بوصلة سيدي النّا... 10 نوبة الصّخر والحمّى، ثانية

سنتي على جناح السّرد 40 من 53 // بوصلة سيدي النّا... 10 من 23– 05 ديسمبر 2008


المسلك الثاني :

صوّان فوق الكثبان


الوجهة الثالثة 2 :

نوبة الصّخر والحمّى، ثانية


"علاقة هذا بالواقع محض خيال"- الهكواتي


أين أنا ؟
ومن أين أذهب ؟
أين الشّمال، وأين الشّروق ؟
أين الجنوب، وأين المغيب ؟


هل ما تزال الجبال تحيط بنا من كلّ أفق ؟ وهل ما يزال الكون ظلاما دامسا ؟ جئتِ يا الدّرعيّة ؟ هل تذكّرتني أخيرا يا جدّتي الحبيبة ؟ شكرا لك يا حبيبتي... شكرا، ولكن، ما هذا الذي تضمّدين به رأسي هكذا ؟ هل سقطتُ في الهاوية ؟ هل تحطّم رأسي على الصّخور ؟ ومن هذا ؟ هل هو عززي المازري الجعيّد ؟ عزيزي، كلّمني يا جدّي. ما له لا يتكلّم يا الدّرعيّة ؟ أنا لا أعرف جدّي هذا لأنني لم أجد له في بيتنا صورة واحدة ...
- لا تخف... حاول أن تنام الآن... هذه لبخة بصل... أغْمض عينيك ونم ودع الضّمادة تمتصّ لك كلّ الحمّى... غدا ستصبح أحسن إن شاء الله.
- هل ينبغي أن أنام ؟ هل أنا في حال اليقظة إذًا؟ هل ما أزال على قيد الحياة ؟ القاع يسحبني...

*****

أين أنا ؟
ومن أين أذهب ؟
أين الشّمال، وأين الشّروق ؟
أين الجنوب، وأين المغيب ؟
لماذا تحيط الجبال بي من كلّ أفق ؟
- هكذا طبيعة المنطقة، يا ولد أمّك، لا توجد هنا غير الجبال.
- هل وصلنا إلى الشّمال يا الدّرعيّة ؟ هل نـحن في تازغران ؟
- نـحن هنا في الجنوب، يا ولد أمّك. بل نـحن على باب الصّحراء تماما.
- ولماذا، يا جدّتي، يبقى الكون هكذا، ظلاما دامسا ؟
- لست جدّتك، يا ابن جدّتك، فأنا عذراء ... عجوز وعذراء، هل تفهم ؟ واسمي أمّ الزّين وليس الدّرعيّة...
- يا بركة الصّالحين. تعالي نغنّ إذًا :
يا للّة ...
مريض عليك دخيل ...
ننادي على أمّ الزين...
يا للّة
يا بنيّة جمّال...
يا أمّ السّبعة أمحال
يا للّة
يا مريّض، في الحال
نادي على أمّ الزّين...
- لست أنا الوليّة أمّ الزّين، يا ولد أمّك، فكفّ عن الغناء ونم. وإذا لم تهدأ الحمّى من هنا إلى الشّروق، فسآخذك إلى من يداويك بأحسن من دوائي...
- هل ينبغي أن أنام ؟ هل مازلت في حال اليقظة إذًا؟ هل ما أزال على قيد الحياة ؟ هل أنا أعيش الواقع ؟ القاع يسحبني...

*****

أين أنا ؟
ومن أين أذهب ؟
أين الشّمال، وأين الشّروق ؟
أين الجنوب، وأين المغيب ؟
... مساحة يقظة في ذروة الحلم. أم هل تكون مساحة حلم في سحيق اليقظة ؟ عجوز عذراء أجمل ممّا كنت أراها في سيّارة الأجرة. وشم على الجبين، و على كلّ خدّ وشم مماثل ووردة. وأنا أمشي على الصّخور بعسر، فأكاد أسقط، لولا ذراعها يسندني. مازالت الجبال تحيط بي من كلّ أفق. ولكنّ فوقي قبّة زرقاء وضّاءة. مساحة نـحتها نور صباح جديد في كتلة من الكون المعتّم. مدخل بيت منحوت في الصّخر تجري من تحته السّواقي بماء زلال. سقيفة، ففناء مشمس، فغرف منقورة، هي الأخرى، في صخر الجبل.


... مساحة يقظة في ذروة الحلم. أم هل تكون إشراقة وعي في هاوية غيبوبة ؟ إشراقة واحدة يعود بها البصر إلى العيون. إشراقة واحدة يعود بها العقل إلى البصيرة العمياء. سامحيني يا سيّدتي. أظنّني أزعجت. هل صحيح أن اسمك أمّ الزّين ؟ سامحيني يا سيدتي أمّ الزّين. هل كنت أهذي جهرا أم كنت أخاطب نفسي في سريرتي؟ لست أدري ما حلّ بي. فاغفري، يا سيّدتي، هذياني. كنت أحلم بأنّني أدعوك جدّتي، ولكنّني أراك لا تشبهينها في شيء. فالمعذرة، المعذرة.
... مساحة يقظة في ذروة الحلم. أم هل تكون مساحة حلم في صلب حلم آخر ؟ رجل يصل إلى الفناء من مغارة عميقة. له ملامح رجل كنت أحلم به، فأخاطبه وهو لا يردّ. كنت أدعوه عزيزي وهو لا يكلّمني. وأمّ الزّين تقف في الفناء مطأطئة الرّأس. يدها تسلّمني إلى يده. أرتجف وأنا أراها تنحني إذ تخاطبه بكلّ إجلال :
- يا سيدي المقدّم حفيّظ، هذا ولد وجدته تائها في الجبل. آلمته الحمّى سبع ليال وهو في غيبوبة لا يخرج منها إلاّ ليهذي. كلام غريب عن الجدود وعن الموت والبعث. وأغان يرسلها نداء استغاثة لأولياء الله والصّالحين. فاغفر لي هذه الجرأة يا سيّدي المقدّم حفيّظ. ما كان أمامي من حلّ سوى أن أقتحم عليك خلوتك. فما من منقذ لهذا الفتى غيرك.
... صامتا، يقبض المقدّم حفيّظ بقوّة على معصمي. يكاد يجمّد نبضي. ينظر في عينيّ مرسلا من عينيه شعاعا ولا شعاع الشّمس. كيف لي أن أواصل تحمّل هذه النّظرة الغازية ؟ كيف لي أن أستردّ بصري ولا طاقة لي على إغماض عينيّ؟
... على الأرض يطرحني المقدّم حفيّظ، فأنطرح. يضغط بكلتا يديه على رأسي فأشعر بأصابعه تنزرع في جمجمتي. وأرى صوّانة تخترق المغارة وهي تبتسم لي. أهمّ بمناداتها ثمّ أتراجع وأستسلم مطمئنّا رغم الألم. أغمض عينيّ ثمّ أفتحهما. وها أنا واقف في الفناء. يفتح المقدّم حفيّظ كفّه. فإذا هو قد انتزع من دماغي سبع حصيّات ملساء، بديعة الألوان، تلتمع كأنّها الألماس :
- اسمك ؟
- محمّد الأمجد.
- اسم أمّك ؟
- خدّوجة.
- اسم جدّتك للأمّ ؟
- الدّرعيّة.
- محمّد الأمجد بن خدّوجة بن الدّرعيّة. علّتك ثلاثيّة ودواؤك ثلاثيّ. ستنتهي الحمّى بعد ثلاثة أوقات. فاحسب السّاعات بداية، ثمّ الأيّام. وإن لم تتعاف بعدها فعدّ الأسابيع. وإلاّ فلا نجاة بعد الأسبوع الثّالث. ستأخذ الآن حصيّات الصّوان هذه في قبضة يدك اليسرى. ولكن حذار من أن تذكر اسم الله. ثمّ ستغمض عينيك وستقذف بالحصيّات إلى السّماء بأقصى ما أوتيت من قوّة. حاول أن تجعلها تمرّ من فوق السّقيفة فتصل إلى الوادي.


... صامتا، أتناول باليسرى حصيّات الصّوّان، ممتنعا من ذكر اسم الله. لم أعرف ليدي اليسرى أبدا أيّ قدرة على قذف حجر. فكيف سأرمي فتصل حصيّاتي إلى الوادي؟
... على حافة اليأس، أغمض عينيّ وأحاول تحريك يدي. فإذا هي، يا للمعجزة، تتحرّك وكأنّها ليست من جسدي. أفتح عينين مبهوتتين. أكيد أنّني نجحت في قذف الصّوّان في الوادي.
- أيّ طاقة تملك في يُسراك، يا ولد أمّك... ستخرج الآن من هنا ولن تعود أبدا. ابحث عن صوّاناتك في الوادي. فإمّا أن تجد منها بعضها أو لا تجد أيّا منها. فإذا تمكنت في ظرف ساعات ثلاث من العثور على أكثر من نصفها هنا، فاحتفظ بها فإنّك ناج حال ذهاب الحمّى. وإلاّ فإنّها ستكون قد انتثرت في مسالك أرض الله الواسعة. وإنّك ستشقى في البحث عنها. فلن تبلغ مقصدك حتّى تعثر عليها جميعا.

*****

أين أنا ؟
ومن أين أذهب ؟
أين الشّمال، وأين الشّروق ؟
أين الجنوب، وأين المغيب ؟
... إنّها مساحة اليقظة في ذروة الحلم. وهي توشك أن تنتهي. أم هل تكون مساحة للحلم في سحيق اليقظة، تبدأ الآن ولا تنتهي أبدا؟


- مرّ من السّاعات أكثر من ثلاث، يا ولد أمّك، ومازالت الحمّى تستعر. أنا تعبت من البحث معك دون أن نجد أدنى حصاة. وأنت أيضا، لا بدّ أن تكفّ عن البحث. فأنت في أوكد الحاجة إلى الراحة. ولكن كيف ؟
- مالت الشمس إلى الغروب يا أمّ الزّين. ولا أثر للصّوّانات في هذا الوادي اللعين. عسير تسليمي بأنّني أخفقت في العثور عليها.
- مالت الشّمس إلى الغروب، يا ولد أمّك، وما عاد في استطاعتي إيواءك ولا إنقاذك من حمّى أيّام ثلاثة أو أكثر. وإنّي أرى أن تعود إلى أهلك في الحال.
- لا ترهقي نفسك بأمري، يا أمّ الزّين. كفاك ما نالك من عناء بسببي حتّى الآن. ولا عليك من الحمّى. أوصليني فقط إلى الطّريق الرئيسة. ودلّيني على وجهة الشّمال حتّى أذهب إلى تازغران. فلن تقدر الحمّى على منعي من بلوغها. ولن أنثني أبدا عن إتمام مهمّتي. ولن أعود إلى الأهل قبل أن تصل البوصلة إلى مقصدها.

*****

أين أنا ؟
كيف أنهض ؟ وبأيّ رجلين أقف وأمشي ؟
ومن أين أذهب إن أنا استطعت المشي ؟
أين الشّمال، وأين الشّروق ؟
أين الجنوب، وأين المغيب ؟
... الجبال تحيط بي من كلّ أفق. والكون ظلام دامس. وأنا ممدّد على حاشية الطّريق، كميّت مسجّى. عرقي ثلج ينزلق على جلدي. وعيناي مغمضتان لا أقوى على فتحهما. ويداي تتمسّكان بسروالي، تحميان بوصلة سيدي النّا... بشراسة. وجرابي على ظهري ثقيل.
... نور كشّاف مسلّط على وجهي. وصوت رجل يصل إليّ من عمق السنين الخوالي، يناديني كما كنت أدعى في تلك السنين الخوالي :

- غيلان، يا بن الكلب أصيل سلالة الكلاب... ولكن، ماذا تصنع في هذا الخلاء ؟ ومن هو الحلّوف بن الخنزير الذي فعل بك هذا، يا غيلان ؟ "أوهكذا يزنى الدّهر بالأمل البكر؟"
- "دعوني ... يا أوضع من وهاد... يا أضعف من عباد ... يا أحقر من بعوض، يا بني الإنسان". لا بل لا تدعوني ... النّجدة، النّجدة أنا في عرضكم... أنقِذوني ولا تتركوني أهلك هنا. ما كان كلامي سوى فقرة فاجرة من مسرحيّة ملعونة أفلتت من لساني رغما عنّي. ولكن، من أنت يا هذا الذي تدعوني غيلان ؟ قل لي، يا ولد أمّك: هل ما أزال على قيد الحياة ؟ القاع يسحبني...

الهكواتي .../... يتبع

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

القصة والتراث

تكريم الهكواتي

أنا أيضا ... حوماني