وعكة روضة

سنتي على جناح السّرد – النّص 30 من 53 – 12 سبتمبر 2008

وعكة روضة

واحد، اثنان، ثلاثة... وإذا هي متيبّسة على الأرض في الوقت غير المناسب تماما ومن حيث لم نكن ننتظر.
- "بما أنّ المسألة وصلت إلى هذا الحدّ، فإنّنا سنخرج وحدنا ولن آخذ معنا أحدا. من أراد اتّباعنا فليتّبعنا، ولتقض هي كالكلبة، ما دام هذا مبتغاها."


هكذا صحت غاضبا، وسحبت سندة من يدها وخرجنا من البيت دون مزيد من الانتظار. قلت لخطيبتي التي كانت تقتفي أثري مرتاعة : "سأشرح لك كلّ شيء فيما بعد". وطلبت منها أن تكتفي الآن بالتّفكير في الجلوس خلفي معتدلة على درّاجتي النّارية. ثمّ تركنا خلفنا البيت والزّقاق والرّبط بأسره، قبل أن تبلغ المسخرة أوجها فتفرض عليّ أمّي أن أذهب لجلب تاكسي وأخذ أختي الكبرى إلى المستشفى.
كنت في ذروة الغضب. فقد كان مقرّرا أن نخرج جميعا لشرب قهوة بالمارينا بمناسبة عيد ميلاد خطيبتي سندة. يومها جاءت بنت النّاس تزور بيتنا لأوّل مرّة، وكان كلّ شيء على ما يرام حتّى قرّرت الآنسة روضة أن تستسلم، هكذا دون سابق إعلام، لإغماءتها العاديّة، بل كان عليّ أن أقول لمهزلتها الأزليّة.
فلقد تعودت سعادتها أن تضغط على زرّ خفيّ، فإذا هي مطروحة أرضا. ذلك أنّ أحبّ شيء لدى أختي العزيزة هو أن تكون محلّ اهتمام الجميع. هذا كلّ ما في الأمر. أمّي تعرف جيّدا أنّها تمثّل، ولكنّها دائما ما تجاريها وكأنّها تصدّقها. وهذا ما يشجّعها على مواصلة مهازلها. فإذا هي تفسد علينا برامجنا كلّما رأتنا سعداء أو بصدد الاستعداد للاحتفال بأيّ حدث أو للإقبال على أي نوع من أنواع الترفيه.
يشهد الجميع أنّ في أختي روضة ما يحبّب الجميع فيها. وهذا صحيح فعلا. ويشهد الله أنّني أحبّها أكثر من بقية العائلة. فهي خدومة وكريمة، تحبّ كلّ النّاس وتعطي أكثر ممّا يطلب منها. حتّى أنّها أحيانا، تزعج من يتمتّع بسخائها وينال مساعدتها.
مشكلة روضة الوحيدة أنّها ليست محظوظة. أو لأقلها بصراحة، أنّها ليست مخطوبة. فهي بكرة أمّي، تفصل بينها وبيني اثنتا عشرة سنة كاملة. ولكنّ مكتوبها أبطأ في الوصول. كلّ العائلة ترى أنّه أبطأ في الوصول أكثر من اللزوم. فلقد تزوّجت أختنا في البداية وتزوّج بعدها أخونا. ثمّ انعقدت خطوبة أختنا الثانية منذ السّنة الفارطة. وها أنا، قريّد العشّ، قد التحقت منذ شهر بصفوف المخطوبين. كلّ هذا وروضة تنتظر مكتوبها. حتّى لم تعد تؤمن بأنّ لها مكتوبا بالمرّة. فصارت سريعة التّوتّر، وصارت مرارة خيبتها في الحياة هي التي توحي لها بتصرّفاتها.


بدأ تصنّع روضة الإغماء على شاكلة نوبات الصّرع، يوم قرّرت أختنا زهرة، ثالثة أطفال العائلة، أن تتحدّى العرف وتضرب عرض الحائط بإرادة أمّها فتتزوّج قبل أختها الكبرى مهما كان الثّمن. في تلك الفترة، كان التّصنّع ظاهرا على نوبات روضة. حتّى أنّ أخي فوزي، الذي لم يكن قد تزوّج بعد، والذي كان يحتفظ دائما بقارورة أثير في خزانته، كان يسعى في كلّ مرّة إلى كشف كذبها أمامنا. ولكن، مع تقدّم الزّمن، تعلّمت روضة كيف تحسّن أداءها المسرحيّ. فاستطاعت في أحيان كثيرة، أن تجبرنا على نقلها عاجلا إلى المستشفى. وهناك كانوا يحقنونها بأيّ دواء مهدّئ، فتعود إلى البيت وكأنّ شيئا لم يكن.
كم مرّة حاول فوزي إقناعها بأنّ مواصلة إتيانها مثل هذا الصنيع، ستجعل الجميع يكفّون عن تصديقها ويتخلّون عن الوقوف إلى جانبها. بل إنّه كان يتوعّدها بقوله: "يوم تصيبك نوبة حقيقيّة، فإنّك لن تجدي أحدا يهبّ إلى نجدتك."
ولكنّ روضة كانت دائما تتفنّن في طمس عينيها بإصبعها، متناسية كلّ النّصائح ميّالة دائما إلى عكس الاتّجاه الذي يمليه العقل والمنطق. فهي ما إن تستشعر لحظة سعادة قادمة، حتّى تسعى إلى تحويلها إلى ساعة هلع عامّ، عوض أن تتقاسم لذّتها مع الجميع.


*****


قالت سندة مستنتجة : "مادام الأمر هكذا فلا بدّ أنّها الآن غاضبة عليّ أنا الأخرى". ثمّ نظرت إلى ساعتها مؤكّدة أنّه لم يعد بوسعها مزيد الانتظار. فالشّمس تميل إلى الغروب، وهي مطالبة بأن تكون قد عادت قبل هبوط الظّلام. رجتني أن أطلب أمّي في الهاتف لأحثّها على الإسراع إن كانت ترغب في اللحاق بنا إلى المارينا. ولكنّني تأكّدت حين نظرت بدوري إلى السّاعة، من ألاّ فائدة من مثل هذه المكالمة ومن أنّ أحدا لن يلتحق بنا وقرّرت أن نـحتفل هكذا، دون حضورهم.
كان احتفالنا باهتا. طلبنا مشروبا ومرطّبات واستهلكناها على عجل ودفعنا الثّمن. ثمّ انطلقنا في جولة على الأقدام، مجرّد ذهاب وإياب بلا روح على الكرنيش. وختاما اصطحبتها على درّاجتي النّارية إلى بيت والديها، وقد اكتملت خيبة أملها في الجوّ العائلي الذي وعدتها به.

*****

كان الرّبط يغطّ في الظّلام حين وصلت. وكنت جاهزا لأعطي أختي الكبرى درسا لن تنساه أبدا. ولكنّني، حين اقتربت من زقاقنا الذي لم تكن به في العادة أيّ إضاءة، رأيت إنارة خافتة تفيض منه على نهجنا الكبير. أوقفت محرّك درّاجتي في رأس الزّقاق، فإذا فانوس يتدلّى من السّطح مرتبطا بخيط كهرباء، ومشدودا إلى مسمار فوق باب بيتنا.

كان على جانبي الباب حوالي عشرين كرسيّا، يجلس عليها كلّ رجال الجوار، وبعض من الأقارب الذين لم أرهم منذ سنين. وكان يخرج من سقيفتنا صوت مقرئ يرتّل القرآن.
لقد توفّيت أختي روضة.

الهكواتي - المنستير

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

القصة والتراث

تكريم الهكواتي

أنا أيضا ... حوماني