بوصلة سيدي النّا... 12 غدير المعيز

سنتي على جناح السّرد 42 من 53 // بوصلة سيدي النّا... 12 من 23– 19 ديسمبر 2008


المسلك الثاني :


صوّان فوق الكثبان



الوجهة الرابعة :


غدير المعيز


"علاقة هذا بالواقع محض خيال"- الهكواتي


هذا نصّ وثيقة مستخرجة من ملفّ المتّهم محمّد الأمجد بن الحبيب بن البحري بريقشة. الوثيقة الأصلية قصاصة صحفيّة أدلت بها الأستاذة شين باء ميم محامية المتّهم التي اقتطعت المقالة لما لها من علاقة بديهية بملفّ موكّلها. صدرت المقالة بتاريخ ..... ضمن صفحة الحوادث في جريدة "......" الأسبوعية، تحت عنوان "شاحنة مسروقة تميط اللثام عن شبكة دعارة وتكشف مجزرة رهيبة في نقطة ماء جبلية قرب قرية توجان الآمنة".


لا حديث هذه الأيّام في قرية توجان الآمنة بجنوب البلاد إلاّ عن الجثتين التين اكتشفتهما دورية للحرس الوطني في مكان منزو من هذه المنطقة الجبلية يقع، تقريبا، على بعد سبعة كيلومترات من القرية، وبالتحديد في نقطة ماء موسمية، لم تكن معروفة إلى اليوم، يسميها بعضهم غدير المعيز.
كانت البداية مع تلقّي مركز الحرس الذي تتبعه المنطقة بالنّظر، إشعارا من مواطنين يفيد وجود شاحنة صغيرة من نوع 404 باشي قديمة، سلسلة تونس 30، في مكان غير بعيد عن الطّريق الرّئيسية حيث لا معمار ولا متساكنين. ولأنّ الشّاحنة بقيت أياما ثلاثة في نفس المكان، فقد بدأ المعتادون على المسلك يرتابون في أمرها.

الشّاحنة المسروقة

وفي الحين تم تكليف دوريّة بمهمة استكشافية. فاتجهت إلى عين المكان حيث عثر الأعوان على الشّاحنة المتروكة وشرعوا في فحصها بدقّة. فتبيّن لهم أن صندوقها محمّل بأثاث يصلح ظاهريا لإقامة مخيّم. كما أنّ اتصالاتهم الأولية بالمصالح المختصّة أثارت لديهم الشّك في أنّ الشاحنة قد تكون حاملة لرقم مزوّر.


وبعد الحصول على التراخيص المعتادة، تولّى الأعوان خلع باب الشاحنة فاتضح أنّ الرّقم المدني لا يطابق رقم المصنع. ذلك أنّ الشّاحنة كانت بالفعل مسروقة. إذ رفع صاحبها، منذ أكثر من ستّة أشهر، قضية ضدّ مجهول معلنا عن اختفاء شاحنته في وضح النّهار من داخل ضيعة له بإحدى واحات دوز.
وجد الأعوان بداخل الشاحنة عديد العلامات التي يمكن الاستعانة بها لفك طلاسم هذه القضية المتشعّبة. وممّا تمّ العثور عليه داخل السّيارة، أوراقها الكاملة مزوّرة من البطاقة الرّمادية إلى شهادة الفحص الفنّي وشهادة التأمين. كما عُثِرَ على جراب صغير فيه ملابس قذرة ومحفظة أوراق فيها مبلغ مالي بسيط وبطاقة تعريف صحيحة باسم شابّ أصيل جهة السّاحل. وقد كان الشّابّ المعنيّ سجّل، قبل شهرين، في عداد المفقودين في حادث غرق مركب حارقين في عرض سواحل الشّابّة.

خيط رابط وحمولة مشبوهة

كما عثر الأعوان تحت كرسي السّائق على محفظة مصفّحة تحوي عددا من بطاقات التعريف ورخص السّياقة ودفاتر الصّكوك. وكلّها وثائق مزيّفة. فكان اكتشاف المحفظة أوّل مفتاح لهذا اللغز الغامض. فبخلعها عثر الأعوان على الخيط الرّابط بين كلّ العناصر المكوّنة للقضية. إذ تبين بفحص بطاقات التّعريف المزورة أنّها من نوعين. الأوّل مقلّد عن وثائق أصلية تونسية بينما الثاني تزييف لوثائق من بلد شقيق. ما يشير إلى أنّ نشاط مستعمليها يشمل البلدين المتجاورين، في مستوى سواحلهما الممتدّة جنوب البحر الأبيض المتوسّط.


أمّا عن المستفيدين من هذا التّزييف، فقد تبيّن أنّهما شابّ وفتاة لا يتجاوز عمر كلّ منهما الثلاثين سنة. تحمل الوثائق المزيّفة صورهما بهويات مختلفة تونسية مرّة ومن البلد الشقيق مرة أخرى. وقد اتضح بعد البحث أنّ هذين المنحرفين مفتّش عنهما. وقد سبق أن صدرت في شأنهما بطاقة إيداع من السّلطات الجهوية بصفاقس لتورّطهما في قضية تتعلّق بشبكة دعارة وترويج مخدّرات.
أمّا عن صندوق الشّاحنة فقد باح هو الآخر بمعلومات هامّة للباحثين. فقد تبين بتفتيش الحمولة، أنّها معدّة فعلا لإقامة مخيّمات من نوع مريب. فهي تتكون من هياكل معدنية وباش وأسرّة مخيمات وكذلك من مفارش وزرابي وأدوات مطبخ وأواني مختلفة. ولكنّ ما دعّم الشّبهات ووجّه البحوث نـحو الهدف الصّحيح، وجود أثاث طبّي من النّوع المستعمل في قاعات التّمسيد الصّحّي، إضافة إلى مجموعة من أزياء الرّقص الإباحي والمراهم المستعملة للتمسيد ومواد التّجميل.
كما عثرت الدّورية، ضمن حمولة الشاحنة، على آلات تسجيل وبث بالفيديو ومعها أقراص فيديو يتراوح محتواها بين موسيقى المزود والأفلام الإباحيّة. كما عثر على صفيحتين بلاستيكيتين مليئتين بخمرة تقليديّة مستمدّة من اللاّقمي المعتّق، يطلق عليها في واحات الجنوب اسم "القيشم".
وقالت مصادرنا إنّ "ربط هذه العناصر بعضها ببعض مكّن الباحثين من حصر نطاق بحوثهم و إيجاد رابط بين الشاحنة المسروقة وعصابة منحرفين بدأ الطوق يضيق حولها منذ فترة وجيزة".

وجه مشوّه ورصاصة في الجمجمة.

وهكذا اتضح لأعوان دورية الحرس الوطني أن مثل هذه الحمولة المشبوهة لا يمكن أن تترك هكذا على مقربة من الطّريق لمدّة طويلة، دون أن يكون لذلك سبب قاهر. فأقرّوا العزم على حلّ هذا اللغز في أسرع وقت. واستنجدوا بعناصر من الخيّالة لمساعدتهم على البحث. وانتشروا في الجبال المجاورة. وسرعان ما كلّلت جهودهم بالنّجاح. فبمجرّد وصول رجال الحرس إلى نقطة ماء موسمية تبعد حوالي ثلاثة كيلومترات عن الطريق الرئيسية، باحت لهم القضية بالسّرّ الرّهيب.
لم تكن نقطة ماء غدير المعيز معروفة قبل الآن. إنها تقع في سفح سلسلة جبال. وهي محاطة بصخور عالية جدّا. ماؤها ينبع من شقوق في هذه الصّخور صقلها السّيلان الذي ينزل قطرا في حوض طبيعي غير عميق. كان المكان عبارة عن فسحة قليلة السّعة وعرة المسالك تمكّن أعوان الدّورية من ولوجها عبر ممرّ ضيّق بين صخرتين. فكانت المفاجأة مذهلة : جثتان هامدتان بدأت تفوح منهما رائحة كريهة. إحداهما لذكر عار تماما وقد مدّدت على ظهرها فوق الصّخر بعد أن أعمل القاتل فيها سكّينه عشرات المرّات بطعنات بليغة في مستوى القلب والرقبة وأسفل البطن.


ولم يكف المجرم قتله الضّحية، بل عمد إلى قطع أعضائها التّناسلية التي عثر عليها الأعوان مرشوقة في شقوق الصّخرة التي منها تنبع مياه الغدير. كما عمد إلى تشويه وجه القتيل، إمعانا في التنكيل بالجثّة بوحشية يندى لها جبين الإنسانية. حيث سلخت جلدة الوجه بالكامل حتّى تطمس ملامحه. حتّى لحم بنان الأصابع قُطع حتى لا تتمكن السّلط من التعرّف على هوية صاحبها.
أمّا الجثة الثانية فقد كانت هي الأخرى جثة ذكر ولكنها كانت في الحوض تطفو على الماء بكامل ملابسها. وقد انجرّت وفاة هذا القتيل الثاني، حسب ما ترجّحه مصادرنا، عن طلقة بندقية أصابه بها قنّاص من فوق صخرة عالية تشرف على الفسحة. فاستقرّت في قفا جمجمته.

يا قاتل الرّوح وين تروح.

إذا كان غموض الموقف يفتح المجال أمام فرضيات عديدة لشرح هذه الجريمة البشعة فإنّ الباحثين يرجّحون إحدى فرضيتين:
الأولى ترجّح أن يكون القنّاص الذي أطلق النّار من فوق الصّخرة هو قاتل الضّحيتين. وفي صورة الحال يكون القتيل الثاني قد وصل إلى المكان بعد أن أتمّ الجاني فعلته الأولى. وبما أنّ القادم اكتشف الجثّة وعرف القاتل، فإنّ هذا الأخير لم يتردّد في إطلاق النار عليه لإخماد صوت شاهد عيان.
أمّا الفرضية الثّانية فتحتمل أن يكون صاحب الجثّة الثانية هو قاتل صاحب الجثّة الأولى. وهكذا يكون قاتل الضحية الثانية شخص ثالث يعرفهما معا، وقد كان ينتظر بكلّ برودة دم إتمام تنفيذ الجريمة الأولى ثمّ خدع منفّذها وأطلق عليه الرّصاص من علوّ صخرته.
أمّا بخصوص علاقة أطراف الجريمة بالسّيارة المسروقة ومحتوياتها، فإنّ مصادرنا ترفض في الوقت الرّاهن الإفصاح عن أية معلومة، حتّى تبقي على كامل حظوظها في إيقاف قنّاص الجبل. إلاّ أنّ بعض العلامات تبعث على الاعتقاد بأنّ أحد القتيلين قد يكون صاحب الجراب الذي عثر عليه بداخل الشاحنة، بينما يمكن أن يكون الآخر صاحب الصّورة المثبتة على الوثائق المدلّسة. ولكن لا بد لنا للتّأكّد من فرضيتنا، من انتظار نتائج البحث وخاصّة منها نتائج التحليل الجيني التي سيتمّ إجراؤها بالتّأكيد.
فهل قد فات المجرم الذي حاول طمس ملامح ضحيّته وإتلاف بنان أصابعها، أنّ البصمات لم تعد الوسيلة الوحيدة للكشف عن المجرمين ؟ إنّه إذا أفلت إلى حدّ كتابة هذه السّطور من قبضة العدالة، فإلى حين فقط. ذلك أنّ تطوّر التّقنيات سيمكن من التّعرّف على هوية صاحب الجثّة بما سيقود إلى المجرم إن آجلا وإن عاجلا. فرجال الأمن لن يكفّوا عن ملاحقته حتّى القبض عليه وتقديمه إلى العدالة التي ستجعله يدفع باهظا ثمن جريمته الشّنيعة. ألا يقول مثلنا الشعبيّ : "يا قاتل الرّوح وين تروح" ؟

جريدتكم في قلب الحدث.

إلى هنا انتهت المعلومات التي أمدتنا بها مصادرنا الموثوقة. وسنبقى بطبيعة الحال على اتصال وثيق بها وهي تواصل البحث في القضية حتّى نمدّ قراءنا الأوفياء بالنّتائج حال حصولنا عليها. ولكن، نظرا لخطورة القضية وتشعّبها، ونظرا إلى وجود المجرم حرّا طليقا ساعة وضع الجريدة تحت الطّبع، ونظرا كذلك إلى اهتمام الرّأي العام بهذه القضيّة، فإنّ كلّ هذا يدعونا إلى بذل جهود خاصّة. ولذلك فإنّ جريدتكم موجودة بعدُ في قلب الحدث كما عوّدتكم. فالآن، وأنتم تقرأون هذه السطور، يوجد مبعوثنا الخاصّ على عين المكان لإعداد ريبورتاج يستقرئ فيه ردود فعل مواطني المنطقة حول هذه الجريمة الشنيعة. فانتظروا عدد الأسبوع القادم الذي سيتضمّن على مدى صفحتين تغطية خاصّة مدعّمة بالصّور والشّهادت الحية. قضية للمتابعة. *

الهكواتي .../...يتبع

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

القصة والتراث

تكريم الهكواتي

أنا أيضا ... حوماني