المتـراخية

سنتي على جناح السّرد – النّص 28 من 53 – 29 أوت 2008

المتـراخية

ليس خطئي أن كانت أمّي علّمتني أنّ المرأة ينبغي أن تعرف كيف تجعل الآخرين ينتظرونها. منذ أن كنت صبيّة تعوّدت على التّراخي قليلا، قليلا. إلى أن غدا البطء فيّ جبلّة. حتّى أمّي نفسها أضحت في النّهاية منزعجة ممّا علّمتني. فكلّ ما لا يستغرق في العادة أكثر من دقيقة واحدة، يأخذ منّي، بشكل طبيعيّ جدّا، ما يقرب من ربع السّاعة. خاصّة متى تعلّق الأمر باستعدادي للخروج. عندها ينبغي تخصيص ساعة كاملة، فقط للوقوف أمام المرآة.


إنّ تكرار التّأخير لمزعج بالفعل. وخاصّة بالنّسبة إلى الرّجال الذين يعتقدون أنّني أتعمّده، لمجرّد أن أجعلهم ينتظرونني. إنّهم لعلى حقّ في ما يخطر على بالهم، ولكنّهم مخطئون. هم على حقّ لأنّني لا أصل أبدا إلاّ متأخّرة، حتّى متى وعدت بأن أكون في الموعد بالضبط. وهم مخطئون لأنّني أكره فعلا أن أصل متأخّرة. نعم، إنّها لمفارقة، خاصة وأنا لا أتفطّن إلى تأخيري إلاّ عند وصولي إلى مكان الموعد. هنالك فقط، أتأكّد، وأنا الواثقة من وصولي في الوقت تماما، من أنّني لم أصل في الوقت بالمرّة، ومن أنّ عليّ عندها دفع الثّمن.
ولكنّني لا أتعمّد ذلك البتّة. ودليلي أنّني حين أفكّر في الأمر مليّا، أجد لكلّ تأخير منّي تفسير منطقيّ، وسبب خارج عن إرادتي. وكم مرّة أقمت الدّليل القاطع على هذا أمام غازي. ولكنه ظلّ يعتقد أنّني من هاتيك النّساء العالمات بكيفيّة الاستفادة من كلّ شعور بالحبّ تجاههنّ، واللائي يمتلكن دائما التّعلّة الملائمة لتفسير ما لا يفسّر وتبرير ما لا يبرّر.

*****

غازي هو خطيبي. تعرّفنا على بعضنا منذ ثمانية أشهر تأكّدت خلالها أنّه الرّجل الأمثل لي على كلّ الأصعدة. أمّا في ما تبقّى، فإنّني لعلمي بأنّ الحبّ يأتي مع المعاشرة، فقد بدأت أسمح لنفسي بإجابته من وقت لآخر بأنّني أنا أيضا أحبّه.
أمّا هو، فلقد أقام لي الدّليل وراء الدّليل على أنّه يحبّني حبّا جنونيّا، وعلى أنّه يراني لائقة له تماما، وعلى أنني سأكون المرأة المثاليّة لديه، لو توقّفت فقط عن عادة المجيء متأخّرة كلّما كان بيننا موعد. وكان يشرح لي موقفه بقوله : "كلّ شيء فيك أنت جيّد. ولقد أثبتّ لك، من ناحيتي، إلى أيّ مدى أنا مستعدّ لتقديم التّنازلات. وحده تأخيرك هذا يمثّل علامة احتقار، لن أسمح لنفسي بقبولها منك."
وحتّى يبيّن لي أنّه لم يكن مازحا في ما يقول، فها هو يقرّر للمرّة الثالثة تأجيل شراء خاتم الخطوبة لليوم الموالي. مع أنّنا كنّا التقينا بعد في مقهى الشّوّاشيّة، على مسافة أمتار من سوق البركة. فقد أقسم لي قائلا : "والله لن أشتريه لك إلاّ متى جئت في الموعد. أليست أقلّ علامات التّربية، أن لا تتركيني أنتظر يوم شرائي خاتم خطوبتك ؟"
وفي المرّة الأخيرة التي التقينتا فيها، لم يبق حتّى لمصاحبتي بعض الوقت كي أشرب قهوة. لقد كان فعلا غاضبا، فانصرف مباشرة بعد أن حدّد لي، على مزاجه، موعدا في العاشرة من صباح اليوم، منبّها إلى أنّها المرّة الأخيرة قبل أن يتّخذ قرارا أكثر حزما.

*****

لم تعجبني لهجة التّهديد التي اتخذها. ولكنّني في قرارة نفسي أعطيته الحقّ. لأنّ تأخيري أصبح في الحقيقة لا يطاق. بل إنّه صار أشبه ما يكون بالتّصرفات المقصودة سلفا.
قضّيت كامل نهار الأمس أفكّر في أنّني قد أكون تحت تأثير شيء ما في لا وعيي يدفعني دفعا إلى إضمار هذه التّصرفات دون أن أشعر. بل إنّني وصلت إلى طرح السّؤال على نفسي بكلّ وضوح : هل أنا أريد الزّواج منه فعلا، نعم أم لا ؟ وكانت الإجابة قاطعة : نعم. أي نعم، هو الرّجل الذي يلزمني وما عليّ إلاّ أن أكون أكثر انتباها، وأن أحاذر من خدش كبريائه بمثل هذه التّصرّفات الحمقاء.


في المساء، كنت شديدة الحرص على تعديل منبّه هاتفي الجوّال حتّى يوقظني في الساعة السّادسة صباحا، فنبّهني في الوقت تماما. حال ما استيقظت عدّلته من جديد لينبّهني حتّى أخرج من بيتنا في الساعة التاسعة، وفي التّاسعة تماما رنّ المنبّه وكنت جاهزة للخروج. وحين وصلت إلى أسواق المدينة العتيقة، كانت الساعة تقترب من التاسعة والنّصف. وكان أمامي متّسعا من الوقت حتّى لا أفوّت الموعد، ولكنّني قدّرت أن لا مجال للجلوس بالمقهى قبل نصف ساعة. لذلك عدّلت منبّه هاتفي على التّاسعة وخمس وخمسين دقيقة وأخذت أتجوّل في سوق البركة مراقبة أجمل خواتم الخطوبة.
بينما كنت أتأمّل الحليّ في الواجهات، ضبطت نفسي وأنا أفكّر في غازي. رأيتني في خضمّ حفل الخطوبة أمدّ له يدي ليضع في إصبعي الخاتم، فقلت في نفسي إنّه فعل طيّبا إذ أظهر حزمه معي. فقلد بدا لي أنني أصبت أخيرا بعشقه.
فجأة، دخلت إلى دكّان تعلن فيه السّاعة المعلّقة في الجدار، بكلّ وقاحة، تمام العاشرة وثلاثين دقيقة. أسقط في يدي، فأخذت أسحب من حقيبتي اليدويّة هاتفي الجوّال لأتأكّد من الوقت الصّحيح، وأنا مرعوبة من إمكان أن أفوّت بالفعل ميعادي، هذه المرّة أيضا. فوجدت الهاتف، يا ليأسي، منطفئا.
أخذت أحاول فتحه وأنا أجري بسرعة تنمّر لها صاغة سوق البركة، حتّى وصلت إلى المقهى. وحين لم أجد فيه أحدا بانتظاري، طلبت رقم غازي لأعتذر له عن تأخيري وأشرح له الأسباب، ولكنّني، يا ليأسي ثانية، وجدت هاتفه مغلقا.

*****

ما كانت لتبلغني من غازي علامة حياة، إلاّ حوالي السّاعة السادسة مساء. كنت قد أعددت بعد خطابا جميلا لأعلن له حبّي رسميّا بالبريد الالكتروني. فإذا منه خطاب هذا مضمونه :


"أخيرا فهمت أنّك لا تريدينني. لقد بارحت شقّتي بعدُ إلى غيرها، وغيّرت رقم هاتفي الجوّال، وها أنا أتأهّب لإتلاف هذا العنوان الالكتروني نهائيّا. لقد أحببتك، لو تدرين، فعلا. ولكن... وداعا."

الهكواتي – رأس الجبل

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

القصة والتراث

تكريم الهكواتي

أنا أيضا ... حوماني