بوصلة سيدي النّا... 22 نداء الجليد

سنتي على جناح السّرد 52 من 53 // بوصلة سيدي النّا... 22 من 23– 27 فيفري2009


المسلك الثالث :

بدري في التّمّ

الوجهة الرّابعة :

نداء الثّلج

"علاقة هذا بالواقع محض خيال"- الهكواتي

هذه الوثيقة خطاب أودعه سفيان الجريدي في صندوق بريد الأستاذة شين باء ميم، محامية المتّهم محمّد الأمجد بن الحبيب بن البحري بريقشة، صبيحة يوم الجمعة 27 فيفري 2009.


صديقتي، عمت صباحا
أكتب إليك هذه السّطور من مقهى "الفنك"، قبالة محطّة الحافلة في مدخل حيّكم. ألجأ إلى الكتابة بعد أن اتّضح لي أنّ الظّرف الذي أحمله إليك أعرض من أن تتّسع لدخوله فتحة صندوق بريدك. رقم الهاتف الجوّال في أعلى الصّفحة، هو لليندا. اتّصلي بها، وستسلّمك هي ظرفا كرتونيّا حرصت على إحكام غلقه بشريط لاصق.
ليندا طالبة من العائلة. هي وخطيبها الآن معي، لتشييعي بسيّارة هذا الأخير. هي لا تعرف عن محتوى الظّرف أكثر من أنّه شيء ذو قيمة عاطفيّة رفيعة بالنّسبة إلينا معا، وأنّه عليها أن تخصّ الظّرف ببالغ عنايتها وتحافظ عليه تماما كما أودعته عندها. ولكنّها تعرف عن علاقتنا، في المقابل، فكرة أشعتها في العائلة، منذ اليوم الأوّل، لذرّ الرّماد على الأعين. لذلك أرجوك المعذرة، إذا حصل أن دفعها فضولها فطرحت عليك بعض الأسئلة التي قد تحرجك. أنا حريص على أن تكون إجابتك لها غامضة، كأن تقولي مثلا "كلّ شيء بالمكتوب".
لأنّ كلّ شيء فعلا بالمكتوب. ولو لم أكن مقدما على تنفيذ مشروعي الذي سأحدّثك عنه أدناه، لكنت بالتّأكيد فاتحتك، منذ أوّل قهوة صباح شربناها معا في قفصة، في تلك المسألة التي تنتظرين منّي - إن لم أكن مخطئا - أن أناقشها معك. ولكن من يدري يا صديقتي ؟ فالأرض أضحت أصغر من برتقالة. وقد يمكن بفضل المراسلة أن يتاح لنا طرح كلّ المواضيع التي لم نجرؤ على طرحها بعد، لأسباب متعدّدة. ولكنّ هذا يقتضي أن تتوقي إلى تلبية نداء الآفاق الرّحبة مثل ما أتوق أنا.
أرجو أن لا يكون أملك قد خاب بعد. فقد كنت تتصوّريننيّ رجلا صلبا، شفّافا، مالكا لمصيره يعرف جيّدا ما يريد. فإذا أنت في حضرة كائن ملغّز لا يبدو قادرا على السّير مباشرة نـحو هدفه. ولكن، صبرا يا صديقتي.
قد تغضبين لأنّني لم أعلمك باعتزامي المجيء إلى العاصمة، ولا حرصت على مقابلتك ما دمت موجودا بها، ولا حتّى اتّصلت بك هاتفيّا لأسمع صوتك. يمكنك اعتبار هذا جبنا منّي. فمشكلتي الحقيقية أنّني بالفعل جبان شيئا ما، ولكنّني أعتزم مقاومة هذا الجبن وسأكفّر عن ذنبي تجاهك في الأيام القادمة. فقد وصلني عنوان بريدك الألكتروني ضمن إرساليّة قصيرة، وسأستعمله بداية من الليلة لأشرع في شرح كلّ شيء لك. ولكن إذا كان لديك سبب واحد لتغضبي منّي أكثر، فهو أنّني، أثناء لقائنا في قفصة، أو حتّى في مكالماتنا الهاتفيّة بعد ذلك، أخفيت عنك بعض الحقائق وكسوت بعضها الآخر بالأقنعة.
ها أنا أعترف بذنبي، يا صديقتي. وكلّي ثقة في أنّك ستتفهّمين موقفي وستعذرينني. فلكلّ ظروفه، وسأشرح لك ظروفي وأجيب بالتفصيل عن كلّ الأسئلة التي طرحتها عليّ، وحتّى عن تلك التي لم تجرئي على إثارتها إلى الآن. فقط لا تنسي وعدك لي بأنّك لن تستعملي من المعلومات التي سأمدّك بها إلاّ ما كان يخدم صالح محمّد الأمجد بريقشة.
على ذكر بريقشة، بما أنّك ستزورينه قريبا في السّجن، سلّمي لي عليه كثيرا. وقولي له إنّني لئن كنت للأسف لا أملك الشّجاعة الكافية لأزوره بنفسي، ولا لي أيّ صفة تخوّل لي أن أطلب مقابلته، فإنّني فخور بأن كنت في مستوى الثّقة التي وضعها في شخصي. ولكن، مهما يكن من أمر، فإنّني أريدك أن لا تتخيّلي أيّ رابط سببيّ بين قضيّة بريقشة وبين الخبر الذي تأخّرت في أن أسوقه إليك، أو بين هذا الخبر وبين قبولي التحدّث إليك عندما جئت إلى قفصة، وخاصّة أثناء جلستنا المطوّلة، في تلك العشيّة، في مقهى وادي الباي، حينما كان يعجّ بالمحامين القادمين من العاصمة من أجل المحاكمة، وكذا بالمخبرين الذين كانوا يراقبون كلّ ما كان يحدث هناك.
لا أريدك أن تشعري إطلاقا بأيّ ذنب في ما يحدث لي، أو أن تتخيّلي أيّ تأثير للقائنا على وضعي المهني، ولا على اتّخاذي القرار في الاتّجاه الذي اخترته في النّهاية. ولكنّ الأحداث تتسارع من حولنا أحيانا بما يحوّل مجرى حياتنا تحويلا جذريّا في أشهر، بل في أسابيع قليلة. ولم يكن لقاؤك إلاّ واحدا من تلك الأحداث التي يفرزها تسارع إيقاع الحياة في مثل هذه الحال، أو تلك التي تنصهر بطبعها ضمن مجرى ذلك الإيقاع، إلى حدّ أنّها تبدو سببا في تسريعه. فقراري حسم مجرى حياتي على هذا النّحو، كان يطبخ على نار هادئة منذ وقت طويل.
سأبدو لك معقّدا بعض الشّيء. ولكنّني، وقد صُدمت ببعض الممارسات التي بدت لي خرقاء، قرّرت أن أسدّي شبكتي في صمت مطبق ولا أبوح بأمرها لأحد. فقد كنت عشيّة أمس في مكتبي كما لو أنّ شيئا لم يكن على وشك الحدوث. وهذا الصّباح، لم يخاطبني أحد منهم بالهاتف بعد، ولكنّني أفترض أنّهم يتصوّرونني مريضا. سيكون تخلّيا عن العمل بأتمّ معنى الكلمة. حتّى أختي لا تعرف أين أنا الآن ولا إلى أين أذهب. ستعلم عن طريق رسالة، ستحملها إليها ليندا عند عودتها غدا إلى الرّديّف.
لم تلاحظي عليّ شيئا من هذا يا صديقتي. ولكنّني كنت أشعر بالاختناق حيث كنت. فقد اكتشفت، منذ التحقت بالإدارة، مدى سذاجتي في مقاربة العمل والعلاقات المهنيّة والنشاط الميداني والحياة عموما. ووقفت على عجزي العضويّ عن فعل أيّ شيء. لا للتّأثير في سير الأحداث ودفعها في الاتجاه الذي أراه سليما. فهذا حلم دفنته منذ الأيّام الأولى. ولكن لمجرّد أن أتعفّف عن هذا النّفاق السّائد الذي يصيبني بالحمّى إذ يغذّي الدّمّل قليلا، قليلا كلّ يوم، لا لشيء سوى المحافظة على امتيازات نـحيلة لا تسمن ولا تغني من جوع.
لهذا، يا صديقتي، وجدتني في حاجة أكيدة إلى استنشاق جرعة من هواء طازج، من هواء بارد، من هواء ثلجيّ إذا لزم الأمر. فأخذتني فجأة رغبة جامحة في تغيير مجرى حياتي تغييرا جذريّا، ما دام في الحياة متّسع. وبدأت أعمل في هذا الاتّجاه منذ الصّائفة الماضية. وقد كان يمكن لمجيئك إلى قفصة أن يدفعني إلى التّراجع في آخر لحظة. ولكن، كان لديّ، على ما أعتقد، ما يكفي من الحكمة، أو ربّما من سوء الطّالع، لأمضي في خطّتي حتّى النّهاية، كما لو لم أكن قد التقيت بك، على أن أعيد تأسيس علاقتنا من الصّفر بالمراسلة.
سمّي فعلتي المجنونة هذه كما يحلو لك. اعتبريها مجرّد قفًا لعملة جبني الأزليّ، اعتبريها امتثالا لقوانين سوق نزيف الكفاءات، أو حتّى "حرقة" جوّيّة لا تدخل تحت طائلة القانون. ولكن، عندما تجدين هذه الرّسالة في صندوق بريدك، تكون طائرتي قد أقلعت بعد في اتّجاه لندن ومنها أتحوّل الليلة إلى مونريال. سأقضّي هناك سنتين أفكّر خلالهما جدّيّا في مستقبلي، وأحدّد مسلكا نهائيّا أتّبعه. ولا أخفي عنك أنّ رأيي قد يستقرّ على الإقامة هناك بشكل نهائيّ.
هذه، يا صديقتي، دفعة أولى من البوح الذي اعتزمت أن أفضي به إليك لما بدا لي بيننا من ميل متبادل ولتقارب رؤانا عموما حول أهمّ الأمور. وقد كان يمكن أن تصلك هذه الرّسالة بالبريد الألكتروني الليلة بالذّات. ولكنّ الظّروف شاءت أن أكتبها على ورق اشتريته من مكتبة حيّكم. كان يمكن أيضا أن أكتب لك أكثر لو لا أنّ ليندا وخطيبها قد بدآ يستعجلاني حتّى لا يفوتني موعد الطّائرة.


لذلك فهذا عنوان بريدي الألكتروني. ربّما وصلني منك ردّ قبل أن أبرح مطار لندن هايثرو، من حيث تنطلق طائرتي في الساعة السابعة و خمس دقائق مساء.
كلّ صداقتي وأكثر بكثير إن كنت راغبة.
سفيان الجريدي
sofianova-tn@hotmail.com

الهكواتي .../... يتبع

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

القصة والتراث

تكريم الهكواتي

أنا أيضا ... حوماني