آخر ملفّ

سنتي على جناح السّرد – النّص 29 من 53 – 05 سبتمبر 2008

آخر ملفّ

سمعت على بابي، قبيل آذان الفجر، نقرات خفيفة كأنّها نداءُ قادمٍ لا يريد أن يوقظ كلّ من في البيت. ذهبت لأفتح، فقط حتّى أتأكّد من أنّ على الباب طارقا، ومن أنّني لست أتوهّم الطّرق من شدّة ما أصابني من التّعب هذه الأيام. كان بالباب رجل لا عمر له، أبيض الجلدة، أقصد أبيضها فعلا، كأنّ بشرته حائط مطليّ بالجصّ. كان أبيض الشّعر أيضا، أبيض الشّاربين وأبيض الثّياب كذلك. وكان بيده ملفّ أبيض مكتوب عليه "الملفّ الأخير". فتحه ثمّ نظر إليّ وابتسم ابتسامة وديعة وقال بصوت حريري وكأنّه يزفّ إليّ خبرا رقيقا وسارّا:


" يا بن آدم، كدحت في هذه الأرض ما يكفي، وآن لك أخيرا أن تستريح. وإنّ اليوم ليوم الرّحيل."
كلام من البساطة، ونطق من الوضوح، بحيث لا يمكن لأحد أن يفهم منه غير ما فهمت. لست أدري إن كانت ابتسامته الوديعة قد زادتني اقتناعا بأنّ الموت شأن هيّن. فأنا لم أشعر بأيّ خوف، ولا حتّى فكّرت في ألم قد يصيبني من جرّاء هذه الرّحلة أو في حزن قد ينتاب من أخلّفه هنا بعدي. شعرت وكأنّني كنت أنتظر هذا الإعلام بفارغ الصّبر، مع أنّني لم أفكّر أبدا في الموت كحدث يمكن أن يعرض لي، وأنا ما أزال في ريعان القوّة ولا أشكو مرضا من أيّ نوع.
سؤال وحيد: لماذا يحمل ملفّي الذي بين يديه عنوان "الملفّ الأخير" ؟
حين رآني الرّجل مطرقا لا أردّ الفعل قال لي وابتسامته لا تفارق ثغره : "صعب ترك الفانية، خصوصا في مثل سنّك. سأمنحك بعض السّاعات تتهيّأ فيها للرّحيل على النّحو الذي تريد. فقط، يجب أن لا يعلم أحد، ولا حتّى أقرب المقرّبين."
وانصرف الرّجل الأبيض دون أن يسمع منّي كلمة واحدة، ولا حدّد لي عدد ساعات المهلة التي يمنحها لي قبل أن يعود لأخذي. وإن كانت كلمة "اليوم" لا تترك لي أملا في الحياة بعد المساء. تابعته بعينيّ وهو يمشي بخطى ثابتة، أخذت أعدّها خطوة فخطوة، حتّى وصل إلى رأس الزّقاق ودار إلى اليمين ليغيب عن مدى بصري. فركت عينيّ بأصابعي وطبطبت على خدّيّ كما لو كنت أريد أن أتأكّد من أنّني لم أكن أحلم. ثمّ استعذت بالله من الشّيطان الرّجيم، وعدت إلى غرفة النّوم فارتديت ثيابي دون أن أوقظ أحدا. وانصرفت على أطراف أصابعي .

*****

حين اقتربت من مسجد الحومة، رأيت عددا من المصلّين يحثّون الخطى للحاق صلاة الصّبح حاضرة. فناجيت خالقي في صدري: "ربّي إنّك أعلم منّي بصدق إيماني"، وعبرت أمام المسجد إلى الشّارع الرّئيسي كما تعوّدت العبور. ولكن، حين وصلت أمام الفطائري، سألت نفسي: "منذ متى لم آكل فطيرة في المدينة؟"


كان الدّكّان الصّغير ما يزال خاليا من الزبائن. فدخلته دون تردّد لآكل لأوّل مرّة فطيرة دون أن أشتري مثلها لأبنائي. هكذا لمجرّد اكتشاف طعم آخر فطيرة قبل وداع الحياة. وحين وجدت طعمها لا يختلف عن طعم كلّ الفطائر التي أكلتها قبل اليوم، ابتسمت وقلت في نفسي "سأضيف إليها قهوة بطعم قهوة الأمس، ولكن هذه المرّة بمقهى الميناء الذي لم تطأه قدماي من شهور".
كنت أنتظر، وأنا أبارح زقاقي لأقوم في وسط المدينة بجولتي الأخيرة، أن تكون الجدران والأزقّة والشّوارع والنّاس والمباني والبحر والسماء التي فوق الجميع، قد اتخذت كلّها أشكالا أخرى، واتّشحت كلّها بألوان مختلفة. كنت أعتقد أنّ نظرتي إلى الأشياء ستكون مختلفة هي الأخرى. ولكن وجدتني أتصرّف كما كنت أتصرّف دائما. ووجدت كلّ شيء كما عهدته تماما. وحين انتبهت إلى أنّني كنت كذلك أجلس إلى نفس الطّاولة التي جلست إليها في هذا المقهى من شهور خلت، كدت أندم على قبولي التّمتّع بهذه المهلة التي استحسنتها وإن لم أطلبها.
كنت، ولا شكّ، سأندم لولا هذه اليد التي حطّت على كتفي، فانتزعتني من تأمّلاتي. كان سي خالد رئيسي في الشّغل يبيّن لي أنّ الشمس تكاد تبلغ عنان السّماء ويدعوني إلى الكفّ عن تأمّل الأمواج، عارضا عليّ الرّكوب في سيّارته للالتحاق بمقرّ العمل في الوقت. عندها فقط لمست أنّ شيئا بداخلي قد تغيّر فعلا. رفعت نظري إليه ببرودة دم لم يعهدها أحد فيّ من قبل، وقلت له بكلّ بساطة إنّني لست ذاهبا إلى الشّغل.
لم أكن أدري أنّ كلامي سيزعجه إلى هذا الحدّ. فقد احمرّ وجهه فجأة، وانتفخت أوداجه وأخذ يصيح فيّ على مرأى ومسمع من كلّ حرفاء المقهى، ويتّهمني بتعمّد التّخاذل دخولا في مناورة تستهدفه، حتّى لا ينهي العمل المطلوب من مصلحته في الوقت المناسب. وهكذا فإنّه لن يحصل على منصب نائب المدير الشّاغر منذ أشهر، والذي يزاحمه عليه رئيس مصلحة آخر، قال إنّه اكتشف قرابة عائلية تربطني به.
كنت أنظر إليه بنفس برودة الدّم وأتفهّم موقعه تماما. فقد كنّا نشكّل في الإدارة مجموعة عمل نشيطة متجانسة، نعمل تحت إدارته على ملفّ حسّاس. وكان سي خالد يعوّل عليّ أكثر من تعويله على أي عنصر آخر من المجموعة. وكان لا يكفّ عن وعدي باقتراحي لتعويضه في رئاسة المصلحة، متى سُمّي هو في المنصب الشّاغر. وكان الوقت ضاغطا. فنحن مطالبون بإنهاء العمل على هذا الملفّ في ظرف اليومين المتبقّيين على الموعد الذي حدّدته الوزارة.
دعوت سي خالد إلى الجلوس دقيقة لنتحدّث في كنف الحميميّة عن أمور لا تخصّ غيرنا. قلت له إنّني لو كنت مكانه، لرددت الفعل بنفس الطّريقة تماما. ثمّ شرحت له أنّني مضطرّ إلى التّغيّب لارتباطي بموعد مصيري. موعد ليس لي أن أؤجّله ولا أن أخبره بطبيعته الآن. ودعوته إذا أراد التّأكّد من صحّة ما أزعم، إلى المرور على بيتي في المساء، واعدا إيّاه، "كان عشنا"، بأن أشتغل معه الليل كلّه إن لزم الأمر.


لم يظهر لي أنّه اقتنع تماما، ولكنّه ندم على كشف أوراقه كاملة أمام الملإ، وانصرف من المقهى محاولا كبت تشنّجه. بينما اضطررت أنا إلى القيام، متظاهرا بالذّهاب لقضاء الشّأن العاجل الذي منعني من العمل. مضيت أحثّ الخطى على الكرنيش. وحالما تجاوزتني سيّارة سي خالد وانعطفت لتسلك الطّريق إلى الإدارة، توقّفت عن السّير حالاّ لأفكّر في ما حصل وما سينجرّ عنه.
قلت في نفسي إنّني سأقابل وجه ربّي وقد كذبت حتّى وأنا بصدد التّمتّع بالمهلة التي منحها لي. والأدهى أنّني اقترفت ذنبا عظيما إذ وعدت سي خالد بما أنا واثق من عدم قدرتي على إنجازه إطلاقا. فما الذي يمنعه الآن من أن يعوّل على وفائي بالعهد الذي قطعته، فيؤجّل من عمل اليوم ما لا قبل له بإتمامه في الغد دون أن أمدّ له يد المساعدة هذا المساء ؟
كان عليّ أن أصارحه بأنّني لن أعود إلى العمل نهائيّا، وبأنّ الحصول على رتبة رئيس مصلحة لم يعد يغريني ببذل أيّ جهد بعد الآن. بل كان عليّ أن أعترف له بأنّ العمل كقيمة صار عندي موضع شكّ وإعادة نظر، حتّى وإن تحوّلت المهلة إلى إعفاء من الرّحيل تماما في هذا اليوم، وتأجّل موتي إلى موعد غير مسمّى. كان عليّ أن أقول له إنّ الحقيقة الوحيدة غير القابلة للإنكار في اعتقادي، والقيمة الوحيدة التي ينبغي الإيمان بها، هي الموت، وإنّني ما خرجت هذا الصّباح إلاّ لأقضي كلّ لحظة من هذه السّاعات المتبقّية في حياتي متمتّعا بكلّ ما سيتوفّر أمامي من ملاذّ الحياة.
كدت أنغّص على نفسي آخر لحظات مهلتي، فأنزل إلى الدّرك الأسفل من الشّعور بالذّنب تجاه سي خالد. ولكنّني استرجعت حرفيّا ما قلته له، فتأكدت من أنّني ما كذبت عليه ولا وعدته وعدا قاطعا. فالموت موعد مصيريّ فعلا بل إنّه لأهمّ المواعيد المصيرية على الإطلاق. ووعدي بمساعدته على إتمام العمل في الموعد كان مشروطا بالعيش إلى المساء، حتّى وإن كان الاستعمال السّائد لتعبير "كان عشنا" لا يتجاوز مجرّد الزخرف اللفظيّ.
هكذا استرجعت في التوّ كلّ ما كان يملأني من راحة نفسيّة وانقطعت عن التّفكير في أيّ شيء سوى المتع التي مازلت أرجوها من الدّنيا قبل رحيلي النهائي. فكّرت في المسألة طويلا، فوجدت أنّ شهواتي على درجة مربكة من البساطة. فما كنت أرجو أكثر من المشي بضع خطوات على الرّمل حتّى أشعر برجليّ تغوصان فيه فيغمرهما الموج. كذلك فكّرت في التّمتع بصحن فلفل مقلي وسردينة، فطور صباح، من أصابع أمّي الملاح، كما كانت تعدّه لنا على طول الصّيف عندما كنت صبيّا. وتلك رغبة نبعت من حرصي على أن أترك لها بالذّات هذه الذّكرى، بعد فراقنا، فسيسعدها كثيرا أن تشعر بأنها آخر من فكّرت فيه قبل رحيلي.
نزلت في الحال إلى الشّاطئ أمشي على رشم الماء حتّى الميناء العتيق. وقصدت السّوق فاشتريت رطلين من السّردينة وبعض الفلفل والطّماطم، ثمّ رجعت إلى البيت. وها أنا أتمهّل في فتح الباب، مستغرقا ما يكفي من الوقت لإلقاء نظرة الوداع على جدران الزّقاق وأبواب بيوته. حتّى إذا انفتح الباب أخيرا هالتني المفاجأة. فقد كان الرّجل الأبيض ينتظرني في السّقيفة، "بملفّه الأخير" وابتسامته الوديعة. وإذ رآني مندهشا قالها بلهجة لا يخالطها شكّ : "إنّه الآن وهنا".
هممت بأن أصيح فيه بكلّ ما في صوتي من قوّة إنّه هكذا يحرمني من أعزّ أمنياتي ومن أهمّ شهوة أردت التّمتّع بها قبل الذّهاب معه. ولكنّ صوتي اختنق في حلقي وأحسست بيد، ناعمة ومصمّمة في آن، تجذبني من كتفي بقوّة وصل معها إلى سمعي صوت زوجتي المذعورة، وهي تهمس في أذني اسم الله عشرات المرّات، وتدعوني إلى النهوض وشرب كأس من الماء والاستعاذة بالله من الشيطان الرّجيم.

*****

فتحت عينيّ لأجدني في فراشي وزوجتي تهدّئ من روعي وقد أيقظها اضطرابي وصراخي. هممت بأن أحكي لها ما كنت أرى في المنام. ولكنّني تراجعت وأخذت أحاول استرجاع أنفاسي مفكّرا في صمت في ما يمكن أن يعنيه هذا الكابوس الجميل، وأيضا في ما قد يكون لرواية أحداثه لزوجتي من تبعات قد تنقلب ضدّي.
كانت أوّل مرة في حياتي أتذكّر فيها الموت، وأراه هكذا عن مثل هذا القرب دون أن أخاف منه، إلاّ في اللحظة الأخيرة. حين رأتني زوجتي وقد فتحت عينيّ ورشقتهما في السّقف، بدأت تمسّح على شعري في حنان وتستميلني للحديث معها في مواضيع أجّلنا الخوض فيها أسابيع طويلة بسبب انصرافي إلى عملي المستعجل في الإدارة.
كنت هناك أستمع إلى زوجتي صامتا، أشعر بأنّها على مطلق الحقّ، ولا أعلن لها شعوري. وكانت هي ممدّدة إلى جانبي تذكّرني بكلّ ملفّات الإدارة ذات الصبغة العاجلة، تلك التي لم يكن إنجازها يستغرق أكثر من أيّام معدودة من العمل سريع النّسق، إلاّ أنّ عددها بدأ يتزايد أسبوعا بعد آخر إلى ما لا تبدو له نهاية. فكلّما ورد على مصلحتنا ملفّ عاجل جديد أكدوا لنا أنّه سيكون الأخير. وكنت أنا من ناحيتي أحلف لزوجتي، في كلّ مرّة، أنني أقبل الانخراط في جهد المجموعة الاستثنائيّ، على أن يكون هذا الملفّ الأخير الذي ألتزم به إلى هذا الحدّ، قبل التّفرّغ تماما لتلبية طلباتها هي.
كانت على حقّ وهي تكرّر للمرّة الألف لفت نظري إلى الإرهاق الشديد الذي أصبحت أعاني منه والذي بدأت آثاره على صحّتي تلاحظ بالعين المجرّدة. وكانت على حقّ أيضا وهي تصف حال القذارة والرّطوبة التي كانت عليها الجدران التي تؤوينا والسقف الذي كنت أواصل التحديق فيه متظاهرا بالاستماع إليها. في حين لم أنقطع عن وعدها، منذ سنة، بأن أهتمّ بالموضوع "في غضون الأسبوع على الأقصى". كما كانت على حقّ وهي تعدّد الأعمال المنزلية التي تتطلّب أن يقوم بها "رجل البيت وعماده" والتي كنت أماطل في القيام بها في انتظار الفراغ من عملي على الملفّ الأخير.
بقيت أستمع إليها في صمت مقتنعا تماما بأنّها على حقّ في كلّ ما تقول. وقد شجعها ارتخائي النّاتج عن شعوري بالتّعب يثقل كلّ أعضائي رغم ليلة كاملة من النّوم، والذي قرأت فيه استعدادي لكلّ أنواع التّنازلات، فكادت تطرح موضوع خلافنا الأبديّ، ذلك الذي ما تجرّأ أحدنا على طرحه، وحاول استغلال ضعف الآخر لفائدته، إلاّ ونغّص علينا عيشنا. ولكن، من حسن حظّنا معا، أنّ منبّه السّاعة انطلق في تلك اللحظة يعلن تمام السّابعة. عندها انتفضت من فراشي مصمّما كما لم أصمّم أبدا من قبل.


وأخيرا نطقت. نطقت نُطق رجل البيت وعماده، لأقول لها إنّ كلّ ما قالته كان صوابا، وإنّ كلّ طلباتها كانت مقبولة. إلاّ أنّني، للأسف، وطّنت اليوم العزم على أن أبعث كلّ الالتزامات إلى الشيطان وكلّ المواعيد إلى الجحيم، وأن أركّز كلّ اهتمامي على موضوع واحد فقط هو الملفّ الأخير، ملفّ الإدارة طبعا.

الهكواتي - تونس

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

القصة والتراث

تكريم الهكواتي

أنا أيضا ... حوماني