بوصلة سيدي النّا... 19 زقاق الصّمت، عدد 3

سنتي على جناح السّرد 49 من 53 // بوصلة سيدي النّا... 19 من 23– 06 فيفري2009


المسلك الثالث :

بدري في التّمّ

الوجهة الأولى :

زقاق الصّمت، عدد 3


"علاقة هذا بالواقع محض خيال"- الهكواتي


ليس كباب تونس مجرى تهبّ عبره الرّياح.
معروفة رياح باب تونس. تهبّ دائما... وهكذا دواليك، إلى آخر ما سلف من القول:

اتّجاه واحد...
دخول ولا خروج...
عبور...
انكسار ...
انـحدار مع النّهج...
صدى لا يصل أبدا...
اصطدام بالسّور الأصمّ ...
انـحراف ...
"اسكت، اصمت، أغلقْ، سدّ"... و"الباب الذي يأتيك منه الرّيح..." و.... تعرفون الحكاية كاملة فلا فائدة من اجترارها مجدّدا. ولكن، الأمر مختلف هذه المرّة. فالمعنيّ بالأمر سكت عن الكلام تماما، حين فهم أنّ خيط حكايته أفلت نهائيّا من بين يديه.

*****

سكت محمّد الأمجد بريقشة نهائيّا. فمن قائل إنّه لم يتحمّل الضّغط فأصيب بالخرس الكامل. ومن قائل، بالعكس، إنّه ليس في الأمر خرس بل صمود، إذ أنّه يرفض أن يقول ما لم يكفّ المحقّقون عن السّعي إلى توريطه في جرائم لم يرتكبها. ومن قائل إنّهم يئسوا من أن ينتزعوا منه أي اعتراف، فتركوا سبيله، وانتهوا بإيوائه مع ذوي الأمراض العصبيّة المستعصية. بل إنّ هناك من يدّعي، في رواية أخرى، أنّ بناية-مخبرا أنشئت مخصوصا من أجل محمّد الأمجد بريقشة، وأنّه يقيم فيها اليوم تحت المراقبة، كفئران التّجارب، حتّى تجرى عليه فحوص معمّقة وتجارب معقّدة في إطار دراسة متعدّدة الاختصاصات هدفها إيجاد حلّ جذري لمشاكل جيل بأكمله.
كلام كلّ هذا. كلام تذروه كلّ ريح بعيدة. أمّا الثابت في كلّ الأحوال، فهو أنّ محمّد الأمجد بريقشة، سواء رفض النّطق من تلقاء نفسه أو دفع إلى الصمت دفعا أو أصيب فعلا بالخرس، فلقد كفّ نهائيّا عن أن يكون له صوت يسمع. والثّابت في كلّ الأحوال، هو أنّ زنقة بريقشة لوحدها، أصبحت اليوم تعُدّ من البكم ثلاثة. والحمد لله على أنني لست بارعة في الحساب وإلاّ لانشغلت بعمليّات معقّدة لعدّ أزقّة المدينة ومراقبة حركة زحف الصّمت عليها على ضوء نسبة زحفه على زنقتنا.
لك الله يا محمّد الأمجد، يا ولد جارتي. لك الله في محنتك، صارت لا تعني سواك. لا معين لك فيها ولا نصير غير محامية متربّصة، تروح وتغدو بين أروقة السجن وزنقة بريقشة. لا معين غيرها ولا نصير، بعد أن رفعت أختك الوحيدة يديها وأعلنت عجزها عن مزيد الانشغال بأمرك. لا معين غيرها ولا نصير، تخاصم من أجلك، وتجوب البلاد، تبحث عن دلائل تثبت براءتك، وعمّن قد يكون رآك تعبر أو تقيم، فيتطوّع للإدلاء بشهادة من أجل الحقيقة وحدها. ثمّ لا معين غيرها ولا نصير، يؤمن بوجود بوصلة تركها لك سيدي النّا... فأضعتها أو سرقت منك في الطّريق.

*****


الثّابت في كلّ الأحوال أنّ صاحب الشّأن سكت. فلماذا إذًا أنتظر من رياح باب تونس أن تواصل الهبوب في نفس الاتجاه ؟ لا حاجة لعرّاف يبيّن أنّ الرّياح ما عادت هي الرّياح، وأنّ الباب السقيفة ما عاد هو الباب السقيفة، وأنّ الزّمان ما عاد هو الزّمان. ما عادت رياح باب تونس تهبّ كما ننتظر منها الهبوب، ولا هي عادت تتّجه إلى حيث نشتهيها أن تتّجه، ولا عادت حتّى تهبّ كما تشتهي لها تلقائيّة تموّجها أن تهبّ. لم يعد معبر الباب السّقيفة وحده ما يغيّر مجراها. فقد أُعدّت لرياح باب تونس، من حيث لا نعلم، مسالك أخرى، وقنوات أخرى، وذبذبات أخرى، تحمّلها في كلّ مرّة بما هو منتظر وبما يمكن أن ينتظر وخصوصا بما ما لا ينتظر أصلا. والويل لمن تعوّد على هبوبها فقط في صالحه. الويل لمن لا يزال ينتظر منها الخير وحده. فهو يبني على فراغ. ومن لم يعاشر الفراغ بعد، فليأت ليسمع البّيه صبريّة إذ تحدّث عنه.
الثابت في كلّ الأحوال أنّ صاحب الشّأن سكت. فما حيلة الواحدة منّا إذ تضجّ منها الرّئتان ولا يجد الصوت حبالا تتشبّث بها الآهات للخروج ؟
لك الله يا خدّوجة يا امرأة بريقشة. حملت وولدت وربّيت... وصبرت حتّى تري من كبّرت. ثمّ لم يكن من القدر إلاّ أن جازاك بحرمانك من ضناك وهو حي يرزق. ثمّ لم يكفه ما نالك، فزادك شللا على خرس وصادر منك حرّية الحركة وحقّ اتخاذ القرار بشأن مصيرك. وها أنت ذي يا جارة العمر تحت الوصاية. ها أنت مكرهة على الإمضاء على ورق أبيض حسب مشيئة ابنتك، ثم على الرّحيل عن بيتك وفي القلب منّك غصّة.
لك الله يا جارة العمر حيث انتقلت، أمّا أنا فقد بقي لي من بعدك الواحد الأحد. بقي لي الرّحمان الرّحيم. وبقي لي أيضا كلّ هذا الفراغ الذي تتركين، فتضيق به هذه الزّنقة بديارها الثّلاثة التي فقدت الرّوح إلى الأبد.

*****
حين هبّت الرّياح بخبر تملّك صوّانة بدار بريقشة، لم تكن المحامية قد أعلمت رشيدة بعد بنتائج الاختبارات النّفسية التي أخضع لها أخوها. كانت رشيدة في الشهر الثّامن من حملها. وفي إحدى الليالي رأت كوابيس أخرجتها من فراشها في قميص النّوم. فرّت من غرفتها صائحة تخترق الفناء إلى السّقيفة ومنها إلى الزّنقة. وكانت ستوقظ، بصراخها، أهالي باب تونس قاطبة. ولولا عون الله، لما تمكّن زوجها العيّادي التوهامي من اسكاتها ولا من السّيطرة على هيجانها وإرجاعها إلى فراشها.
وككلّ مرّة هبّت فيها رياح باب تونس بما لم نكن نشتهي، أفقنا، من الغد، عل شائعة هذه الجنّيّة التي جرفت الآلات مسكنها في السّواني فقرّرت الانتقام من أصحاب الأرض بتملّك دارهم في باب تونس. وسرعان ما قطعت رشيدة الخطوة الحاسمة في اتجاه القول إنّ الجنّيّة استقرّت في دار بريقشة بسبب الأشغال الجارية في سانية صوّانة. وسرعان ما اقتنعت بأنّ هذه الجنّيّة بالذّات قد استقرّت في غرفتها فأخذت تقضّ مضجعها وتنبّه عليها في كلّ ليلة بأنّها لن تسمح لها بالولادة في هذا المحلّ الذي صار محلّها ولم يعد يحقّ لأحد أن يقاسمها الإقامة به ما عدا محمّد الأمجد طبعا. بل إنّ الجنّيّة صارت، على ما تقول، تمنعها من النّوم تماما، وتهدّدها بأنّها إن أغمضت عينيها فسيكون عقابها موت جنينها في بطنها.

ولم ندر كيف تفاقمت أزمة رشيدة دون سبب ظاهر، فإذا عندها حساسيّة مفرطة من مجرّد ذكر اسم أخيها الذي طالت قضيّته حتّى ثقلت عليها بما لم تعد تطيق. وإذا هي تقدّر ألاّ أحد غير مجدة كان سببا في ما يحصل لها، وأنّه هو من كلّف جنّيته صوّانة بأن تنغّص عيشها عقابا لها على أنّها لم تصدّق وجود علاقة جدّية تجمعه بها أو على أنّها أقدمت على الزّواج من العيّادي التّوهامي دون انتظار عودته.
وبتفاقم أزمة رشيدة، كان لزاما على العيّادي التّوهامي أن يعرضها على عرّاف من بلدته، مازالت الصّحف تنشر صوره كلّ يوم، وتشيد بكراماته. فإذا العرّاف موافق لها على طول الخطّ ذاهب مذهبها في تأويل كوابيسها. وإذا هو يؤكّد لها أنّها لن تستطيع الوضع ما لم تقطع كلّ صلة لها بدار بريقشة. حتّى أنّه نصحها بأن تنتقل بالسّكنى إلى خارج السّور. وسمح لها باصطحاب والدتها معها شريطة أن لا تبقى لها هي الأخرى أيّ صلة بالدّار المتعيّن هجرها.
وهكذا أخذت رياح باب تونس تهبّ بسرعة جنونيّة خلّفت في زنقة بريقشة فراغا لا يمكنني إلى السّاعة تقدير مدى عظمته. كانت في زنقتنا دار مهملة من سنين. دار زينوبة. تقشّر كلّ جصّ الجدار في واجهتها حتّى ظهرت من تحته الحجارة. وتشقّق باب الدّار وانطفأ لون طلائه الذي كان أزرق في ما مضى، على ما أذكر. ولم يبق واضحا للنّاظر على الباب سوى الرّقم "واحد" مكتوبا بالأبيض على صفيحة حديدية كانت في الأصل زرقاء داكنة وما تزال مثبّتة في أعلى المصراع الأيمن. لم يخطر ببالي أبدا أنّ هذا الرّقم كان منذ الأزل يخفي هذه الدّلالة المرعبة، وأنّ إهمال دار زينوبة لم يكن أكثر من مجرّد بداية لنهاية آتية لا محالة.
بعد أن نـجحت في كبت كلّ أحاسيسي وأنا أعانق خدّوجة طويلا، وبعد أن حملتها مع رشيدة لمساعدتها على ركوب السّيّارة، وبعد أن راقبت انطلاق الشّاحنة الأخيرة المحمّلة بالأثاث، إلى أن غابت في النّهج المفضي إلى خارج السّور. أخذت أتأمّل الرّقم "اثنين" على باب دار بريقشة وقد أغلق نهائيّا. ثمّ التفتّ إلى الباب المحاذي الحامل الرّقم "ثلاثة" فلا أستطيع منع نفسي من البكاء. فالدّار الثالثة دارنا. وهي الأخيرة التي بقيت مسكونة في الزّنقة، تماما كما أنّني الوحيدة التي بقيت على قيد الحياة من كامل عائلتنا.
زنقة بأسرها للبّيه صبريّة، لامرأة بكماء معزولة حتّى عن جيرانها الأقربين، لا يحمل لها هبوب الرّيح غير مزيد من الوحشة والخوف ممّا سيكون عليه الغد.
فأيّ مآل لي غيرك يا زنقة الصّمت ؟
وأيّ حومة لي غيرك يا باب تونس ؟
وأيّ فضاء يقبل بالبّيه صبريّة، إن أنا تجرّأت على الرّحيل ؟

*****
أيّ ريح أتت بعامر البينتو إلى باب تونس ؟
هل صحيح أنّه لم يكن يعلم ؟
وما الذي جاء يبحث عنه بالضّبط في دار خالته ؟
بعد مرور أكثر من شهر على رحيل جارتي، وبعد أن بدأت أتعوّد على وحدتي في زنقة الصّمت، حلّ عامر البينتو دون أيّ مناسبة. أوقف سيّارته أمام الزّقاق وأخذ يزمّر بقوّة حتّى أخرجني من مطبخي والقدر على النّار. قال لي إنّه جاء يستلطف لخالته ويعزّيها عمّا آل إليه مجدة من جنون. "جنون يأخذ عقلك أيّها الفاجر،" قلت في نفسي.
وانطلق عامر البينتو يسبّ رشيدة وزوج رشيدة على تركهما دار خالته مغلقة دائما. ويصرخ في وجهي طالبا أن أفتح له الباب كما في المرّة السّابقة. الحمد لله على أنّني خرساء. أفهمته بالإشارة أنّ الباب أقفل نهائيّا وأنّ الجماعة هربوا من الجنّية وانتقلوا للسكنى في مكان بعيد. ولكنّني تعمّدت أن تكون إشاراتي غامضة وأنا أتظاهر بإرشاده إلى العنوان حتى لا يستطيع تحديد المكان الذي انتقلوا إليه.

فرشيدة تكره عامر البينتو حدّ الموت. وأنا أعرف أنّها لا تريده أن يزورها في بيتها الجديد الذي لم يعد بيت خالته على كلّ حال. أنا أيضا لا أحبّ هذا الكلب، بل هذا الحلّوف المسمّى عامر البينتو. حين يئس من فهم إشاراتي، سبّني وامتطى سيّارته وانصرف. هكذا هو، يطلب منك خدمة بلهجة الآمر، وحال ما يحصل عليها يهينك مباشرة. أنا بصراحة فرحانة لكارلا بيكولو بانفصالها عنه. استراحت منه المغبونة.
إذا صحّ ما قيل فقد تكون كارلا بيكولو دفعته إلى بيع كلّ ما يملك بما في ذلك بيت أبيه في الرّبط، ثمّ صفّت كلّ أملاكها هنا، ورحلت إلى بالرمو نهائيّا، لتتركه لاجئا في دار العجل، بلا أيّ مورد رزق. هذا على الأقلّ ما يقال. هي طبعا رياح باب تونس تنفخ في الكلام على طريقتها. ولذلك فهناك أيضا من يقول إنّ البينتو ما يزال يعيش سعيدا مع زوجته الطّليانة.
ولكن هناك من يعتقد أنّهما انفصلا عن بعضهما فعلا، ولكنّه يؤكّد أنّ الطّلاق تمّ بالتّراضي، وأنّ عامر البينتو هو الذي خرج منه الرّابح الوحيد، إذ أنّه اقتسم مع كارلا بيكولو ثروتها بالتّساوي. أمّا عن بيعه دار الرّبط والمطعم العائم، فيقال إنّه مجرّد تجميع لثروته في حساب واحد، للاشتراك بها مع النّاجي العجل في بناء مركّب ترفيهيّ على أرض سانية صوّانة، يتكوّن، على ما يقال، من خمس عمارات مجهّزة بجميع المرافق تجمع بين الشّقق السّكنية والمحلات التجارية والمطاعم والمقاهي.
كلّ هذا كلام يقال طبعا. ولكنّ الشائعة الأكثر تداولا تفيد بأنّ الطّلاق حصل فعلا وبأنّ راضية بنت كحلة هي التي كانت المحرّضة الأساسيّة عليه. ما أعرفه عنها هو أنّها، من أصلها، خطّافة رجال. يقال إنّها زيّنت لعامر البينتو التّخلّي عن أجنبيّته العجوز، وطمّعته بالزّواج من شابّة في عمر الزّهور. فاستطاعت هكذا أن تلعب بعقله حتّى جرّته إلى الاعتراف بحفيدتها اللقيطة ميارى.
ما أعرفه أنا، وقد كنت حاضرة، هو أنّ راضية جاءت إلى خدّوجة بعد أن شاع خبر غرق مجدة. وقد صدمت الجميع، يومها، بادعاء حمل ابنتها من الغريق. وحلفت بأغلظ الأيمان أن لا أحد لمس ابنتها غير محمّد الأمجد بريقشة، وأنّ عيشوشة نفسها، عليها الآن رحمة الله، أعلنت عن وجود هذه العلاقة وأصرّت على الاحتفاظ بالجنين وفاء لروح من كان يعتبر في عداد الأموات. وما زلت أذكر أنّ بعض البنات من خارج السّور تولّين الدّفاع عن عيشوشة ورأين فيها مثالا للشّجاعة ورمزا للدّفاع عن حرّية الإنجاب. إذ أنّها أصرّت بعد الوضع على أن تعيش مع ابنتها لتربّيها بمفردها وتتحمّل مسؤوليّة اختيارها.
أعرف أن كلّ هذا يجعل إقحام عامر البينتو في مسألة ميارى صعب التّصديق. ولكنّني أعرف أيضا قدرة راضية بنت كحلة على المناورة وتغيير الخطط من النّقيض إلى النّقيض. فما دامت لم تجد طريقا إلى إلصاق اللقيطة بمحمّد الأمجد بريقشة، وطالما أنّ غايتها كانت فرض الزّواج على ابنتها بأيّ ثمن، فأي حرج كانت ستجد في البحث عن أب لحفيدتها، باختلاق أيّ خرافة أخرى مع أيّ رجل آخر غير مجدة ؟ وإلاّ فلماذا راج أنّّ عيشوشة لم تمت بسكتة قلبيّة كما قيل للنّاس، وإنّما انتحرت ؟ ولأنّها قد تكون أكرهت على إمضاء عقد زواجها، فإنّها وضعت حدّا لحياتها حتّى لا يحصل أبدا أن يوجد عامر البينتو في غرفة مغلقة عليهما معا.
بل إنّه يقال - اللّطف يا صاحب اللّطف - إنّ راضية ما كادت تدفن ابنتها حتّى دعت البينتو ليسكن في نفس غرفة الميّتة وينام في نفس الفراش الذي انتحرت عليه. كلّ هذا بدعوى أنّ ذلك يجعل البنيّة تتعوّد على أبيها. أمّا ما يدور في بيت النّاجي العجل في غيابه، فالله وحده أدرى به...

*****

... الحمد لله على أنّك بكماء يا بّيه صبريّة... وإلاّ فكم سيكون على رياح باب تونس أن تحمل من حكايا...

الهكواتي .../... يتبع

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

القصة والتراث

تكريم الهكواتي

أنا أيضا ... حوماني