد الحماية / *الفتلة : الخيط

--------
للتعليق على هذا النّصّ، انقر على الرابط المشير أسفله إلى عدد التعاليق. ستنفتح أمامك نافذة لكتابة تعليقك. اتّبع بعد ذلك الإرشادات لنشره.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

القصة والتراث

تكريم الهكواتي

أنا أيضا ... حوماني