دمعة الفراشة

سنتي على جناح السّرد – النّص 04 من 53 – 29 فيفري 2008



دمعة الفراشة


لست أدري إن كانت لطخة الضّوء الأصفر على جدار حديقتك تفاجئني، في هذه اللحظة، بنفس القوّة التي فاجأتني بها من أشهر خلت. ولكنّها تسمّرني في مكاني، تماما كما سمّرتني، من أشهر خلت.

حالما أفرجت ما بين ستائري لألقي، قبل أن آوي إلى فراشي، نظرتي اليومية الأخيرة على شبّاك غرفة نومك، فهمت أن البركان الذي كان على وشك أن يهدأ، ثار من جديد.

فهذه لطخة ضوء أصفر، نفس لطخة الضّوء على نفس الجدار. هي هناك، مرّة أخرى، لتنبهني، إلى أنّك، لئن أطفأت نور سهّارتك، فإنّك لم تخلدي إلى النّوم ككلّ ليلة، منذ أشهر خلت. أعرف أنّ الوحدة قاتلة لمن ذاق بعدُ طعم طّيّب الرّفقة، مثلما ذقتِ وذقتُ. لذلك ما أغضبني خروجك ولا أثار فيّ غيرتي، بقدر ما أذاب قلبي شفقة عليك.

تعلمين ألاّ أحد تسعده جرعة سعادة عذبة تروي عطشك، أكثر ممّا تسعدني، ولو كنت وحدي من يدفع ثمنها من مرارة الجفاف في قاع حلقي. ولكم أتمنّى في هذه السّاعة المتأخّرة، والعينان منّي تتوهان في لطخة الضوء الأصفر تلك، أنّك إنما هرعت، لشرب كأس جديدة أنقى وألذّ. وكم يملؤني الرّجاء في أنّك إنّما هببت للقاء ضياء الفجر الجديد، الذي طالما تمنيته لك صادقا، منذ فهمت أنّ شمعتي الضئيلة لن تقدر أبدا، مهما عظم حرصي، على تعويضك عن توهج طبيعيّ في الحبيب الأوّل.

ولكن هذه دقات قلبي تتسارع كما لتنبئني بأنّك قد عدت، للمرة الألف، للاكتواء بذات النّار التي أحرقت قبلك ملايين الفراشات. قد تكونين الآن في ذروة انتشائك بسعادة مهداة من لحظتك المحمومة المختطفة من زمن، تعلمين جيّدا أنه لن يعود أبدا. أو لعلك الآن تمشين مرتعدة الأطراف تحت هذا الرّذاذ الصّقيع، تجترّين مرّة أخرى، خيبة لقائك الألف معه، والقلب منك يملؤه الحقد على امرأته الجديدة. ولا ذنب لهذه السّيدة المسكينة إلاّ قبول لجوئه إليها في وقت اخترت فيه أنت أن تعرضي عنه.

بل لعلّ غضبك الشديد عليها قد طالني أنا أيضا. ولعلّك الآن، للمرّة الألف، تصبّين عليّ جمّ لعناتك ندما على ذلك اليوم الذي شهد هروبك من بطشه أوّل مرّة، ولجوءك بمحض الصّدفة إلى بيتي.

قد يكون هذا وقد لا يكون. أمّا أنا، فسأظلّ واقفا هنا، خلف ستارة شبّاكي، أنظر إلى تلك اللطخة من الضوء الأصفر، وأتقلّب على جمر هواجسي. لأنني دائم الخشية عليك من سياقة الليل ومن توتّر يديك إذ تمسكان بمقود سيارتك. وهناك في هذه اللحظة شيء ما يسرّ لي بأنّك قد تكونين بصدد قيادة سيّارتك، كما اتّفق، على طريق مبللة.

هنا سأبقى، لانتظار عودتك، لانتظار زاول لطخة الضّوء الأصفر عن جدار حديقتك، كما انتظرت من أشهر خلت. عندها قد أنزل لأتفقّد ما إذا لم تتعمّدي نسيان باب بيتك منفرجا... كما نسيته من أشهر خلت. وعندها، لعلّي يا جارتي الشّابّة وزوجتي السّابقة... لعلّي أدلف وراءك مرة أخرى، إلى داخل بيتك، قانعا بمسح آخر دمعة من عينيك قبل أن تستسلمي إلى النّوم متوسدة ركبتي، كما حدث من أشهر خلت.

الهكواتي - تونس

تعليقات

‏قال غير معرف…
لعلّي يا جارتي الشّابّة وزوجتي السّابقة... لعلّي أدلف وراءك مرة أخرى، إلى داخل بيتك، قانعا بمسح آخر دمعة من عينيك قبل أن تستسلمي إلى النّوم متوسدة ركبتي، كما حدث من أشهر خلت.

نهاية تلخص كل الكلام ..الألفة ..الحنين ..الصفح والمغفرة من قلب تعذب ، تألم لأشهر قد خلت ..ينتظر عودة الغائب وفراشة لسعتها نار التجربة ..
نص شفاق ورقيق جدا يدخل الاعماق دون تعب ..
mahassen al-homsi

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

القصة والتراث

تكريم الهكواتي

أنا أيضا ... حوماني