نوبة عصبيّة

سنتي على جناح السّرد – النّص 26 من 53 – 15 أوت 2008
نوبة عصبيّة
كانت آمنة دائمة الشّكّ في أنّ لأنور علاقة مشبوهة، خارج إطار الزّوجيّة. وكانت تعلن عن شكّها صراحة، أو تترك لسيّء عاداتها أن تفصح عنه عبر تفتيش كلّ أمتعته وتشمّم ملابسه والتّلصّص على أدقّ حركاته وتأويل أبسط فكرة يعبّر عنها.
أمّا هو، فكان في موقف أولئك الرّجال الذين لا يشعرون بالرّاحة في حياتهم الزّوجيّة، والذين يضطرّون لأسباب عديدة إلى التّمسّك بقريناتهم. كان يحلف لها دائما أن ليس في حياته غيرها، وأنّه يخلص لها لتمسّكه بمبادئ يؤمن بها، وليس لمجرّد التزامه بواجبات الزّوجية، وأنّه أضحى، لعلمه بأنّها لا تنقطع عن شكّها، يحتاج صبر أيّوب حتّى لا يستسلم للمغريات تدعوه في كلّ حين إلى خيانتها فعلا، بدافع الغيظ على الأقلّ.


في ذلك المساء، حلق أنور لحيته واغتسل جيّدا ولبس أجمل ملابسه وتهيّأ لحضور اجتماع جمعية قدماء أبطال الرّياضات الفردية، حيث كان من المفروض أن يتأخّر في السهر. كان ولداهما في المصائف. وكانت آمنة قد قرّرت، درأ للسّأم، أن تقضّي السّهرة مع أعزّ صديقاتها، سارّة، التي وصلت بعد لتأخذها بسيّارتها.
فجأة، جاءت لأنور مكالمة هاتفيّة. فبدا عليه ارتباك كبير وهو يُعلم زوجته بأنّ عليه الخروج حالاّ وبأنّه سيشرح لها كلّ شيء حين يلتقيان. كان واضحا لديها أنّه ذاهب للقاء عشيقته. ولكنّها تصرّفت وكأنّها لم تفهم شيئا. وإذا أنور ينطلق في الحال بسيّارته، لا يتصوّر لحظة أنّ زوجته كانت قد استعدّت من ناحيتها لكلّ الاحتمالات. لذلك لم يلاحظ هذه السّيّارة التي بدأت تقتفي أثره عن قرب. فقد كان يجهل كلّ شيء عن هذه الملاحقة التي انطلق تنفيذها في التّوّ على طراز أطوار الأفلام البوليسية.
كانت آمنة المسكينة تمسك بالطبع بدفّة قيادة العمليّة. وكانت أذنها ملتصقة بهاتفها الجوّال. وها هي في سيّارة صديقتها سارّة، تلاحق عن بعد سيّارة زوجها، تصف لها طريقها تعليمات هاتفيّة من سيّارة ثالثة.

*****

سرعان ما وجدت آمنة نفسها تغامر بدخول واحد من تلك الأحياء الهشّة القذرة معدومة المرافق. حيّ لم يخطر على بالها وجوده أصلا. كان الظلام قد انتشر بعد، وكانت آمنة التي أضحت ترتعش لمجرّد افتراض حدوث ثقب بسيط في إحدى العجلات، تعتذر في حرج لسارّة عن الزّجّ بها في هذا المكان الموحش.
ولكنّ أشدّ ما كان يحزنها اكتشافها أنّ غريمتها ليست سوى واحدة من بنات الأحياء القصديريّة. فذلك ما كان يؤجّج نارها فلا تفكّر في شيء عدى مسك زوجها الخائن متلبّسا. لن يلحقها منه بالطّبع أيّ أذى. فليست هي من تتسبّب في سجن والد طفليها، ولو كان هو يستحقّ السّجن. ولكنّها ستتلذّذ بالبصاق عليه وعلى عشيقته القذرة.
هاهي الآن تتعرّف على سيّارة زوجها الرّاسية على مقربة من غدير مياه ملوّثة. وها هي تدوس على قلبها وتنزل مندفعة دون خوف في زقاق شديد الضّيق، حيث تضطرّ إلى المشي بضع أمتار، مفحّجة رجليها فوق ساقية يتغذّى منها الغدير، تقود مباشرة إلى باب مفتوح يكشف عن فناء مدقع الفقر.

*****

كان أنور هناك يجلس على ما يشبه الكرسيّ، حذو باب مغلق، هو باب الغرفة الوحيدة التي يتكوّن منها المنزل. وكان يقف إلى جانبه يافع فارع الطّول عمره يقارب الخمس عشرة سنة ولكنّه يبكي بكاء طفل مفطوم لتوّه. كبت أنور مفاجأته وهبّ يدعو زوجته إلى الدّخول ويقدّمها إلى حسني، تلميذه في فريق ألعاب القوى :
- هيّا يا ولدي كفّ عن البكاء. هل تتصوّر أنّ زوجتي أيضا تحيّرت على والدك فتبعتني حتّى بيتكم، بالتأكيد في سيّارة أجرة. هيّا قبّل تاتا آمنة.

ثمّ التفت إلى زوجته يقدّم لها تلميذه مبتسما :
- هذا حسني الذي حدّثتك عنه، وهو أنجب من يتدرّب لديّ من عدّائي المسافات الطّويلة. ما كان عليك أن تتحيّري إلى هذا الحدّ، يا عزيزتي. فأبوه على أحسن حال. وقد جاءه الطّبيب بعد. وها هو يفحصه داخل الغرفة وسيّارة الإسعاف في الطّريق إلى هنا. أعتقد أن ما به ليس أكثر من نوبة عصبيّة. ولكنّه قد يكون في حاجة إلى المراقبة الطّبّية. فهذه المرّة الثالثة التي يصاب فيها بمثل هذه النّوبة منذ توفّيت زوجته من فترة وجيزة. على كلّ، فعلتِ حسنا إذ أتيت، وجميل أن تكونا قد تعارفتما بعد. لأنّ حسني سيأتي للإقامة عندنا بعض الوقت، متى تقرّر الاحتفاظ بأبيه في المستشفى.

الهكواتي - تونس

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

القصة والتراث

تكريم الهكواتي

أنا أيضا ... حوماني