بوصلة سيدي النّا... 11 نوبة الصّخر والحمّى، ختاما

سنتي على جناح السّرد 41 من 53 // بوصلة سيدي النّا... 11 من 23– 12 ديسمبر 2008


المسلك الثاني :

صوّان فوق الكثبان

الوجهة الثالثة 3 :

نوبة الصّخر والحمّى، ختاما


"علاقة هذا بالواقع محض خيال"- الهكواتي

أين أنا ؟
قاعة سينما مظلمة. شريط غامض. أبيض وبنّي. ساعة واحدة. جاء قطيع الماعز. "كلب أندلسي". عصير تفّاح أسود. نباح. مجلّة حائطيّة. قصة قصيرة جدّا. شيخوخة مبكّرة. ساعتان اثنتان. لويس بونوال. شاحنة 404 باشي تونس 30. الجثث الشّهية. شعر الأوّلين. رأس كرنب. صَعْدَةُ رأس الطّابية حادّة جدّا. ثلاث ساعات. شِعْرٌ من جنس الأرض-أرض يمشي مع النّاس على الكيّاس. قَوْلٌ يَسْكَرُ إذا استطاع إليه سبيلا. أخيرا انقطع الحيض. جِحْفَةُ عروسٍ مخطوفة. دار الثّقافة ابن خلدون. نصف يوم وليلة واحدة. نائم مع الشّياه. الذّاكرة تنام أيضا.

*****


... غيلان... أنا ياسين بالأغنج يا غيلان. ياسين بالأغنج. وجدتك ملقى على حاشية الطّريق الرّئيسية. افتح عينيك جيّدا وستراني. كيف لا تتذكّرني ؟ ألست أنت محمّد الأمجد بريقشة؟ قل لي ما اسمك إذًا ؟ انطق بأيّ جواب. لا تستسلم للموت يا غيلان.
...سأنقذك رغما عنك. غيلان ... تفووووه على هذه الدّنيا الكلبة. كيف تنظر إليّ فلا تتعرّفني ؟ أنا ياسين بالأغنج يا مجدة. أكلتُ الطّعام من يدي أمّك خدّوجة. ونمت بجانبك على دكّانة جدّتك منّانة تحت صورة جدّك البحري. تذكّر يا غيلان. في تلك السّنة انقطعت أختك رشيدة عن التّعليم. افتح عينيك يا بن الكلب. افتح عينيك وإلاّ صفعتك بأقوى من هذا. تذكر شعارك يا مجدة. لا تدع الدّهر يزنى بالأمل البكر...

*****

سماء قليلة السّحب. نزل خمسة نجوم. مترو منّوبة الجديد. بوح العاشقين. عشاء والشموع موقدة. قبلة فقط. الدّفع قبل ارتقاء الجبل. رسم على الحرير. سرقاي إيزنشتاين. تعصيب العينين من قانون اللعبة. لزوم ما لا يلزم. أشتغل في الأعمال الحرّة. باذنجان مقلي. زغاريد. وردة بيضاء في العلالي. سبخة. رائحة العرق. المطعم الجامعي بعيد. نزول من القمّة. ماذا تريد ؟ خبز وزيتون أو بسيسة بالكنتيشي ؟ درج "المدرّعة بوتمكين" تؤدّي إلى الكهف. أول قارورة جعّة. مدخل الكهف من تحت القبّة. فكرة جهنّميّة. يا أبناء الأبالسة.

*****

... غيلان... يا غيلان... ما الذي أتى بك إلى هذا الخلاء يا غيلان ؟ هل جئت وحدك أم... مع من جئت؟ هل أردت الانتحار ؟ قل لي : هل لسعتك عقرب ؟ افتح عينيك وانظر إليّ، يا سخطة. كيف لا تتذكّرني وقد كنت تسكن معي في نفس المبيت، في نفس الغرفة ؟ كيف لا تذكر : "صعدة رأس الطّابية حادّة جدّا". "الشِّعر يَسْكَرُ إذا استطاع إليه سبيلا". هل تذكّرت الآن؟ هل تذكر عشيّة ذلك السّبت، وقد كان المطر لا يكفّ عن الهطول ؟ هل تذكر أوّل قارورة جعّة في حياتك وحياتي؟ "صعدة رأس الطّابية حادّة جدّا". كنّا نـحتسي قارورة الجعّة معا. نخفيها تحت المعطف ونشربها بطريقة الرّيّ قطرة قطرة، ونـحن نصعد الهضبة تحت المطر، ونعربد في الشارع كأنّنا شربنا برميل كحول. "صعدة رأس الطّابية حادّة جدّا" كانت تلك قصيدة من شِعرك في جنس الأرض- أرض. لحنتها وأخذت تغنّيها. هل مازال صوتك جميلا يا غيلان ؟ هل تذكر كيف كنّا نتكلّم كالسّكارى وما كنّا بسكارى ؟ أفق يا غيلان. سأنقذك وسأسقيك القيشم(1) حتّى تعرف أنّه القيشم. وأنت معي، ستسكر فعلا فتشفى من كلّ عللك. فقط تماسك ولا تستسلم للموت...

*****

جنازة سيدي النّا... مياه راكدة. غروب متعفّن. حمار. موسم تعتيق القيشم. شريط ضحل. تمسيد صحّي. مستوى هواة. كبش عيد الأضحى. غيلان في ضيافة ايزنشتاين. راح قطيع الماعز. الطريق المستقيم. اتّحاد الطّلبة الخبزيست. آذان العصر حسب التوقيت المحلّي. الجماعة قادمون. لا إلاه إلاّ الله... طيّب، من أين أذهب؟

*****

... غيلان ... يا غيلان... سأغيب عنك ساعة أو ساعتين، يا غيلان. وسأعود بمن يبقى معك هنا ليرعاك حتى تشفى. سأرى إن كان يوجد طبيب يقبل المجيء إلى هنا. سآتيك بحليب الماعز فتشرب. فقط اصمد ساعة أخرى أو ساعتين، وستنجو. لا تمت يا بن الكلب. هل سمعتني ؟ لو وجدتك ميّتا فسأقتلك...

*****

نظّارات طبّية قاع قارورة. قبل الغروب بقليل. بناء متداع للسّقوط. جاء قطيع الماعز. قبّة بلا بنادر. يوم واحد. غمزة. كلّ شيء إلاّ القُبل. تدخل وتخرج ثم ينتهي كلّ شيء. ورقة بو عشرين. شنب طويل أبيض. يومان اثنان. ورقة بو ثلاثين. حليب ماعز. العذراء بمائتين. طبيب عاجز عن فعل شيء. قفص تدخله فلا خروج. شمس حارقة. ثلاثة أيّام. فمك نتن. بابونج منقوع. حافلة خاصّة جدّا. موسم جني التّمور. موز كوستاريكا. كلب شرس، عربي أصيل. علبة ليلية في أعماق الأرض. قطاع الخدمات المتنوّعة.

*****

... هذا هو صديقي يا حوريّة. اسمه غيلان. تخدمينه في صمت ولا تسألينه عن أيّ شيء. هو الآن مريض. ولكنّه سيشفى وسيصبح عضدي الأيمن. لو قبل فسنوسّع المشروع ونغزو شطّ الجريد بأكمله. كان أعزّ أصدقائي أيّام الجامعة. كنت أنا أدرس الفلسفة في 9 أفريل، وهو كان يدرس العربية في منّوبة. وكنّا نسكن معا في نفس الغرفة. تخرّجنا معا في نفس السّنة. أنا بملاحظة "متوسط". أمّا هو فبملاحظة "قريب من الحسن". أنت لا تعرفين، يا حوريّة، معنى أن يحصل طالب في قسم العربية بمنوبة على الأستاذية بملاحظة "قريب من الحسن". معناها امتياز. لا تنسي إذًا أنّك هنا لخدمته، وطاعته في كلّ ما يطلب منك. خلاصك سيصير مضاعفا بداية من الآن. ولكن تفعلين كلّ ما يطلبه منك. هل تفهمين ؟...

*****


تسمّم غذائي. شعر في غير العمودي والحرّ. سأعيرك بغلة. النّادي الثّقافي الطّاهر الحدّاد. نزل خمسة نجوم. أربع ليال ثمّ انقطاع الحيض. هذا أخي يا سيدي الشرطي. الطّريق سالكة. شمعة واحدة. أكيرا كوروساوا. اهرب بجلدك. ثلاثة قوارير "شيفاس ريغال". أين أنت يا أبا رغال؟ شمعتان اثنتان. الإتحاد الرّياضي المنستيري. "راشومون". لا تنفع مكعّبات الثّلج لإطفاء حريق. "نـحن وهذا". وصفة لإعداد القيشم. اللقاء الأوّل أمام المسرح البلدي. حليب الماعز ثانية. هذا هو القيشم يا عزيزي. وسكي تونسي من أرفع طراز "مايد إن دقاش". عين ماء صافية. لا حلّ لهذا الوسخ.

*****

... هذه حورية يا غيلان. غيلان، هل تسمعني ؟ الطبيب طمأنني على أنّك لن تموت. لقد نجوت يا بن الكلب. عمر الكلاب طويل. سأتركها معك هنا. هي على ذمّتك كامل اليوم. لا تعذّبها في شرب الدّواء. معها هاتف جوّال. اطلبْ منها أن تخاطبني إذا احتجت أيّ شيء. ولا تتردّد في تكليفها بأيّ مهمّة أو في طلب أيّ خدمة منها. في الليل آخذ حورية لشؤونها الأخرى. آخذها حين يروح قطيع الماعز. وفي النّهار أعيدها إلى هنا بعد أن يجيء قطيع الماعز. هذه أمور سأحدّثك عنها بأكثر تفصيلا حين تعود إلى وعيك. سنتفاهم كما ينبغي متى اتّفقنا. المهمّ الآن أن لا تخرج من هنا...

*****

"ريح السّدّ". الموت من قبل الولادة. سيدي النّا... إمام مسجد باب الغربي. النّوري بوزيد. شيش كباب. لا حياء في الجنّة. ركّبيني وهاك أجرك. آخر كلام. المصران الأعور. غيلان كلب ابن كلب. عيون لا تفتح ودماغ لا ينام. راح قطيع الماعز. أسبوع كامل. ألف وأربعمائة. الأمانة العامّة. صكّ بدون رصيد. نار الله أوقدت. افتح فمك وابلع. أين الشّمال، إذًا، وأين الشّروق؟
أحلام متقاطعة. شريط مسرع. انقطع الحيض من جديد. لا أحبّ الحليب. اصعد حتّى قمّة الجبل. ارجع غدا وستجد أجمل منها. شاشة عملاقة. أقفاص على القياس. "السّفراء". اصعد إلى الجبل على الأرجل. العينان معصّبتان بالضرورة. سيدي بو سعيد. بطاقات الصرف غير مقبولة. النّاصر الكتاري. جاء قطيع الماعز. شارلي شابلن. وليّ صالح رغم أنفك. الجسد، روبوت مبرمج. يا زمان الوصل بالمنار الثاني. الحليب أو الموت. حرب استنزاف. "الأزمنة الحديثة". إخوانجي على الرّكح عريان. انطلاق القطار من قابس.

*****

... كيف حاله الآن يا حوريّة ؟ هل شرب الحليب ؟ هل ذهب إلى بيت الخلاء ؟ سترين حين يشفى. ستكتشفين فيه شخصيّة غاية في اللطف. وسيعجبك غناؤه. هل كلّمك ؟ هل قال أيّ شيء ؟ سيسحرك إذا تكلّم. تعرّفت عليه في القطار. شبعنا ضحكا وافترقنا. وحين رحت أتسلّم غرفتي في المبيت وجدته بداخلها فضحكنا كمجنونين. لقد كان متساكني. هل قلت لك إنّني كنت في حياتي الجامعيّة متعاطفا مع جماعات متعدّدة من اليسار ؟ لم تكن في ذلك أيّ طرافة بالنسبة إلى طالب في الفلسفة. أمّا هو فكان زعيما. ليس زعيم فرقة من اليسار ولكن زعيم اتحاد الطّلبة الخبزيست. أليس كذلك يا غيلان ؟ كان هو رئيس ذلك الاتحاد، يا حورية، والمنخرط الوحيد فيه لا يقبل معه أحدا. ولقد بقي ثابتا على التزامه ذاك إلى أن تخرّج من الجامعة...

*****


أنا لست أخاها. تساقط أحجار. تمسيد ياباني بأيدي ملثّمة. مجاعة جنسية. رقص شرقي جدّا. ملفّ كرتون أصفر. شهر واحد. مقصّ أسود. ممنوع المجاوزة. مأدبة جفاف عاطفي. عملة صعبة سهلة الترويج. أمطار متفرّقة. شهران اثنان. سأجيء مخصوصا من صفاقس. يومية 2001. سيجارة بين اثنين. عام سعيد. "العصفور". شهران ونصف. يوسف شاهين. حساء خضر. صوّانة تعتذر. ماء معدني. دار الثقافة ابن رشيق مغلقة دائما. الفرج درجة درجة.

*****

... "لا يمين ولا يسار. صعدة رأس الطّابية حادّة جدّا. لا حقيقة في الكون إلاّ هذه." هل تذكر شعارك السّياسي هذا يا غيلان ؟ أمّا أنا فقد تقلّبت على كلّ جوانبي. كان التزامي دائما التزام عبور، بينما التزامك أنت كان البحث عن الأمل البكر. كنت تنشده في الغناء وقراءة الأدب والذّهاب إلى السّينما. ما أحببته فيك هو أنّك كنت دائما تحترم آرائي مهما كانت متضاربة. لقد كفّت الحمّى يا غيلان. ولابدّ أن تخرج إلى الهواء الطّلق. غدا سأجيئك باكرا. الطّريق سالكة هذه الأيّام. سأخرجك من هنا. أمّا أنت يا حوريّة فيمكنك الذّهاب إلى أهلك حتى ينقطع حيضك.

*****

على الجبل. ليس فوقي سوى قبّة السّماء الزّرقاء. أنظر تحتي فلا أرى سوى جبال على امتداد البصر. لونها مخضرّ على حمرة داكنة على سواد. أحلام وأحلام لا أذكر من تفاصيلها شيئا. وقائع غريبة. لو كانت عندي أثناء النّوم أوراق وقلم لدوّنت تلك الأحداث في عشرين ألف صفحة. الذّاكرة تستيقظ لحظة. الوعي يعود ولكنّه يمضي سريعا. عندي ولا شكّ مرض أغرب من الخيال. هل دامت الحمّى، بالفعل، ثلاثة أشهرا كاملة، لا تزيد ولا تنقص، يا بالأغنج ؟
جبال، جبال حتّى الأفق. صخور، صخور ولا نبات... أين أنا ؟ قشور برتقال. سيارة 4 في 4. "الأرض". بئر عميقة. شهرزاد قالت. "سارق الدّرّاجة". غلال الفصل الجديد. كاسكروت مرقاز يا أستاذ. كلّ الشموع احترقت. يوسف شاهين وفيتّوريو دي سيكا. عودة مملكة اللاوعي. راح قطيع الماعز. عاد قطيع الماعز. والشعر العمودي خيانة أدبيّة. عصير جزر. "المنعرج". آذان صلاة الصّبح، حسب التوقيت المحلّي لباب تونس وما جاوره. الصّباح النّجاح الّصباح الفلاح. مصطفى الفارسي. هلاّ قلت لي أخيرا، أين الجنوب، وأين المغيب ؟

*****

... ما الذي أصابك فجأة، يا غيلان ؟ لماذا تعود إلى هذيانك هكذا، ولم تعد بك حمّى؟ هل هذا بفعل الهواء النّقي الذي غمر رئتيك؟ أفق يا غيلان. هل يمكنك أن تتابع المشي أم هل ينبغي أن نعود ؟ إلى أين أنت ذاهب هكذا ؟ دعني أسندك حتّى لا تسقط على الصّخور. سنمشي على رجلينا خمس دقائق، لا أكثر، ثمّ نصل إلى مكان رائع...

*****

أمر غريب حقّا. الذّاكرة تمضي وتجيء. وأنت، أراك مرّة ياسين بالأغنج صديق الجامعة، ومرّة أخرى تأتيني صورتك في وضع مريب يبعث على القرف وأنت تصرّ على أن أدعوك الطّرهوني. أحيانا يختلط عندي الواقع والحلم، يا ياسين، فيتهيّأ لي أنّ هنالك ما يشبه الكهف المعدّ للمتعة والفسق. فيه الرقص الشّرقي المبسّط وفيه القيشم ولحم الغزال، وفيه اللحم المؤنّث السّاخن. سأجنّ من هذه الرّؤيا، يا ياسين.
من أنت في الحقيقة، يا ياسين ؟ هل أنا أعيش كابوسا ؟ أم هل يعقل أن أكون قد تعفّنتُ إلى درجة أصبحتُ معها أحمل عن أعزّ أصدقائي صورة بهذه البشاعة ؟
ثمّ أين أنا ؟ قشرة بطّيخ. ليس لي جواز سفر. "مولد النّسيان". جرائد العابرين. صور متحرّكة. أقلام رصاص غير مبريّة. النور الكهربائي مقطوع. محمود المسعدي. شكشوكة حارّة. روضة أطفال. مقهى الشباب. كان ياما كان :


زوج حمامات(2)
يا ليت لا راها ولا راته
طارت ومشات
طارت
وحده في العشّة خلاّته

*****

...نعم... نعم ... أراك بدأت تفهم كلّ شيء يا غيلان. كلامك مفعم بالمعاني. وغناؤك ينزل كالمقصلة. غنّ إذًا. غنّ وتكلّم. قل أيّ شيء يمرّ بخلدك. وسأعرف كيف أفهمك جيّدا. قل ما يستقيم وما لا يستقيم حتّى يأتي الكلام المستقيم.
وأنا أستمع إليك تغنّي، تذكّرت تلك الأيّام السّوداء. أيّام تقيّأتُ اليسار بكلّ فصائله. فتهت حتّى أنّني كنت قاب قوسين من الجنون. وأنت من داويتني يا غيلان. هل تتذكّر ؟ استقبلتني في بيتكم بباب تونس. وداويتني بالمشي فجرا على شاطئ القرّاعيّة. كنّا نخرج من البيت وكلّ النّاس نيام. نمشي بحذاء السّور من سقيفة باب تونس حتّى المحكمة. ثمّ نخترق الجبّانة في الظّلام فنقرأ فاتحة على قبر خالك سيدي النّا... ونعبر من الجانب الآخر إلى الشّاطئ.


كنّا نتمشّى على الرّمل حتّى سيدي منصور. ونبقى على الجبل المطلّ على الكحليّة، ننتظر شروق الشمس. كلّ هذا وأنا أثرثر بكلام يشبه الهذيان. وأنت لا تقول شيئا. وفي العشيّة كنت تأخذني إلى جبال أخرى تشرف على البحر من جهة أخرى ونبقى نتأمّل غروب الشمس على صفحة الماء الأزرق ونغنّي حتّى يجنّ الليل...

*****

تذكّرت الآن يا بالأغنج. صورتك وأنت في نزل خمسة نجوم. تحيط بك خمس بنات جميلات. إلى جانبك شيخ ليبيّ. كأنّي أسمعك الآن تهمس له "العذراء بمائتين" وتأخذ منه ثلاث قوارير "شيفاس ريغال". ولكن أين أنت يا أبا رغال ؟ قشور الموز. التزحلق على الجليد. ليلة سقوط بغداد. كرسي مكسور الرّجلين. سجن صداقة. سلسلة صدئة. نيران صديقة. رعاة أم سجانون. دوّارة ورأس وكرعين. فلسطين عربيّة. قطار تونس حلق الوادي المرسى. وكان يا ما كان :


قد كان عندي بلبل.(3)
في قفص من ذهب
ظريف شكل
ريشه حلو
طويل الذّنب

*****

... اتّفقنا قل ما تشاء. وغنّ وسأسمعك. أنا فاهم وأنت فهمت كلّ شيء. لست أفعل سوى التّأقلم مع ظروفي بكلّ وعي يا غيلان. ولكن أريدك دائما أن تحترم اختياراتي وإن لم تتفق فيها معي.
حين سقطتُ في الكاباس، كانت صدمتي عنيفة. كنت واثقا من نجاحي حين اجتزت الامتحان، لأنّني كنت أعرف تماما ما قدّمت. ورغم خيبة الأمل، هاتفتك يا غيلان. وكان قصدي أن أهنّئك بالنّجاح. فقد كنت أكثر من واثق بنجاحك. فالكلّ يعلم أنّك الأجدر بين كلّ الذين اجتازوا كاباس العربية. ولكن النّتيجة المعلنة ضاعفت من صدمتني. من وقتها، كفرت بكلّ شيء. فشلي أنا في امتحان الفلسفة، كان وحده كافيا لإثارة الشّكوك. أمّا أن لا ينجح محمّد الأمجد بريقشة في كاباس العربيّة، فمعناه أنّ في الحكاية واو، بل أكثر من واو بكثير.
لذلك اشتدّ بي الغضب على المجتمع كلّه. ومازلت على غضبي، لا أفكّر إلاّ في الانتقام، ولكن بدم بارد. وما أصنعه الآن ليس سوى طريقتي أنا في الأخذ بثأري. وصدّقني يا مجدة، أنا من ذلك في رغد العيش. المال وفير. فما الذي أحتاج أكثر ؟
في البداية، انتابتني موجة من الإيمان يا غيلان. تركت لحيتي تطول ولبّيت دعوة جار لنا فجرّبت الصّلاة. ثمّ إذا أنا أقبل عليها بنهم. فتعرّفت في المسجد على جماعة ملتزمين. وكدت ألتزم معهم. بل كنت على وشك أن أعبر الحدود إلى الجزائر. ولكنّ رشدي عاد لي في آخر لحظة. قدّرت أنّ الخاسر الوحيد من كلّ هذا كان سيكون أبي الذي فقد بصره تماما وأمّي المسكينة وإخوتي الخمسة. أمّا أنا فخاسر هنا وخاسر هناك. وسيكفيني غنما من حياتي أن لا أجرّ ورائي الأهل قاطبة إلى خسارة شاملة. لذلك ففي الليلة المتّفق عليها لاجتياز الحدود، هربت من الجماعة على ظهر بغلة. فوجدتني في صفاقس حيث تعرّفت على حوريّة. وهناك إنّما بدأت مشاريعي تتشكّل وبدأ الدّولاب يدور...

*****

كل شيء أصبح الآن واضحا يا بالأغنج. الشّمال شمال والجنوب جنوب ولا يلتقيان. وقد مضى علينا أكثر من ساعة ونـحن نطوف في حلقة مفرغة بين نتوءات هذا الجبل العجيب. فاطمئنّ، يا ياسين، لم يعد بوسعي الآن إطلاقا أن أجد طريق العودة إلى المقام. أنت تعرف أنّني لم أقابل أيّا من اختياراتك إلاّ بالاحترام. ولكن الآن سأكتفي بأن أفهم أنّ قدر طريقينا أن يفترقا. فعليّ أن أذهب حتما إلى تازغران يا صديقي. ومهمّتي هناك مستعجلة. أنا محمّل ببوصلة سيدي النّا... وعليّ أن أفعل ما بوسعي حتّى أجعلها تصل إلى مقصدها. أشر عليّ فقط بمسلك يؤدّي إلى الطّريق الرّئيسيّة وانصرف إلى شؤونك.
بالأغنج ...
لك منّي جزيل الشّكر على إنقاذك حياتي. أمّا أنا، يا ياسين، فعاجز عن إنقاذك. فأنت يا صديقي، تركت الدّهر يزنى بالأمل البكر...

*****

الوعي عاد كاملا. وعي في أتمّ صفائه كماء هذه العين الجارية بحذائنا. وهذا الوعي إذ يستيقظ يملأني حزنا. وهذا الصمت الذي يعلو بين ياسين بالأغنج وبيني، يبدو لي أثقل من كلّ هذه الصّخور المحيطة بنا.
بين الصّخور تجري العين لتصبّ في غدير يبدو عميقا. وأنا لا يمكن أن أرى الماء وأكتفي بالفرجة عليه. فكلّ هذا البرد القارس لا يستطيع صدّي عن خلع ثيابي :
- جميلة هذه العين الجارية بين الجبال يا بالأغنج. وعندي رغبة جنونية في الاستحمام فيها. هذه بوصلة سيدي النّا... أتركها أمامك. يمكنك أن تحرسها قليلا إن شئت. وإن شئت فاسط عليها وانصرف بها. ولكن حين أخرج من الماء، أريد أن لا أجدك هنا. وداعا يا بالأغنج. لقد كنت صديقي.

*****

أغطس وأطفو. وأغطس وأطفو من جديد. ياسين بالأغنج لا ينطق بكلمة. لعلّه أصيب بالخرس. أغطس وأطفو. ياسين بالأغنج يكتب في كنّش مذكّراته. لا بدّ أنّه سيستخلص الدّرس من نقاشنا الأخير. هل بدأ كلامي يساعد الأمل على سلوك طريق العودة إلى بكارته ؟ أغطس وأطفو فلا أجد أحدا. أخرج من الماء وقد تجمّدت عروقي. فوق ثيابي، تحت بوصلة سيدي النّا... ورقة كنّش. سطور مرسومة كالخريطة وأسهم تـحاذي جدولا بين الصّخور وأخرى تنطلق من الجدول نـحو خطّ طويل مستقيم. وفي فقا الصفحة رسالة لي.

*****

غيلان يا صديقي،
الشّمال شمال، والجنوب جنوب. وصحيح أنّهما لا يلتقيان. أنت رجل ثابت على مبادئ تمكّنت أنا من تجاوزها مغتصبا إرادتي. كان ذلك اختيارا. وثانويّ أن نـحكم إن كان خاطئا أو مصيبا. هو اختياري وأنا أتحمّل نتائجه كاملة وكفى.
حين كنت أعبر أحلك أيّامي، أنت من آويتني في بيتكم أكثر من أسبوع. وأنت من أخرجتني من محنتي. وها قد ساقتك الظّروف إليّ. ولا يمكنك أن تقول إنّني لم أكن في مستوى صداقتنا. اليوم يا صاحبي، كنت أريد أن أقترح عليك أن تبقى معي. ولكنّني فهمت أنّ الشّمال شمال والجنوب جنوب وأنّه علينا الانفصال.


اتّبع هذا المخطّط البدائيّ وستصل إلى الطّريق الرّئيسيّة. من هناك، لم يبق لك إلاّ بعض الكيلومترات للوصول إلى توجان. في القرية اسأل عن الحافلة إلى قابس. يبدو أنّ هناك واحدة تنطلق عند منتصف النّهار.
اقبل منّي هذا المبلغ البسيط هديّة تساعدك على مجابهة مصاريف السّفر. سأحتفظ بجرابك تذكارا لأنني لست غبيّا لأدعك تعود مرّة أخرى إلى المقام المخبأ.
صديقك الطّرهوني الذي لم يبق فيه من بالأغنج غير هذه الجثّة التي يجرّها معه على الأرض.

الهكواتي .../... يتبع

(1) القيشم : خمر مصنوع من اللاّقمي (نسغ مستخرج من قلب النخلة)
(2) زوج حمامات : أغنية مشهورة من ألحان وأداء المرحوم الصّادق ثريّا
(3) نشيد أطفال من ذكريات المدرسة الابتدائية

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

القصة والتراث

تكريم الهكواتي

أنا أيضا ... حوماني