بوصلة سيدي النّا... 21 دائرة الحمار والفراشة

سنتي على جناح السّرد 51 من 53 // بوصلة سيدي النّا... 21 من 23– 20 فيفري2009

المسلك الثالث :

بدري في التّمّ

الوجهة الثّالة :

دائرة الحمار والفراشة

"علاقة هذا بالواقع محض خيال"- الهكواتي

بماذا كانوا يريدونني أن أعترف ؟
وماذا كانوا يريدون منّي أن أقول ؟


واضح بالمنطق أنّني لم أغمض عينيّ على كثيب الرّمل في الصّحراء لأفتحهما مباشرة أمام جامع القادريّة في الكاف. ولكنّ ما كانوا يريدونه هو أن أعترف بأنّني أعرف أشياء عمّا جرى بين هذه اللحظة وتلك وبأنّني حرصت على إخفاء معلوماتي عنهم طيلة التّحقيق. كانوا يريدون تصريحا بأنّني عبرت الحوض المنجميّ أثناء رحلتي، وبأنّني كنت عندها قد استعدت وعيي تماما، وصرت أميّز الشّمال من الجنوب والشّروق من الغروب، وبأنّني، حين حللت بالرّديّف، وجدت المدينة تغلي غليان بركان، وبأنّني، لخبرتي الطّويلة بالبطالة والخصاصة وانسداد الآفاق، كنت أفهم جيّدا تلك الأناشيد التي كانت تردّدها الجموع.
وماذا أيضا ؟
هل كان عليّ أن أقول لهم أيضا، إنّه كان يمكنني أن أنضمّ إلى هؤلاء الغاضبين وأن أغنّي معهم كلّ أناشيدهم لو لم أكن منشغلا بالبحث عمّن يأخذ منّي بوصلة سيدي النّا... أو يقرّبني بضع كيلومترات من تازغران ؟ أم هل كانوا ينتظرون أن أبيعهم جلد سفيان الجريدي، فأقول إنّه تعرّف عليّ وكأنّنا بقينا على صلة بعد تخرّجه من الجامعة، وأنّه أنقذني من موت محقّق وآواني حتّى شفيت ؟
ماذا كانوا يريدون منّي أن أقول ؟
أنا لم أكن أكذب حين قلت إنّني نسيت، أو إنّني مررت بما يشبه بؤرة سوداء، تتّخذ اليوم شكل صفحةٍ مُحيت تماما من ذاكرتي. ولم أكن أبدا أخشى من قول كلّ الحقيقة في ما يخصّني. فما الذي كان يمكن أن ينالني منهم، أكثر ممّا نالني حتّى الآن ؟ وما الفرق بين السّجن الذي كانوا يعدّونه لي، وبين زنازين الصّمت المطبق التي لجأت إليها باختياري ؟
لم أكن أكذب، ولكنّني رأيت الشّهامة تتحرّك في سفيان يوم رأى أولائك الرّهط ينهالون عليّ بالعصيّ الغليظة. في ذلك اليوم، اختار أن لا يتأخّر عن غوثي إذ لجأت إليه، رغم أنّه كان يشتغل بالسّياسة، ويعرف قدرة خصومه على قلب الحقائق وتحويل الهبوب لنجدة بريء، إلى خرق لقواعد الانضباط والتحاق بصفّ الخصم.
هذا رجل أدين له بما بقي من حياتي. فكيف إذًا لا أردّ الشّهامة بقدر أدنى من الشّهامة ؟ كيف أفشي سرّ من أحسن إليّ، وأعرّض مستقبله للخطر ؟
قد أكون نطقت باسم سفيان الجريدي أو كريم أولاد بالعيفي، بفعل الخطأ أو التّسرّع، حين كنت أحاول جاهدا أن أتذكّر الظّروف التي قابلت فيها بشرى التّوكابري. ولكنّني نجحت في أن لا أقول لهم شيئا عن بيت أخت سفيان في الرّديّف، ولا عن ورشة ابن أخته في حومة وادي الباي، ولا عن صديقه الطّبيب الذي ظلّ يزورني هناك أكثر من أسبوع ويداويني حتّى شفيت، ولا عن تلك الليلة التي سطّر خلالها سفيان هروبي من قفصة إلى القصرين، خشية أن يكتشف أمري، بعد أن سمع بعضهم غنائي فوشى له بابن أخته، بدعوى أنّه قضّى كامل الليل يسكر في ورشته مع شباب من العاطلين، ويغنّون أغاني الحضرة ويقضّون مضاجع الجيران.

*****

لست أذكر من قالها عنّي عندما كنت صغيرا. ولكنّني لست بهلولا، ولا "نيّة"، وأعرف أين يخفي الشّيطان بيضه قبل أن يفقس. أنا من خطّطت لأجيء إلى هنا. ويخطئ تماما من يعتبرني غافلا أو يتصوّر نفسه خدعني أو أدخلني إلى حيث لم أكن أرغب في الدّخول. فأنا ولد الرّبط. ولا يعرف هؤلاء الأطبّاء معنى أن يكون أحد ما ولد الرّبط، وولد باب تونس تحديدا. هم يقولون إنّني من أوقعت نفسي في المرض، وإنّ أصل دائي أنّني اندمجت في الدّور وأنا أتظاهر بالجنون إلى درجة أنّني جننت فعلا. ولكن، أليس هذا بالضّبط ما كنت أوحي لهم بأن يقولوا عنّي ؟ أليس اعترافهم بجنوني دليلا على أنّني كنت أذكى منهم، وعلى أنّ حيلتي انطلت عليهم جميعا، وعلى أنّ الذي يقدر على اكتشاف سرّي، مازالت أمّه أصغر من أن تحبل ؟
ما أزال إلى اليوم سليما لا علّة بي، عدا بعض أوجاع الرّأس من حين إلى حين، بسبب تلك الضّربة التي تلقّيتها على دماغي في ذلك اليوم المشؤوم. هذا ما لم يفهموه وما لن أعترف به أبدا، ولا حتّى في شكل سرّ أفضي به لأطبّاء القصر المنيع. فمنذ قرّرت أن أصوم نهائيّا عن الكلام، هزمت الجميع بالضّربة القاضية. اتّخذت الصّمت سلاحا فكان أنجع سلاح. كلّ اللعبة تتلخّص في أنّني أسكُتُ وكأنّني لا أسمع ما يقولون، وأرخي كامل عضلات وجهي حتّى لا يقرؤوا عليه أيّ تعبير، وأذبّل جفوني حتّى أبدو كئيبا، وأنظر إلى البعيد، من حين إلى حين، لأتابع طيران فراشتي. وينتهي الأمر. فإذا هم جميعا في الفخّ يصدّقون جنوني. وإذا أنا أحلم دائما، فلا يقدرون على منعي من التحليق كما أشاء، خارج مكانهم وبعيدا عن زمانهم.
بفضل صمتي، انتصرت على جماعة التّحقيق حتّى تركوا سبيلي. وبفضله، ظفرت بالنّقلة من السّجن إلى هذا القصر دون أن أطلب شيئا من أحد. حقنة في الصّباح، وثلاث حبوب أبتلعها مع الأكل على مدى اليوم. ذلك كلّ ما أدفعه مقابلا للإقامة في هذا القصر المنيع. كلّ يوم أخرج إلى هذه الحديقة الشّاسعة وأظلّ أتجوّل فيها بخيال حرّ سابح في الملكوت، أتابع بعينيّ فراشتي، أنيسة وحدتي، وهي تطير متنقّلة بين الأغصان، تنتظر معي الرّبيع وتحلم بالزّهور، و ترفرف مع السّحب عاليا في الأفق البعيد.

*****

ماذا كانوا يريدون منّي أن أقول ؟
وبماذا كانوا يريدونني أن أعترف ؟


لو كانوا أذكياء لكلّفوا واحدا منهم بالنزول إلى زورقي ليتثبّت من صحّة ما قلته لهم، ولتفطّنوا حينها، بمجرّد لمس المحرّك، إلى أنّه كان ما يزال حاميا وإلى أنّني لم أوقفه إلاّ حين رأيت خافرتهم قادمة في اتجاهي على بعد ميل أو أقلّ. ولكنّ تظاهُري بعدم رؤيتهم، وانسجامي الكامل مع أغنيتي "يا قمرة الليل"، ثمّ امتثالي حين رموا لي حبلهم وأمروني بربط زورقي إلى خافرتهم... كلّ هذا جعلهم لا يصلون إلى مرساهم إلاّ وقد برد محرّكي وصار بوسعي أن أدّعي كلّ ما أريد دون أن يكون لهم أيّ دليل على كذبي.
أنا لم أكن أكذب حين قلت إنّني ما فكّرت أبدا في "الحرقان". لم أكن أكذب. ولكنّ أيّ شخص في مكاني، كان سينتهز مثل تلك الفرصة ويطمع في بلوغ الأفق. فكلّ الظّروف اجتمعت لتمنحني في يقظتي ما كان يعزّ على الآلاف من أمثالي حتّى في الحلم. خبرة بقيادة الزّوارق وليلة قمراء ورؤية واضحة وبحر هادئ وزورق جاهز للإبحار لا ينتظر منّي أكثر من الخروج من مغارتي البونيّة، وقطع بضع خطوات قبل الارتماء في المركب وتشغيل المحرّك ثمّ اتّباع النّجمة القطبيّة.
ما فكّرت أبدا في الحرقان. ولكنّ فراشتي استقرّت في الزّورق قبلي وأبت أن تتزحزح عنه. ثمّ إنّني، حين حسبتها بالعقل، وجدت محاولة قطع الحدود خلسة على زورق لي وحدي، أقلّ خطرا من البقاء حيث كنت، حيث كان يمكن للحارس أن يتفطّن إلى وجودي، وكان يمكن لأعوان صاحب الحمار أن يلتحقوا بي فيفعلون بي ما هدّدوني بفعله. حتّى سقف المغارة كان يمكن أن ينهار على رأسي فينقطع نفسي تحت الماء والرّكام معا.

*****

... وحدي واقف، رغم البرد القارس، وسط حديقة القصر المنيع. أتأمّل فراشتي وهي تتشبّث بعشبة، تلتصق بالأرض ولا تريد أن تنفصل عنها. أحاول رفع عينيّ إلى السّماء علّ فراشتي تتبع رغبتي في التّحليق. ولكنّها تظلّ قابعة في الأرض لا تريد أن تطير، فيضطرّ بصري إلى الارتداد إلى الأسفل حتّى لا يضيع عنّي أثرها.
أحيانا، أسأل نفسي، وأنا أتألّم من وخز الحقنة، أو أعجز عن تجرّع حبّة الدّواء فتذوب مرارتها على لساني قبل أن أتوصّل إلى ابتلاعها، أتساءل إن كان جنوني كذبة صرفا كما أعتقد، أم إن كان في بعض وجوهه حقيقة ثابتة. ولأفترضْ جدلا أنّه في بعض وجوهه حقيقة، فمن أين يمكن أن يكون مأتاه ؟ هل أصابني بسبب أنّني أضعت بوصلة سيدي النّا... ؟ هل أصابني لأنّ هذه البوصلة، كما تقول أختي رشيدة، هي في الأصل وهم ابتدعته ثمّ صدّقته ؟ أم هل يكون ذلك بسبب خصومتي مع خدّوجة الجعيّد التي ما تزال غاضبة عليّ، ومع صوّانة التي تخلّت عنّي تماما ؟ أم هل هو الشّوق إلى عيشوشة التي لم تعد تأتي لزيارتي ولا حتّى في الحلم ؟
أحيانا يتهيّأ لي أنّني، إن كان بي ذرّة من الجنون، فالسّبب لا هذا ولا ذاك، وإنّما افتقادي الشّجاعة اللازمة للتّوقّف والنّبش في الرّمل عميقا حتّى العثور على حجيرة الصّوّان السّابعة، تلك التي انتزعها المقدّم عبد الحفيظ من دماغي. فقد كان الحلم رؤيا واضحة المعالم مبشّرة بكلّ الخير. وكنت أكاد أفهم تأويله دون حاجة إلى مساعدة خدّوجة الجعيّد.
كان الحلم رؤيا، جُبْني وحده حوّلها إلى كابوس.


... وحدي على ساحل الهوّاريّة أجري، تغمرني نشوة الشعور بالنّجاة. أجري وكلّي ثقة بأنّ الحظّ أصبح حليفي. فحتّى الشّاطئ الصّخريّ بدأ يتحوّل تحت خطاي إلى رمل ناعم يذكّر بشاطئ القرّاعيّة. وفجأة رأيت حجيرة الصّوان السّابعة. كانت تلمع على مسافة قصيرة منّي. تجاوزتها قليلا، وكان يمكنني أن أتوقّف عن الجري، وأعود بكلّ هدوء لألتقطها. ولكنّني تذكّرت أن أتباع صاحب الحمار مازالوا يلاحقونني. فالتفتّ وارتميت على الحصاة بلهفة. فإذا أنا أسقط قربها وأردمها بالرّمل. فأخذت، من خيبة أملي، أنبش الرّمل كما اتّفق. وحين بدا لي أولئك الهمج من جهة الهضبة، يجرون في اتّجاهي كموجة عارمة، غلبني اليأس فتوقّفت عن النّبش وعدت إلى الجري لأهرب منهم مرّة أخرى. ولكن هيهات أن يعود الرّمل النّاعم إلى هذا الشّاطئ. فقد تحوّل الحلم إلى كابوس. وعاد الشّاطئ صخريّا، يدمي وخزه رجليّ الحافيتين.
*****
... جالس وحدي على فراشي أنظر من شبّاك القاعة. كلّ المرضى نيام. والقمر يداعب بشعاعه أشجار حديقة القصر المنيع وهي أيضا نائمة. جالس وحدي على فراشي، يتمنّع عنّي النّوم وتتدفّق في ذهني الذّكريات.
... للوصول إلى تازغران، أشار عليّ بعض الشّبّان بسلوك طريق بدّار. وهي طريق طويلة وملتوية. وهناك إنّما عثرت على أنيستي. هناك برزت لي فراشتي الحبيبة من وراء طابية الهندي، وأخذت ترفرف حولي ثمّ تسبقني وتتوقّف من حين إلى حين لانتظاري. أخذت أتأمّل طيرانها، واعيا بأن حضور فراشة في عزّ الشّتاء حدث استثنائيّ. شيء ما في رفرفة جناحيها كان يقول لي إنّها لم توجد إلاّ من أجلي أنا، ولم تطر لغيري أنا. لذلك تبعتها ورحت أتوقّف كلّما توقّفَتْ، وأعود إلى الوراء كلّما خطرت لها العودة من حيث جئنا، حتّى استطال بنا الطّريق إلى تازغران وتمطّط.
... ظللت أقتفي أثر فراشتي حتّى ابتعدنا عن منزل بوزلفة. فإذا نـحن أمام مدخل ضيعة. وإذا رجل يعرض عليّ الانضمام إلى عمّاله لجني البرتقال. وإذا الفراشة تسبقني إلى داخل الضّيعة دون استشارتي. لم أرفض العرض ولكنّني لم أقل إنّني قبلته. فقط، تبعت فراشتي إلى الدّاخل حتّى حطّت على شجرة يتدلّى من أحد أغصانها برتقال مسكي في شكل عنقود. أجل عنقود مسكي، حبّاته أكبر من حبّات البرتقال العاديّة وشكله كأنّه عنقود عنب. ظللت أتأمّل العنقود ساعتين أو أكثر، والفراشة تحوم حول حبّاته، وأنا أبتسم لها وهي تطير وتحطّ على لطخات الضّوء التي ترسمها أشعّة الشّمس على كلّ واحدة من برتقالاته. حتّى تفطّن صاحب الضّيعة إلى أنّني لم أقطف برتقالة واحدة. وقف أمامي، وبقي هنيهة ينظر إليّ بعينين واسعتين متعجّبا من استغراقي في تأمّل ذلك العنقود بالذّات. ثمّ قصّه فأهدانيه وسرّحني. فإذا فراشتي تخرج من الضيعة. فأكاد أسمعها تضحك متواطئة معي. وأظلّ أقهقه، أنا الآخر، بصوت مرتفع.


... شيء ما، في شمس ذلك اليوم، كان يشقّ الدّماغ رغم شدّة البرد. فرأسي بدأ يؤلمني وبدأت أتعب من فرط السّير. لذلك، فحين لحق بي شيخ يركب حمارا، لم أتردّد في أن أستوقفه وأتوسّل إليه أن يركبني وراءه ولو لبضع أمتار. فما كان منه إلاّ أن فاجأني بالنّزول من على ظهر الحمار وتركه لي قائلا :
- أنا وصلت، يا وليدي. فدونك الحمار. اركبه. وحين تصل، قل له أن يرجع وسيرجع وحده.
- أنت طيّب يا سيّدي، قلت. ألا تخاف من أن أسرقه منك؟
- لن تستطيع، قال، فهذا حمار مرسل. والحمير المرسلة نتمتّع بها ونتركها تعود لشأنها. هذا الحمار سُلّم إليّ كما أسلّمه إليك الآن. لقد كنت متعبا، فسألت شابّا في مثل سنّك أن يركبني خلفه. ولكنّه نزل عنه وقال لي تماما مثل ما أقول لك.
... هل يمكن أن يكون كلّ هذا صدفة لا غير ؟ بدأت أشكّ في أنّني في حلم لا في يقظة. ولكنّني من فرط التّعب تمنّيت أن لا أستيقظ. ركبت الحمار فانطلق بي. ورأيتني يأخذني النّعاس. فاختلط حلمي بالحمار بأحلام أفرزها نومي على ظهر الحمار. ولم أنتبه إلاّ والدّابّة تقف بي أمام بناء مهجور وسط مرج مزروع حبوبا. كانت الشّمس إلى غروب. فقلت في نفسي، هذا بيت يمكن أن يصلح ملجأ لقضاء الليلة وسأرى بعد ذلك ما يمكن أن أفعل. في تلك اللحظة ظهر إلى جانبي رجل يسألني إن كان يمكنه أن يركب معي بعض مسافة. فقلت له ما قال لي الشيخ. ونزلت عن الحمار. فركب هو دون أن يقول لي شيئا. وانطلق بالدّابّة في الاتّجاه الذي منه أتيت.

*****
أحلام... ذكريات... ذكريات أحلام...
... تطول الليالي في القصر المنيع ويطول السّهاد. ويطول الطّريق إلى تازغران ويلتفّ حول الجبال ليعود إلى نقطة الانطلاق، فلا أصل أبدا إلى قريتي الحمراء. تتعدّد الليالي وتتشابه. أبيت ليلة تحت قنطرة وأخرى في مخزن مهجور، وما أكثر الخرائب بين هذه التلال الخضر. أنام لأستيقظ على رفيف جناحي أنيستي. توقظني ثمّ تسبقني فلا نكاد نصل إلى الطّريق الكبرى حتّى يظهر الحمار. وحين أركب، تظلّ فراشتي تحوم حولي كما لتذكّرني بأنّ كلّ انطلاق إلى وصول وبأنّ الرّبيع ولا ريب آت ليدحر الشّتاء.

... يطول الطّريق. فيهدّني الإعياء. وأشعر بأنّ حلمي يطول ويثقل ويتشعّب ويتمطّط، بينما نبضات قلبي المتعب من هذا السفر تدعوني أَنِ اسْتَيْقِظْ قبل أن تقضيَ من السعال والحمّى. أصرخ بين الجبال"اقرصيني يا أميمتي" ولكن ما من مجيب. يظلّ الليل والنّهار يتواليان عليّ، وأنا في نفس اللحظة الزّمنية، أو هكذا يبدو لي. حمار يحملني ويركض بين نفس التّلال. لا أنزل من على ظهره إلاّ ليأخذه منّي راكب جديد. ولا أستيقظ من نوم جديد إلاّ لألقاه من جديد. فراشتي هي الأخرى بدأت تتعب ولكنّها بقيت على وفائها لي تلازمني كظلّي. أو لعلّني أنا من ألازمها.
أحلام... ذكريات... ذكرياتُ أحلام... نتف من أحلام تتوالى، يربط بينها حمار. إلى أن وجدتني، في منعطف حلم، أشرف أخيرا على البحر من أعلى هضبة. كدت لرؤيتي صفحة الماء أنفجر فرحا وأرفع صوتي عاليا بالغناء. ولكنّني توجّست خيفة في الحين، فالتفتّ. فإذا جماعة شداد يحملون عصيّا غليظة ويمشون وراء الحمار. همزت الدّابّة حتّى تحثّ السير ولكنهم مشوا على وقع خطى الحمار تماما. ثمّ التفّوا بي وحاصروني من كلّ الجهات. قالوا إنّهم جماعة صاحب الحمار. وإنّهم تعبوا من البحث عنّي حتّى عثروا عليّ أخيرا. وإنّ صاحبهم عازم على عقابي على سرقة حماره الشّخصيّ، وإنّ عليهم أن يأخذوني إليه حتّى يصنع بي في فراشه ما يصنعه بزوجته.
... عبثا ناديت خدّوجة الجعيّد حتّى تقرصني فأستيقظ. وعبثا تخبّطت بين أيديهم القذرة صائحا بأنّني لم أسرق أبدا أيّ شيء... ثمّ لم أدر كيف جرت على طرف لساني مقولة "أبي هريرة" المسعدي. فقلت لهم "أوهكذا يزنى الدّهر بالأمل البكر؟". فإذا بي يتهيّأ لي أنّني أعيش مرّة أخرى أحداث "حديث الكلب". فتغمرني الشّجاعة وأصيح فيهم : "دعوني ... يا أوضع من وهاد... يا أضعف من عباد ... يا أحقر من بعوض، يا بني الإنسان".
... وفتحت عينيّ. فإذا الليل من حولي سكون. وإذا أنا في مغارة بونيّة على رشم الماء يهدّد سقفها بالسّقوط على رأسي. نظرت إلى الخارج فإذا الليلة مقمرة وإذا على مسافة خطوات منّي زورق مطّاطيّ مربوط بحبل إلى صخرة. وفجأة رفرفت الفراشة أمام عينيّ ثمّ سبقتني إلى الزّورق. وتسارعت الأحداث. فلم أدر كيف وجدتني بدوري في الزّورق وكيف انطلقت مبتعدا عن اليابسة. التفتّ فإذا عشرون نفرا أو ما يزيد. كلّهم يخرجون من المغاور البونيّة حيث كانوا مختبئين. خلتهم في البداية من أعوان صاحب الحمار. ولكن هل كانوا ينوون الحرقة على هذا الزّورق الذي يتّسع بالكاد لخمسة أنفار منهم ؟


المهمّ أنّ الحظّ ساق مركبتهم إليّ لتكون من نصيبي وحدي. ومن يدري، ربّما أكون قد أنقذتهم هكذا من موت محقّق.

الهكواتي .../... يتبع

تعليقات

‏قال غير معرف…
أهلا اخي سالم

قرأت، فتمتعت فعلا بهذا السرد الأنيق وبالصور التي تزينه من تونس الخضراء وهي كمفردات تطرز الحكاية بالتاريخ والجغرافيا في دروب الوطن ...
لوهلة ما تساءلت
هل الحمار هو الزمن ؟
هل الفراشة هي الحرية تعيش في كل الفصول ...؟
أعجبني الطرح الجريء الفني للبطالة والحرقان والعنف الذي يلاحق البسطاء رغم مظالم الحياة والزمن ..ذاك الظلم الذي يغمر الناس في طبقات منسية نمسحوقة يبدو أنّ الحياة تعمى عنها تماما ...
أخي سالم طوبى لفنك وفكرك ووعيك هنا .
دام نبضك

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

القصة والتراث

تكريم الهكواتي

أنا أيضا ... حوماني