1من53- برج المرمّة

سنتي على جناح السّرد – النّص 01 من 53 – 8 فيفري 2008

برج المرمّة



"آش تعمل لعمرك يا بنيتي ؟ برجك بالمرمّة". هكذا كان ردّ أمّها دائما على شكواها من ضيق الحال.
كانت بطاقة هوية الأم تحمل عبارة "لا شيء" في خانة المهنة. أمّا الأب فكان "خدّام حزام" كأبرع ما يكون من لا صنعة له ولا صنيع. وهكذا امتلكت شرعية وراثة جينات الخدمة والطّاعة في أدنى سلّم التنفيذ.
كان لا بدّ لبنت "المرمّاجي" من أن تترك مقاعد الدّرس وتشتغل خادمة في المدينة. فبرجها ما كان برج الأسد، كما علّمها أبناء سيدتها أن تقرأ في جرائدهم ركن "حظّك اليوم"، ولكن برج المرمّة. وإذ كان برج المرمّة يقتضي الانضباط للأوامر، فقد تعلّمت أن لا تقول لا أبدا.
حتّى أوّل قبلة أعطتها لرجل كانت وفقا لأمر لا طاقة لها على رفضه. ولم تكن تنتظر من أمّها ردّا على شكواها سوى: "آش تعمل لعمرك يا بنيّتي..." إلى آخر سورة المرمّة. فكان لا بدّ أن تجعل من قبلاتها المغتصبة درعا تذود به عن كلّ ما يبقي جسدها، حتّى يجيء نصيبها. وكان طبيعيّا أن تلقى النصيب، فجأة، في ... مرمّة.
*****
كان مخزن بصدد البناء في جنان سيّدها مترامي الأطراف. وكان يساعد البنّاء خدّام شابّ، مشهود لحزامه بالباع والذراع. فكانت كلّما قدّمت الشّاي تشعر بنظراته المختلسة تثقب ظهرها معبّرة عن شهوته التي لا تقاوم.
فما كادت الأشغال تنتهي، حتّى خفق له قلبها. فانقضّت عليه بكلّ ما تملك من نهم وتوق إلى الانعتاق. قال لها: سأحميك من كلّ أمّار بما لا تطيقين. فكانت فرحتها لا توصف وهي تطيب له عن كلّ مهر.
هو أيضا لم يكن يؤمن بتوارث جينات المرمّة. لذلك سمّيا ابنتهما أميرة، وتعاهدا على استئصال المرمّة من جيناتها. قال لها: سأصبح بنّاء صاحب صنعة لأوفّر لها أسباب الإمارة. فقالت له: عهدا عليّ أني حليفتك على الأيام.
ما كاد يكتشف أوّل أسرار صنعة البناء، حتّى اكتشفت الأيّام سرّ تحالفهما. "من كان برجه بالمرمّة يموت في سطل بغلي". هكذا جاء في أقوال الأوّلين. وهكذا كان، ذات مرمّة شاهقة الصّقالة.
*****
لم يكن لها وقت للحداد. ما أن تفرّق المعزّون حتّى جلست عند قبر الراحل وجدّدت له العهد: لن أعود إلى القرية ولا إلى الأمّارين بما لا أطيق. وسأوفر لأميرتنا صولجان إمارتها كما عاهدتك، أيّا كان الثمن.
حملت على ظهرها علبة كرتون بها من الحلوى والكاكي وبذور عبّاد الشمس والسجائر، وخرجت تطوف بتجارتها الصّغيرة شوارع العاصمة. فكانت لا تتوقّف عن الكدح صباحا ولا مساء، ولا حتّى أيّام الأحد.
كانت تصطحب أميرتها إلى الحديقة العمومية، لا تبالي بحرّ ولا بقرّ. حتّى إذا كبرت قليلا صارت تتعلّم منها أناشيد الأطفال والقرآن وتعلّمها كيف ترجع الصّرف لزبائنها الصّغار. كانتا تحسبان كلّ ملّيم وتحلمان معا بكيفية تصريفه.
ولكن ما كلّ مرّة كان يستقيم الحساب. فقد كادت تسحب أميرة من روضة الأطفال لعجزها عن دفع المصاريف، لولا أنّ عاملة هناك أمّنت لها دعم فاعل خير مجهول سيتولّى الدّفع بدلا عنها حتى آخر السّنة. ومع ذلك ما كان ريع تجارتها ليكفي سدّ الرّمق وشراء أدوات دراسة أميرة بالقسم التحضيري، على زهد ثمنها.
*****
سألت نفسها: وكيف ستكون الحال في السنة القادمة، حين يكون عليّ مواجهة مصاريف المدرسة الابتدائية ؟ تذكّرت قولة أمّها: "آش تعمل لعمرك ..." إلى آخر سورة المرمّة، طبعا. ودون مزيد تفكير، محت برج الأسد من خارطة طالعها وقنعت ببرج المرمّة. لكن لها وحدها دون أميرة.
هكذا أقنعت نفسها بقبول عرض الغريب. هي أرملة لم تَعِد بشيء أكثر من الحفاظ على إمارة ابنتها. وكل شيء يهون في سبيل وفائها بالعهد. تركت علبة الكرتون قرب أكياس الإسمنت الملآنة، وولجت إلى حيث تُفترش الأكياس الفارغة. وحين عادت إلى علبتها، بالغ العمّال في إكرامها فاشتروا منها كلّ السجائر التي كانت عندها بثمن جدّ محترم ...

حتى كان ذات عشية أحد. وقف الغريب أمام نصبتها في الحديقة العمومية. فاشترى كلّ السجائر وطلب المزيد. قالت له إنّ البنية مازالت أصغر من أن تستطيع حراسة النّصبة وحدها. لكنّ بسمته قالت لها بكلّ حزم إنّ شغلهما في المرمّة وقته ضيّق جدّا. فكان عليها أن تتذكّر واجب الانضباط وتنسى إلى الأبد قول "لا". إلاّ فيما يتعلّق بابنتها التي لا ينبغي أن تشكّ لحظة في أمر تجارتها الجديدة.
*****
تربّعت أميرة لأوّل مرّة على عرش إمارة أمّها. كم مرّ من الوقت ؟ وهل باعت شيئا ممّا حوته علبة الكرتون ؟ كلّ ما تدريه أنّ حالة من الفزع تملّكتها فجأة حين هطل المطر مدرارا، وهرع كلّ من في الحديقة للاحتماء تحت أقرب مسقَّف.
كاد قلبها يقفز من قفصها الصّدري حين حوصر المكان من كلّ جهة. فقد كان نصفها الأسفل عاريا تماما حين اقتحم عليها أعوان الشرطة "برّاكة" المرمّة في الطرف الآخر من المدينة.
حين كان الأعوان يقودونها والغريبَ وزبائنَهما إلى مركز الأمن، عبثا توسّلت إليهم حتّى يعرّجوا على حيث تركت أميرتها. إلاّ نّهم أصرّوا على أن لا حقّ لهم في الخروج من منطقة نفوذهم التي لا تمتدّ إلى الحديقة العمومية.
*****
بعد أكثر من شهر، حين اقتاد العمدة أميرة، أخيرا، إلى تلك القرية، المعلّقة في الجبل، لم تكن تنتظر أن تجد في استقبالها جدّا يخفي عن العمدة دموعه ولا جدّة تسألها بكلام غريب : "إنت زادة بنيّتي، برجك بالمرمّة ؟ "


الهكواتي – تونس

--------
للتعليق على هذا النّصّ، انقر على الرابط المشير أسفله إلى عدد التعاليق. ستنفتح أمامك نافذة لكتابة تعليقك. اتّبع بعد ذلك الإرشادات لنشره.

تعليقات

‏قال غير معرف…
هي حالة اجتماعية مألوفة في وطننا العربي والعالم الثالث
النجاة من براثن الفقر وايجاد ممر ضيق لفرصة حياة كريمة محفوفة بالقهر والذل ودفع ثمن باهظ من كرامة وأمل والانسلاخ عن الذات
حماية الابناء من هذا الارث غالبا ما ينتهي بتكرار الاحداث والمعاناة نفسها
هناك مثل يقول دعارة الغني وموت الفقير لا يعلم بهما احد..
بداية موفقة في نص بسيط يحمل الكثير من المصداقية
برج المرمة يحاكي المشاعر ويطرح مشكلة ازلية تحتاج الى الرعاية والدعم


مع تحياتي
محاسن الحمصي

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

القصة والتراث

تكريم الهكواتي

أنا أيضا ... حوماني