بوصلة سيدي النّا... 13 أجنحة لفراشة تلتهب

سنتي على جناح السّرد 43 من 53 // بوصلة سيدي النّا... 13 من 23– 26 ديسمبر 2008


المسلك الثاني :


صوّان فوق الكثبان


الوجهة الخامسة 1 :


أجنحة لفراشة تلتهب


"علاقة هذا بالواقع محض خيال"- الهكواتي


ما الموت وما القيامة ؟
ما الموت إن لم يكن تحوّلا من حال إلى حال ؟
وما القيامة إن لم تكن نسيانا وولادة جديدة ؟
وإذًا ؟
إذًا، فقد مات ياسين. مات ياسين بالأغنج. مات بوصفه صديقي. وهذا الذي بقي - إن كان هناك من بقي - هو الطّرهوني، بشر لا أعرفه ولا يمتّ إليّ بصلة. بشر لا أعرفه ولست له مدينا بأيّ شيء. نعم، نعم، أنا لا أعرفه فعلا. فليس هو من أنقذ حياتي. ولا هو من رعاني أوان تلك الحمّى التي ما كانت لتنتهي. بل إنّ ما أنقذني هو ما تبقّى فيه من رواسب ياسين. وتلك رواسب منّي أنا، وأنا منها. والآن وقد مات ياسين فلا يقع عبؤها إلاّ عليّ وليس على أحد غيري. فهي لي، لي وحدي. إن أفلحت فمنها فلاحي، وإن أخفقت فلا ذنب لها في إخفاقي. ومادمت تائها فهي تائهة معي حتّى أجد طريقي وأوصل بوصلة سيدي النّا... إلى مقصدها الموعود.


مات ياسين بالأغنج، ملاك الرّحمة، منقذي من الهلاك. والذي بقي - إن كان هناك من بقي – فهو الشّيطان شخصيّا، وهو وحش لا شبه له بياسين ولا بي، وهو لعنة نزلت على الأرض ولا أحد يدري كيف الخلاص منها.

*****

وإذًا ؟
إذًا، فقد مات ياسين. مات ياسين بالأغنج. انتهى ذلك الإنسان الذي ما كان فقره ليمنعه من التّعفّف عن كلّ ما يغري فيشين. انتهى ذلك الإنسان المسكون بالقيم، ذلك الذي يخجل من كلّ ما يخلّ بالمبادئ. وبموت ياسين، خرج الطّرهوني من جحره. تحرّر من مرجعيات ياسين فإذا هو يتكاثر، وإذا نـحن إزاء ألف طرهوني وطرهوني، أين من مكرهم عامر البينتو ابن خالتي.
خرج الطرهوني من جحره ليدير ظهره لماضينا المشترك. فإذا هذا الماضي يثقل كاهلي وحدي. وإذا عليّ أن أجد طريقي وحدي وأوصل بوصلة سيدي النّا... إلى مقصدها. هذا إذا كنت أريد أن يكون لي منفذ إلى أيّ مستقبل. ثقيلة هذه الأمانة التي ألقيتها عليّ يا سيدي النّا... وأنا ضعيف. فكيف أجد مسلكي بين هذه الصّخور قبل أن ينقصم ظهري ؟

*****

وإذًا ؟
إذًا، فقد مات ياسين. مات ياسين بالأغنج. واختفى كلّ الشّبه الذي كان يجمع بيننا، رغم المسافة الفاصلة بين جباله الصّحراوية وهضابي الشاطئية، أو "فالاز طفولتي" كما كان يحلو له أن يسمّيها. كتب لي ياسين بعد الأيّام التي قضّاها عندنا في باب تونس : "أحبّك يا غيلان. وأعشق فالاز طفولتك". وكتب لي " الشّبه عظيم بين روح زنقة بريقشة وروح ديارنا نـحن المنحوتة في الجبل." وكتب لي أيضا : "أخلاقكم أخلاقنا وعاداتكم عاداتنا وأنتم قطعة منّا. فكأنّما الحياة في حومتكم حياة ريف أصيل محصّنة بأسوار مدينة."
واليوم محا النّسيان كلّ تلك السّطور التي كتبها لي ياسين. فمات كلّ الشّبه بيننا. مات ماضينا المشترك. وبموته مات ياسين. واستفرد الطّرهوني بالسّاحة يقتات من فراغها كما يحلو لعباقرة الفراغ. ولكن أين أنت يا سيدي النّا...؟ أرهقتني هذه المهمّة. وأهلكتني الرّحلة وعادت الحمّى لتنهشني. ولست أعرف كيف أجد طريقي إلى تازغران، رغم شبه الخارطة، هذه التي بين يديّ.

*****

وإذًا ؟
إذًا، فقد مات ياسين. مات ياسين بالأغنج، وموته انتقال إلى حال لا أجد كلمات تصفها. ولكن لك أن تفخر بي يا سيدي النّا... فأنا من وجّهت له طلقة الرّحمة. أنا من جعلته يعي موته بمجرّد أن قلت له "وداعا يا ياسين، كنت صديقي." هذه الـ"كنت"، كانت بندقيتي التي منها أطلقت عليه الرّصاصة الأخيرة، تلك التي أنقذت بها ياسين من براثن الطّرهوني. فانصرف الطّرهوني وقد أفرغته من كلّ رواسب ياسين بالأغنج، فغدا لا يمتّ بصلة إليّ أنا أيضا.
في المنام، رأيتني أستحمّ عاريا في بركة من ماء عذب. ورأيتك يا سيدي النّا... تأتي جاريا مفزوعا وتصيح بي : "لماذا تترك البوصلة في متناول القراصنة؟". أردت أن أجيبك بأنّ المكان آمن وبأنّني في حماية أعزّ أصدقائي. ولكنّك اختفيت فجأة. فخرجت من البركة مرتعشا من الخوف. علّقت البوصلة في حزامي وشددت الحزام إلى خصري وحملت أغراضي بسرعة. بدا لي كأنّما هنالك صخرة عالية تشرف على البركة. صعدت إليها واتخذت فيها مخبأ. وفجأة جاء ياسين بالأغنج في ألف رجل ورجل. هجموا على البركة يبحثون عنّي ليفتكّوا منّي البوصلة. فرحت لأنّهم لم يجدوني. رأيتهم ينتشرون فلا يبقى قرب البركة غير ياسين.

وعندها حدث شيء غريب. بعيني رأيت ياسين بالأغنج ينقسم إلى قسمين، نعم، تماما كما تتكاثر الجراثيم. وها أمامي الآن رجلان. الأوّل رجل ضعيف البنية، عار تماما، يريد الارتماء في الماء ليتطهّر. والثّاني رجل قويّ البنية غليظ، يلبس ثيابا، ويقف في وجه الأوّل محاولا منعه من الوصول إلى الماء. ونشبت بين الرّجلين معركة، انتهت، كما يراده المنطق، بهزيمة الرجل العاري، وطرحِه على الأرض.
عندها فتح اللابس فكّين عظيمين، بأسنان كأسنان التّمساح. وفتح فخذي العاري ونهش ما بينهما. ثمّ أخرج من فمه القضيب والخصيتين الدّاميتين ومسكهما بيده وبدأ يلوّح باللحم المنهوش في الهواء وهو يرقص ويقهقه بصوت كزئير الأسد، والدّم يسيل من فمه على رقبته ومنها على صدره، ليلطّخ ملابسه. نظرت فعجبت لبوصلتك، يا سيدي النّا...، وهي تتصور لي بندقيّة صيد مستقلّة تماما عن إرادتي. وإذا رصاصة تنطلق منها دون أن أكون قد قدحت زنادا، فتصيب اللابس وترديه قتيلا. فيسقط في البركة. فإذا مياهها حمراء في لون الدّم.

*****

وإذًا ؟
إذًا، فقد مات ياسين. فقلت له "وداعا يا ياسين، لقد كنت صديقي". وسكتت. مات ياسين بالأغنج. وعبثا تبحثون عن قاتله. عبثا تسألون، فكلّ النّاس مثلكم لا يعلمون. حتّى بهيّة التي تعرف الجواب تلازم الصّمت. لماذا تسكتين يا بهيّة ؟ ياسين مات، يا بهيّة، فهيّا نغنّ معا مناحة لياسين :


يَا بَهِيَّهْ مِــــنْ يِعْلِمْـــــنِي يَا بَابَا عَلِّـــي قَتَـــلْ يَاسِــــــــينْ
نِبْكِـــي قَتْلِـــتْني الغُصَّـة يَا لِلَّة لاَ رْصَاصَـــهْ وْلاَ سِكِّــــينْ
***
مِنْ فُــوقِ الْحِيطْ العَالِـــي يَا بَابَا قَالِــتْ لُهْ بْــلاَدَكْ فِــــــينْ ؟
قَــالْ لْهَا بْـــلاَدِي جْيُوبِـــي يَا لِلَّة وِجْيُـــوبِـــي مَنْقُـــوبِـــــينْ
لَوْ كَــانْ تَهْبَطْ لِلدِّيــــكِي يَا بَابَا وِنْشُــوفُو الرِّيــحْ مْنِـــــــينْ
تَــوْ نِفْـــرِشْ لِـــكْ زَرْبِيَّـــة يَا لِلَّة وِنْشِدِّ الشَّمْعَــــة سْــنِــينْ
وْيِتْعَـــبَّا جِيبِــي وْجِيبِـــكْ يَا بَابَا وِنْصِـــيرُو كِيــفْ الأُخْرِيــــنْ
***
مِنْ فُــوقْ الحِيــطْ العَالِـــي يَا بَابَا قَالِــتْ لُه نْجِيـــكْ لْفِـــينْ ؟
قَالْ لْهــَا الشَّــارَعْ يُنْغُــشْ يَا لِلَّة بِاللِّـــي يَهْـــوَاوْ الزِّيــــــــنْ
وِاللِّـــي فِي سْرَاهُـمْ بَرْشَة يَا بَابَا تِغْـوِيهُمْ غَمْــــزِةْ عِـــــــينْ
عَ الذِّمَّـــة بْيُـــوتْ الوِتْلَــة يَا لِلَّة وِدْيَــــارِ المَغْلُــــوقِـــــــــينْ
وِالـــدَّزَّة تْجِــــيبْ الــــدَّزَّة يَا بَابَا وِنْصِــــيرُو مَبْسُـــوطِــــينْ
***
قَالِــتْ لُه طْيُــورِ الغَابَــــة يَا بَابَا "يَا الغَافِلْ فِــينْ طَايْرِيـــنْ ؟"
"لاَ جْـــوَانِحْ لاَ طَــــــــيَّارَة يَا لِلَّة هَالــزَّرْبَـــة مَزْرُوبِـــــــينْ؟"
"كِي يْهِبِّ الرِّيــحْ تِتْحَطَّـمْ يَا بَابَا تِتْعَفَّـــسْ بِالسَّاقِـــــــينْ"
قَــالْ لْهَا العَصْــرِ يطَيَّـــرْ يَا لِلَّة كُــلِّ اللِّـي بْلاَ جِنْحِـــــينْ
وِالطِّيــرْ اللِّــي بِجْنَاحُــــه يَا بَابَا مَنْتُــوفْ الرِّيـشْ حْزِيـــــنْ
***
قَـالْ لِـكْ وِلْــدْ الخُــرَّافَــــة يَا بَابَا يِدْبِــي وْيِكْبِــرْ فِي الحِــــينْ
وِالِّلــي يِعْـــزِمْ وِيصَمَّــــمْ يَا لِلَّة يُوصِــلْ فِي رَمْشِةْ عِــــينْ
هَبْطِــتْ مِ الْحِيـطْ العَـالِي يَا بَابَا سِكْنِـتْ فِي بْيُوتْ الطِّــينْ
جَـابْ لْهَا العَـزْرِي وْ سِيــدُه يَا لِلَّة وِاللِّــي غَارَقْ فِي الدِّيــــنْ
وِاللِّي دِينُــه الدَّبُّــــــــــوزَة يَا بَابَا فَجْعَــة، وِدْعَــاء وَالْدِيــنْ
***
فِيسَــعْ مَا قَالِــتْ تُـــــوبَـة يَا بَابَا قَـالْ لَهَا "التُّــوبَة مْنِــينْ"
"طُحْــنَا لِلدِّّيكِــي طُحْـــــنَا يَا لِلَّة وْمِنُّه مَا احْنَاشْ طَالْعِــينْ"
"إِنْــتِ مِلْكِــي وْرَاسْ مَالِــــي يَا بَابَا وْمَا ثَمَّــة الهَـرْبَة وِيـــنْ"
"وِإذَا وَاقَعْــنَا سْــــلاَطَــــــة يَا لِلَّة تُسْكُـتْ وِتْقُــولْ بْنِـــينْ"
"لاَ تِحْلِــمْ لِـــي بِالغَـــــــلَّة يَا بَابَا وْلاَ بْمَرْقَـة وْلاَ بْطَاجِـــينْ"
***
رَقْــدِتْ فِي الخَــطِّ شْهَيَّـــــرْ يَا بَابَا وَإلاَّ هُــــومَا شَهْرِيــــنْ
وْكِيــفْ مَا لْقَـــاتُه وِلْقَـــاهَا يَا لِلَّة تْلاَقَــاتْ بْنَاسْ أُخْرِيــــنْ
جَاووهْ ضْيُـــوفْ وْدِفْعُــــــــوا يَا بَابَا عُوضْ المِائَـــة مِائتِيـــنْ
وْزَادُوا سْـــقَاوُوهْ مْعَــاهُـــــمْ يَا لِلَّة حَتَّــى عْمَاتْ العِينِـــينْ
لْغُــدْوَة تْنَصْبِـــتْ نَوَّاحَـــــة يَا بَابَا وِاللِّي مْكَفَّنْ يَاسِــــينْ

*****

ما الموت ، يا بهيّة، وما القيامة ؟
ما الموت إن لم يكن انتقالا من حال إلى حال ؟
وما القيامة إن لم تكن نسيانا وولادة جديدة ؟
وإذًا ؟
إذًا، يا بهيّة، فقد أكون سردت أحداثا خاطئة تماما. قد أكون في حاجة إلى مهلة لفهم حقيقة ما يحدث لي. حين كنت مركّزا انتباهي على ياسين بالأغنج، كنت في أصفى درجات الصّحو. وفجأة غام المشهد تماما من جديد. الغريب أنّني أنظر من فوق الرّمل الأبيض الصّافي فأرى ذاكرتي تبتعد عنّي بسرعة رهيبة. أراها وكأنّها شيء ملموس أو كأنّها كائن حيّ مستقلّ عنّي يأتي متى شاء وينصرف متى أراد.
وها هي ذاكرتي تقرّر الانصراف الآن للحاق بالحافلة وتركي ملقى هنا على هذا الكثيب الصّغير من الرّمل المعزول بين الحصى المجدب. فهل أكون أنا من متّ برصاصة الطّرهوني وليس العكس ؟ هل أضحت أحلامي تتشكّل الآن من صور معكوسة ومعلومات معكوسة ومشاعر معكوسة ؟ هل الميت فيها حيّ والحيّ ميّت ؟ هل المقتول فيها قاتل والقاتل مقتول ؟ هل الحزن فيها فرح والفرح حزن ؟ هل الخيال فيها واقع والواقع خيال والحقيقة سراب أجري وراءه فلا أصل إليه أبدا ؟
الأغرب، يا بهيّة، أنّني أرى ذاكرتي تنصرف عنّي ولكنّها لا تنصرف كاملة. يغيم المشهد تماما أو يكاد، إلاّ فسحة الوعي التي عشتها منذ خروجي وياسين بالأغنج من المغارة، وحتّى لحظة قبضي بيدي اليسرى على حصيّات الصّوّان الثلاثة. كلّ المشهد غائم إلاّ تلك الأحداث فهي تعود لي الآن كشريط مصوّر أوضح تصوير.
ها أنا أراني من جديد وبين يديّ ورقة كنّش. سطور رسمها ياسين بالأغنج كالخريطة. أسهم تـحاذي جدولا بين الصّخور وأخرى تنطلق من الجدول نـحو خطّ طويل مستقيم. ها أنا أقلب الصّفحة فأجد في فقاها الرّسالة. ثمّ ها أنا أقرأ الرّسالة. شيء ما يقول لي، فجأة، إنّني في خطر. فمنذ انصرف الطّرهوني من الغدير بعد أن وضع أمواله ورسالة ياسين بالأغنج تحت بوصلة سيدي النّا... لم أعد أشعر بالأمان. من الآن، صار كلّ شيء جائزا. ولم يعد لي من مبرّر يطمئنني إلى عدم غدره بي. لذلك فها أنا أسارع بالانصراف فأنطّ بين الصّخور مبتعدا عن العين ومائها الجاري.

ها أنا أحاول كما اتّفق لي أن أتّبع السّهم المؤدّي إلى الطّريق الرّئيسية. وها هي الطّريق تصبح منّي على مرمى حجر. ها أنا أجري على الحصى المتناثر محاولا اللحاق بحافلة تبدو قادمة من بعيد. لعلّها تكون الحافلة المتجهة إلى توجان. أم هل هي تلك المتّجهة إلى قابس مباشرة ؟ أنا في كلّ الأحوال عازم على أن أستقلّها. وحين أصل إلى قابس سأمضي مباشرة إلى المحطّة وأستقلّ القطار المنطلق نـحو الشمال.
ها أنا أمسك بيدي رزمة أموال الطّرهوني. ولكنّني لا أريد هذا المال القذر. سآخذ منه بالضبط ما تبقّى في حافظة نقودي التي احتفظ بها عنده. كم أعطتني أختي رشيدة يوم اعتزامي السّفر ؟ خمسين دينارا ؟ مائة ؟ سأحتفظ بخمسين دينارا فقط والبقية أتصدّق بها على أوّل عابر سبيل.
ها هي الطّريق الرئيسية دائما على مرمى حجر منّي. وفي متناولي اللحاق بالحافلة. ولكن، لا بدّ لي من ارتداء ملابسي أوّلا. ألبس السّروال. أضع في جيبي خمس أوراق من فئة العشرة دنانير. ألبس القميص أيضا ودون أن أهتمّ بقفل أزراره أعود إلى الجري. ها أنا ألوّح للحافلة بحذائي وما تبقّى من ملابسي مشيرا إليها بأن تتوقّف. طيّب هذا السّائق. ها هو يركن حافلته على الحاشية لينتظرني، بينما أنا أجري وأسعل.
وفجأة، شيء ما كحفيف جناح طائر هفهف على رأسي. كما لو أنّ الطّائر كان يمازحني مداعبا قفا جمجمتي مرّة ثمّ مرّة ثانية ثمّ ثالثة...
وفجأة أحسست بشيء بين الدّوار وذروة الانتشاء. فإذا أنا أتعثّر في كثيب صغير من الرّمل لا يزيد ارتفاعه عن ركبتي. وإذا أنا أسقط على وجهي فأرى كلّ المشهد يغيم تماما. لم يبق ظاهرا لناظريّ بوضوح غير هذه الحصيّات الثّلاث من الصّوّان بديع الألوان، تلتمع على الرّمل الأبيض تحت شعاع الشمس كأنّها الألماس. هذه حصيّات أعرفها جيّدا. فهي ثلاث من تلك السّبع الملساء التي انتزعها المقدّم عبد الحفيظ من دماغي. وضعها في قبضة يدي اليسرى فقذفت بها إلى السّماء محاذرا من ذكر اسم الله، ثمّ بحثت عنها مع أمّ الزّين، العذراء العجوز، فلم نعثر لها على أثر.
ولكن ما الموت، يا بهيّة، إن لم يكن تحوّلا ينقلنا من حال إلى حال ؟ وما القيامة إن لم تكن هذه التي، فجأة، تغيّم الآن المشهد أمامي، حتّى تحسن استقبالي ؟

كلّ ما أشعر به هو أنّ يدي اليسرى التي التقطت حصيّات الصّوّان الثّلاثة، تعمل الآن على إحكام قبضها عليها بشدّة. بينما أنا أرى، فيما يرى النّائم، يدا مستقلّة عنّي تلتقط ملابسي المنتشرة فوق الرّمل وحذائي. كذلك أرى يدا أخرى، ليست يدي بالتأكيد، تجذب من يدي اليمنى رزمة النّقود. كما أسمع ، فيما يسمع النّائم، صوتا بداخلي يصرخ فيّ أن "احم البوصلة". فإذا يدي اليمنى تترك النّقود وتعجّل بالشدّ على بوصلة سيدي النّا... المخبّأة في سروالي بين فخذيّ.
إليّ يا سيدي النّا... هل أنا من أنقسم إلى قسمين، تماما كما تتكاثر الحشرات ؟

الهكواتي .../... يتبع

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

القصة والتراث

تكريم الهكواتي

أنا أيضا ... حوماني