بوصلة سيدي النّا... 20 نخلة وادي الباي

سنتي على جناح السّرد 50 من 53 // بوصلة سيدي النّا... 20 من 23– 13 فيفري2009



المسلك الثالث :

بدري في التّمّ

الوجهة الثانية :

نخلة وادي الباي



"علاقة هذا بالواقع محض خيال"- الهكواتي



هذه بعض مقتطفات، صيغت في شكل يوميات، من كنش مذكّرات للأستاذة شين باء ميم، محامية المتّهم محمّد الأمجد بريقشة.

قفصة - الأربعاء ظهرا :


أنا في قفصة، حيث تحوّلت كما تحوّل عديد الزّملاء لحضور محاكمة الحوض المنجمي. اغتنمت فرصة إقامتي هنا للاتصال بالسيّد سفيان الجريدي، أستاذ اللغة العربية ومسؤول فرع اتّحاد الطّلبة السّابق، الذي ورد ذكر اسمه في تصريحات موكّلي محمد الأمجد بريقشة. ذهبت دون سابق اتّصال، بعد أن دلّني زميل على كيفية الوصول إليه. فطرقت باب مكتبه في المصلحة الإدارية التي يشتغل بها، ملحقا من سلك التّعليم. ولأنّ موضوع زيارتي لم يكن ذا علاقة بشغله، فقد اتّفقنا على موعد في وقت آخر. وجاء حسب الاتفاق.
أوّل ما ألاحظه في السّيد الجريدي تقيّده بمواعيده. وهذه وحدها خصلة نادرة في هذا الزّمن. ثم إنّه بدا لي، إلى جانب هذا، خيّرا ومتخلّقا وواقعيّا ومباشرا. قال لي بصراحة إنّه شكّل لنفسه رأيا خاصّا في المحاكمة التي تحوّلت وزملائي من تونس مخصوصا لحضورها، وإنّه يريد أن يحتفظ بآرائه لنفسه. وأضاف بكلّ وضوح أنّه كان دائما وما يزال رجلا مساندا للنّظام ومناضلا منضبطا. ذلك أنّه يشتغل بالسّياسة ويعرف أنّ هناك من يقف له بالمرصاد لتصيّد أدنى خطأ يقوم به، ولا يريد أن يُصيب أيُّ ضررٍ مسيرتَه بسبب حركة إنسانيّة أتاها أثناء الأحداث.

هكذا فسّر السّيد الجريدي رفضه القاطع الإدلاء شكليّا بأيّ شهادة في قضيّة موكّلي. ولكنّني شرحت له حساسية الوضع النّفسي الحرج الذي يعيشه محمّد الأمجد بريقشة، وحاجتي العاجلة لمعلومات حول مرحلة من جولته ضاعت آثارها تماما من ذاكرته، لعلّ فيها الدّليل القاطع على براءته. وحين تأكّد من إصراري على الوقوف إلى جانب موكّلي حتّى آخر رمق، مهما كان الثّمن، أبدى تفهّمه. وطرح عليّ السّؤال عمّا إذا كان يمكنه أن يثق بي.
وعدته بأن أحفظ سرّ حديثنا، وأن لا أكشف أبدا مصادري، ولا أستعمل ما قد يفيدني به من معلومات إلاّ في ما يخدم مصلحة موكّلي. واسرّ لي عندها بأنّ الصّدفة جمعته فعلا بمحمّد الأمجد بريقشة في الرّديّف، أوائل شهر جوان. ولكنّ ضغط الوقت جعلنا نـحدّد موعدا لمقابلة جديدة يحدّثني فيها عن ظروف هذا اللقاء.

*****
قفصة - الخميس زوالا :
يؤكّد السيد الجريدي أنّه رغم سطحيّة معرفته السّابقة بموكّلي، ورغم طول الفترة التي لم يره خلالها، فقد تعرّف عليه بمجرّد أن رآه.


"كنت في بيت أختي - قال - حين سمعت ضجّة جلبتني نـحو نافذة الطّابق الأوّل. في الحال تعرّفت على بريقشة الذي كان يصيح بينما كان أخرقان يضربانه بعصاتين غليظتين ويحاولان إقناعه بأنّهما إنّما يعملان هكذا على إخراج شيطان متملّك بـجسده. أمّا هو فكان يحاول أن ينهض متثاقلا ليغنّي "الورد جميل"."
نعم -أضاف السّيد الجريدي- قد يبدو هذا المشهد غريبا ولكنّ ذلك بالضّبط ما رأيت وما سمعت. وإلاّ فإنّني ما كنت لأتدخّل أبدا. بعيد عنّي الادّعاء بأنّ تدخّلي هو الذي أدّى إلى تخليصه من الأخرقين، وهما – حتّى أكون واضحا - لا يمتّان بأيّ صلة لرجال الشّرطة. فما إن نزلت الدّرج وخرجت من البيت حتّى رأيتهما يهربان دون أن أجد لهروبهما أيّ تفسير. نظرت فإذا جموع رهيبة من الشّباب والمراهقين تبدو قادمة من بعيد وهي في حال هيجان وصياح. فما كان مني إلاّ أن سحبته إلى داخل البيت حتّى مرّت الجموع وابتعدت.
"قال لي - قال - إنّه كان يتألّم وإنّه غريب عن البلدة وقد وجد فيها بمحض الصّدفة وإنّه كان يبحث فقط عن أيّ صاحب سيّارة متّجه إلى الشّمال للرّكوب معه. الحمد لله أنّنا حين خرجنا، وجدنا سيّارتي سليمة كما تركتها. سلكت بعض الأنهج الضّيّقة لأبتعد عن السّاحات الكبرى ثمّ انطلقنا في اتّجاه قفصة.
"كان بريقشة مضروبا على قفا رأسه- تابع محدّثي - وكان جرحه يبدو سطحيّا، ولكنّه كان يشكو من الدّوار. وكان بعض دم يبلّل شعره ويسيل على رقبة قميصه. فأعطيته مجموعة من المناديل الورقيّة ليضغط بها على مكان الجرح في انتظار أن نخرج بسرعة من المدينة ونجد صيدليّة في أقرب قرية تعترضنا. وحين توقّفنا، كان الجرح قد انتفخ. عرضناه على الصّيدليّ فاكتفى بتنظيفه وحصره بضمادة. وطلب منّا الذّهاب إلى طبيب في الحال."
وأضاف السيّد الجريدي : "كان بريقشة طول الطّريق يسعى إلى الدّخول معي في حوار. كان يريد أن يعرف ما إذا كنت أشتغل وفي أيّ مجال. ولكنّني كنت أتركه يتكلّم وأتحاشى الجواب. كان يقول كلاما واضحا مرّة ويغمغم بشتات كلمات غامضة مرّة أخرى. حدّثني عن بوصلة وعن بحّار وعن رحلة نـحو الشّمال. وكان يتكلّم كما في حلم، بأسلوب مفكّك وكلمات متقاطعة. كان حديثا أشبه بشريط سينمائيّ سريالي. فقد كان يصيح من الألم ثمّ يصدح مباشرة بأغنية "الورد جميل". وكان في صوته من العذوبة ما يعمّق شعوري بمأساته. ولكنّني رغم اقتناعي بنبل حركتي الإنسانيّة، فقد شعرت فجأة بالخوف من أخذه إلى المستشفى. فمن يدري ؟
وكلّما اقتربنا من قفصة – يضيف مخاطبي – كلّما زاد ندمي على أنّني حاولت إنقاذه. حتّى أصبحت متردّدا في الدّخول إلى المدينة. أمّا بريقشة فكان يهمد برهة ثمّ يهبّ فجأة من فرط ألمه ليخاطبني بصوت من يوشك أن يفقد وعيه. كان يطلب منّي المساعدة، ويناشدني أن آخذ منه البوصلة إن كنت أنا صاحبها. ثمّ يهمد قليلا. ثمّ يقول: "خذني إلى الشّمال".
"حين صرنا على بضع كيلومترات من قفصة - قال - شعرت به يهوي إلى الأعماق وخشيت عليه من الغيبوبة. فأنزلته من السّيّارة لأنشّطه وأساعده على التّنفّس العميق. سألته إن كان يقصد القيروان. فأشار برأسه أن لا. "طيّب هل تقصد القصرين ؟" سكت تماما. ووجدت أنّه يستسلم تماما للإغماء، فأعدته إلى السّيارة وانطلقت. ومن فرط ارتباكي، دخلت مباشرة في مسلك يقصّر المسافة إلى القصرين.


"حين وصلنا – أضاف محدّثي - فكّرت في أن أتركه في مقهى وأنصرف. وفعلا توقّفت به عند أوّل مقهى. وهو عبارة عن محلّ متواضع لم يكن به من الحرفاء سوى ثلاثة، كلّهم من الشّبّان. هرعوا إلينا في الحال فأجلسناه على كرسيّ وأتينا له بماء بارد غسلنا به وجهه. ولكنّه بقي غائبا عن وعيه. شرحت لهم أنّني على عجلة من أمري، وأنّه عليّ أن أنصرف في الحال. أمّا عن بريقشة، فقلت لهم إنّه مجهول وجدته ملقى على قارعة الطّريق في مخرج المدينة، فعدت به إليهم لعلّهم يساعدونه في العثور على عائلته.
وقبل أن أنصرف - يقول محدّثي ختاما - وصل شابّ بمحض الصّدفة. فتعرّف عليه، وتطوّع للاهتمام به، ووعدني بالتّصرّف لأخذه إلى طبيب. فتركته بين يديه وعدت إلى هنا لا أدري إن كان عليّ الشّعور بالارتياح لتخلّصي من مصيبة كانت ستحلّ بي، أم بالذنب لأنّني اعتزمت فعل الخير ولم أجرؤ على الوصول به إلى منتهاه.
ختاما، سألت السّيّد الجريدي إن كان يذكر اسم أحد من الشّبّان الذين ترك لهم الاهتمام بمحمّد الأمجد بريقشة. فقال إنّه لا يذكر الأسماء وإنّما فهم أنّ الذي تطوّع للاهتمام به كان شاعرا. وأنّه إنّما كان يفعل ذلك اعترافا بجميل بريقشة الذي كان قد أخذ بيده حين كان طالبا، ونشر له قصائده في مجلّة كان يصدرها نادي الأدب بكلية الآداب.

*****

قفصة – مقهى نخلة وادي الباي – الجمعة مساء :
......................................
... ثمّ لم أدر كيف عاد بنا الحديث إلى محمّد الأمجد بريقشة. فأفادني سفيان بأنّه لم يلاحظ أيّ خلل على ذاكرته في البداية. حيث تذكّره جيّدا هو الآخر رغم أوجاعه. بل إنّه تذكّر حتّى نادرة حصلت لهما في أوّل لقاء جمعهما بمشرب كلّية الآداب بمنّوبة منذ ما يقارب العشر سنوات.
كان سفيان في آخر سنة من دراسته بالكلّية، حين عرف محمّد الأمجد بريقشة وهو في أوّل سنة له هناك. بعد إلحاح منّي، روى لي سفيان الطّرفة التي حصلت له مع موكّلي، فأثّرت فيه تأثيرا بالغا وجعلته لا ينساه أبدا. قال:
"كان بريقشة في المشرب مع ثلّة من رفاقه حين تقدّمت منهم واقترحت عليهم الانخراط معنا في صفوف طلبة الحزب. فكان جوابه غاية في الطّرافة. قال لي : " كلّنا منخرطون في حزب الخبزيست. ولكن عندي لك اقتراح. من المفروض أنّك أكثر منّا ثقافة، ما دمت في السّنة النّهائيّة. كما يعرف عن جماعة قفصة الذين أعرفهم جيّدا، أنّهم يحبّون السّينما وأنّ ثقافتهم في هذا المجال عريضة. لذلك أطرح عليك سؤالا في السّينما. فإن كان جوابك صحيحا، فإنّني سأنخرط معك دون قيد أو شرط، وربّما انخرط الجماعة أيضا. ولكن إذا أخطأت فلا أطلب منك إلاّ أن تدعنا وشأننا ولا تعد لطرح مقترحك على أحد منّا وإلاّ فإنّني، والله، سأشكّل قائمة تدخل الانتخابات باسم حزب سيدي بلحسن الشّادلي. ولأنظّمنّها حملة بهزيم البنادر. وسترون كيف نفوز بكلّ مقاعد مجلسكم العلميّ."
وأضاف سفيان ضاحكا، محاولا تقليد صوت وحركات محمّد الأمجد بريقشة :
"كان عليّ أن أجاريه، لأرى إلى أين يريد الوصول. فإذا به ينظر إلى ساعته ويقول : "الساعة الآن الثامنة وعشرين دقيقة. فهل تعرف إن كان يوجد شريط سينمائيّ عنوانه "ثمانية ونصف" ؟ وإذا كان جوابك نعم، فمن هو مخرجه ؟" فضحك الجميع وكان يظهر عليهم أنّهم مثلي لا يعرفون الجواب. فأضاف هو ناطقا العنوان بالفرنسيّة "8.5 هذا معدّل لا يمنح الحقّ في الإسعاف في آخر السّنة". فقدّرت أنّها فذلكة منه. وأجبته بأنّ مثل هذا الشريط لا يكون إلاّ من محض إنتاج طرافته وبأنّني أعده إن كان عنده اطّلاع على السّينما بأن أقترحه لتنشيط نادي السّينما المزمع إحداثه بالكلّية.
وتابع سفيان : ولكنّ جوابي كان خاطئا، فأعطاني بريقشة من الذّاكرة كلّ المعلومات المتعلّقة بهذا الشّريط. وطلب منّي أن أتثبّت من أمر وجوده الفعلي، مساء ذلك اليوم بالذّات، بمتابعة برنامج السّلسلة المخصّصة للسينما الإيطاليّة على إحدى الفضائيّات المختصّة في بثّ الأفلام الثّقافية.
وأضاف :
لم يهدأ لي بال قبل أن أشاهد "Otto e mezzo"، هذا الشّريط الذي أنتج قبل ولادتي بثلاث عشرة سنة، والذي بثّ تكريما للمخرج فيديريكو فلّيني ولممثّله الأيقونة مارشيللو ماستروياني. وهكذا إنّما وجدتني أصاب بعدوى حبّ السّينما بسبب فذلكة محمّد الامجد بريقشة. وطبعا، أوفيت بوعدي بعدم العودة لدعوته إلى الانخراط في المنظّمة الطّالبيّة. ورغم مساندتي ترشّحه لتنشيط نادي السّينما، فلا هو ولا رفاقه أدلوا بأصواتهم في انتخابات المجلس العلمي.



*****


قفصة – السبت - السادسة صباحا
اليوم أفقت باكرا. أحسستني مشدودة إلى سفيان، بل معجبة بنضجه السّياسي، مقتنعة بإستراتيجيته وبمقاربته للأمور. وبحركة شبه آليّة، طلبته بالهاتف لأودّعه قبل الانصراف إلى العاصمة. ولكنّه أصرّ على أن أشرب قهوة الصّباح معه.قبل أن نفترق طلب عنواني الشّخصي وعنوان المكتب الذي أشتغل به. قال إنّه يريد أن أكون ذات يوم خارجة من العمل أو راجعة إلى البيت فأجده فجأة أمامي...
من يدري ؟ مكتوب...



الهكواتي .../... يتبع

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

القصة والتراث

تكريم الهكواتي

أنا أيضا ... حوماني