مستودع الحجز

سنتي على جناح السّرد – النّص 27 من 53 – 22 أوت 2008

مستودع الحجز

كنّا أربعة شبّان لم نبلغ السابعة عشرة من عمرنا بعد. وكان خامسنا يبدو ابن أبيه المدلّل، وهو على مشارف العشرين، لا يرتدي غير الطّراز الممضى من الملابس. ولم يكن قد انتمى إلى مجموعتنا أبدا، ولا كنت التقيته من قبل. وكان قد نجح في استمالة أمّه حتّى أعارته سيّارتها الصّغيرة لكامل اليوم. وها خمستنا ننطلق من دوّار هيشر في اتّجاه تونس العاصمة، ومنها نقصد المرسى. ومرحبا بالشّاطئ.


كنّا من أبناء العائلات المسالمة، ولا أحد منّا الأربعة كان يملك ملّيما. ولكن ذلك لم يكن ليمنعنا من تحفيل الجوّ. كنّا جميعا "ترجّيين" وكان يكفينا لنشعر بالسعادة أن نغنّي "فورصة التّرجّي" ونخرج رؤوسنا عبر النّافذة لاطلاق صيحات نغيظ بها الشّباب من مشجّعي الملعب التونسي أو النّادي الإفريقي كلّما اعترضنا بعضهم في طريقنا.
أمّا كريم، لأنّ كريم هو محور الحديث هنا، فقد كان يبدو جدّيّا وكان يملك أربعة بطاقات بنكيّة في حافظة أوراقه. فأبوه قد فتح له أربعة حسابات في أربعة بنوك مختلفة، حتّى إذا لم يجد نقودا في هذا الموزّع الآليّ، استطاع أن يسحب من موزّع سواه. هذا على الأقّل تفسيره هو للمسألة.
ولأن كريم هو الذي دعانا ليهدينا يوم إقامة مجانية كاملة، بما فيها السّجائر، فقد كان عليه أن يسحب أموالا من موزّع آليّ على شارع الحبيب بورقيبة. وهكذا ركنّا سيّارتنا على الشّارع ونزلنا جميعا ننتظره على مسافة من البنك. ولكن، اتّضح أنّ الموزّع الآليّ الموجود على الشّارع الكبير، كان بالفعل خاليا من الأوراق النّقدية. ما جعل كريم يغيب في شارع باريس للبحث عن موزّع سواه، بعد أن أرسل لنا إشارة ليوصينا بالانتباه إلى سيّارة أمّه.


*****

لم تكد تمضي خمس دقائق حتّى حلّت الشّاحنة الرّافعة التابعة للشرطة البلديّة. فنزل منها عون وعامل بدآ يربطان سيارة كريم إلى الشاحنة ويوجّهان السّائق ويساعدانه على جرّها. فاتجه أربعتنا إلى الشرطيّ، نـحاول منعه من ذلك ونتوسّل إليه أن يعدل عمّا يفعله، أو على الأقلّ أن ينتظر دقيقة قصيرة حتّى يعود صاحب السّيّارة. إلاّ أنّه كان صارما:
- الوقوف هنا والتوقف، ممنوعان منعا باتّا. ولذلك فسيّارتكم صالحة للحجز.
لكم حاولنا أن نشرح للعون أنّنا كنّا على عجلة من أمرنا، وأنّ موزّع البنك الذي على الشّارع لم يكن فيه نقود، وأنّ صديقنا كان يملك بطاقات أخرى سيسحب بها من موزّع قريب في شارع باريس، فلن يبطئ كثيرا. ولكنّ جهدنا ذهب هباء. فها هي الرّافعة البلديّة تنطلق، جارّة خلفها سيّارة التزمنا بحراستها.

أخذنا نجري خلف الرّافعة البلديّة. فإذا هي تدخل شارع باريس. وحين رأينا كريما قادما من بعيد، ناديناه بكلّ قوانا. فإذا هو يلحق بنا ويأخذ في الجري معنا خلف الرّافعة، وإذا هو يخاطب العون ببرودة دمه المعتادة ولكن بصوت يحاكي صوت المخنّثين :
- يعيّشك سيّد العون، أعمل مزيّة على وخيّك شباب زوّالي. ورأسك وراسك السّيّارة هذه زايد تحطّوها في الحجز. البلدية ما تربح منها شيء. بابا يجيء يخرّجها لا صوردي لا قفصي. ماك باش تربح منها كان حاجة واحدة، تحرمني أنا من مصروف الجمعة. يعيّشك سيّد العون، تخاف يرجعلي الانهيار العصبي وتولّي إنت مسؤول.
ولكنّ العون ظلّ ثابتا لا ينثني. فتوقّف كريم عن الجري ودعانا إلى التّوقّف مثله. فتركنا الرّافعة البلدية تواصل طريقها نـحو مستودع الحجز، واتّبعنا كريما وكلّنا انبهار بموهبته في التّمثيل.
*****
قادنا كريم قرب نقرة لتصريف المياه المستعملة، ونظّمنا في حلقة حوله. ثمّ بدأ يلوّح برزمة من الأوراق النّقديّة قيمتها ضعف ما كان أبي يتقاضاه في شهر كامل من العمل. كان كريم يمسك ثلاثة من مئات الدّنانير بيد، وباليد الأخرى مفاتيح السّيّارة. وفجأة ترك المفاتيح تسقط في النّقرة وفضّ الحلقة مقهقها وقال:
- بوف... رخّكم منهم لولاد. وعدتكم بنهيّر "تو كمبري" (إقامة كاملة) في المرسى، فهمت كيفاش؟ وأنا عند وعدي، فهمت كيفاش؟ الفلوس كاينة ننجم ناخذ التي جي إم (قطار تونس المرسى). أمّا أنا هاك اللي شادد صحيح باش نمشي في كرهبة، فهمت كيفاش ؟ برّة اسبقوا لشارع محمد الخامس وأنا توّة دريجين بالمنقالة نكون حفت لكم وحيدة أخرى تفنفن، فهمت كيفاش؟


عندها فقط انتابني الفزع. فكريم لم يكن يمثّل علينا دورا جديدا هذه المرّة. لقد تركنا ليندفع نـحو أوّل نهج على اليمين متوقّفا حذو كلّ سيّارة جميلة ليراقب ما إذا كان باب إحداها قد ترك مفتوحا.

الهكواتي – رأس الجبل

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

القصة والتراث

تكريم الهكواتي

أنا أيضا ... حوماني