دائرة الوسط

سنتي على جناح السّرد – النّص 18 من 53 – 06 جوان 2008

دائرة الوسط

لكزتني بمرفقها وهي تمرّ بجانبي، وصاحت فيّ مخاصمة دون أن ترفع عينيها عن الأرض:
- "هكذا تبقون إلى الأبد، لا غوث منكم للاجئ، ولا هداية لغريب تائه"
وانـحنت كما تنحني ممثّلة لتحيّة جمهورها مرسلة يدها بإشارة عريضة من سبّابتها إلى حديقة مفترق الطّرق أو "دائرة وسط الكون" كما سمّيتها من يوم زرعت فيها كرة أرضيّة. وحين قدّرَتْ أنّني استوعبت خطابها جيّدا وفهمت إشارتها تماما، استقامت لتواصل طريقها في اتجاه البحر لا تبالي بأحد.
لم يكن من عادتي أن أعير اهتماما لما تقوله دليلة. فهي امرأة نصف معتوهة معروفة بقرفها من صحبة النّاس وبصمتها الأزلي. وحتّى إن نطقت يوما فبما يخطر على بالها كما يخطر على بالها، تقوله لمن يعترضها في جملة قصيرة بإلقاء مسرحيّ مفخّم، بعده تحيّي بكلّ جدّ جمهورها الخياليّ وتمضي إلى سكوتها من جديد لا تنتظر جوابا ولا تحفل بأيّ ردّ فعل.
*****
هذه المرّة، وجدتني مدفوعا إلى الالتفات إلى حيث أشارت. فإذا شيخ يبدو غريبا عن المدينة كان يقف حائرا في قلب دائرة الوسط، يحوم حول منحوتة الكرة الأرضيّة متوقّفا عند كلّ من الشّوارع الأربعة يتأمّلها الواحد بعد الآخر وهو كالمنتظر قادما أو المتردّد في طلب نجدة. كان الوقت عصرا. وكان هو على ما يظهر من شيخوخته رياضيَّ القوام يرتدي معطفا أنيقا داكن الزّرقة وسروالا من نوع الدّجينز ويلبس في رجليه حذاء رياضيّا أبيض. كان يحمل على كتفه الأيمن حقيبة رياضيّة سوداء ويمسك بيده اليسرى عكّازا ثمينا يتوكّأ عليه حينا وحينا يحمله إلى مستوى عينيه يقيهما من أشعّة الشّمس وهو ينظر إلى الأفق. وكانت له لحية مهيبة مرسلة على صدره لا يعكّر بياضها غير صُفْرَةٍ تلتقط أشعّة الشّمس فتأتلق بها كالذّهب. أمّا شعره فكان ينسدل رماديّا لامعا يغطّي كتفيه ضفائر من فضّة تعلوها صلعةٌ فسيحة تلتمع فوقها حبيبات عرق كنثار الماس.
ما أثار شفقتي وأنا أنظر إلى الشّيخ أنّ الحرارة كانت شديدة، وأنّه لم يكن يحمل على رأسه مظلّة تقيه من ضربة شمس مدمّرة. بقيتُ على الرّصيف برهة أنظر إلى الرّجل وهو لا ينفكّ يحوم حول ذلك الأثر الفنّي ولا يعيره انتباها. كأنّه لم يكن معنيّا بالنظر إليه، ولا باستخلاص العبرة مما تمثّله المنحوتة. هي أرض تنبت من أرض. كرة أرضية تنبت على جذع زيتونة قائمٍ، ثابتٍ، ممتدّ الجذور في الأرض، يحملها ثمرةً مستقرّةً مطمئنّةً تهزأ بثورٍ كان على مرّ التّاريخ يحملها على قرنه مهدّدا بزعزعة استقرارها في كلّ حين بمجرّد عطسة.
رأيت الرّجل في خيالي متحفّزا يستعجل دوره لحمل الأرض على كاهله بدلا من جذع الزّيتونة، كما حملها الجذع إلى اليوم بدلا من قرن الثّور. ثمّ بدا لي وكأنّه كان مهموما يستعجل الانصراف من المكان خوف أن يُكره فعلا على القيام بهذه المهمّة الشّاقّة.
ابتسمت لطرافة الفرضيتين. ولكن كان عليّ، وحركة المرور من حول دائرة الوسط على تلك الكثافة، أن أفهم الأمور كما أرى واقعها لا كما يصوّرها لي خيالي الذي ربط عبثا بين هذا الغريب وبين دليلة المجنونة التي دلّتني عليه. لذلك قدّرت أنّه قد يكون وقع ضحيّة حبّ الاطّلاع فقادته ساقاه إلى الحديقة ذاتَ فسحةٍ، فإذا هو أسير دائرة الوسط يريد العودة من حيث أتى ولكنّ وعيه بهشاشته كشيخ يخيفه من أن تدوسه السّيارات. ولذلك إنّما كان ينتظر من يساعده على العبور إلى أحد الأرصفة.
*****
أقنعني تحليلي بعد طول تأمّل فأشرت على السّيّارات لتفسح لي الطّريق وغامرت بقطع المسافة جريا إلى دائرة الوسط. حتّى إذا وصلت استقبلني الشيخ بابتسامة الشاكر الواثق من قدراته. مددت إليه يدي لآخذ بيده وأعبر به الطّريقَ عائدا من حيث أتيت. فإذا هو يصافحها شادّا عليها بقوّة أذهلتني ويجرّني منها، مجبرا أو أكاد، لأطوف معه حول المنحوتة وهو يشير إلى الطّرق الأربع بعكّازه. ثمّ توقّف ونظر في عينيّ. فإذا له نظرة ثاقبة كأنّها مسبر ليزريّ يقرأ ما يضطرم في خاطري. وسألني بكلّ جدّ :
- "هل رأيت الطّرق جيّدا ؟"
أشرت برأسي مرتبكا أن "نعم"
- "طيّب -قال- هل تريد الآن أن تدلّني على الطّريق ؟"
حوّلت بصري عن عينيه هربا من قوّة مغناطيسهما وأخذت أصف الشوارع الأربع من ذاكرتي، واحدا بعد الآخر، وصفا دقيقا:
- "هذه تؤدّي إلى بحر السّواني... وهذه إلى سقانص... وهذه إلى الغدير... أمّا هذه فإلى المدينة العتيقة. و...".
حين أحسست بأنّه كان ينظر إليّ غير مقتنع بإجابتي، ختمت كلامي بسؤاله عن أيّ الطّرق يريد، وأيّ الاتّجاهات يقصد. فابتسم ابتسامته المطمئنّة قائلا:
- ليس لي مكان أقصد إليه بالذّات، ولست أفضّل طريقا معيّنة تؤدّي إليه. بل إنّ هذا الأمر، إن شئت الحقّ، لم يعد يعنيني الآن في شيء.
- ماذا تنتظر منّي إذًا ؟ -قلت-
- أعرف فقط ما لم أكن أنتظره منك-قال-. أنا لا أحتاج مساعدة على العبور. فأنا، وإن كنت أكبر سنّا من المرحوم والدك، مازلت قادرا على العدو بين السّيّارات بأسرع ممّا عدوت وبأكثر رشاقة. وأنا لا أحتاج إلى أن تصف لي من ذاكرتك طرقا خبرتها منذ أن كانت ترابا مغبرّا وعرفت جيّدا أصحابها وأتذكّر كيف انتزعت منهم وكيف سطّرت الشّوارع ثمّ عُبّدت وكيف نبتت على طول هذه المسالك دور وعمارات محلّ أشجار الزّيتون. ولكن قد يسرّني منك مثلا، وأنت الشّابّ المكتهل المتطوّع لمساعدتي، أن تتمكّن من قراءة هذه الطّرق كما تراها الآن من هنا، فتدلّني أيّها الذي عليّ أن أسلك، أنا بالذّات، وفي هذا الوقت بالذّات.
تملّكتني رغبة في الضّحك من هذا الجواب الغريب. ولكنّ الجدّية التي حدّثني بها الشّيخ والمغناطيسَ الذي كان يشعّ من عينيه جعلاني أخاف من أن لا أكون قد فهمت ما كان يختفي وراء خطابه من معان أو رموز. لذلك طأطأت رأسي وقلت في نفسي، وقد صدّقته وتأكّد لي من ملامحه أنّه عمّر بالفعل طويلا : مادام هذا الرّجل ليس غريبا عن المدينة، مادام يعرف أهلها وتاريخ بناياتها ومؤدّى طرقها، فهو، ولا بدّ، قد تضايق من تطفّلي عليه واقتحامي عالم تأمّلاته بدعوى السّعي إلى مساعدته. ما جعله يردّ على ما لم يصدّقه من حسن نيّتي بهذا الجواب المفرط في العمق الفلسفيّ أو الممعن في العبثيّة والهزء.
نظرت في عينيه، وقد زال ارتباكي، ثمّ اعتذرت له عمّا قد أكون سبّبته له من إزعاج. واستدرت أقطع الطّريق إيابا كما قطعتها ذهابا وهو لا يستمهلني ولا يبدو متعجّبا من ردّة فعلي ولا ينبس بكلمة واحدة ليردّ عليّ. كنت مصمّما على الانصراف من مفترق الطّرق دون الالتفات إليه. ولكنّني ما كدت أبلغ الرّصيف حتّى تسمّرت في مكاني منجذبا إلى دائرة الوسط أتابع باهتمام حركات الرّجل وهو يعيدها بنفس الشّكل ونفس الجدّيّة حائما حول المنحوتة متوقّفا عند كلّ طريق يتأمّلها في كلّ مرّة وكأنّه يراها لأوّل مرّة.
*****
بقيتُ ساعة على الرّصيف والمشهد أمامي نفس المشهد وأنا لا أقوى على الانصراف حتّى تأكّدت من أنّني لن أنصرف قبل أن أجد تفسيرا منطقيّا لما يحدث بدائرة الوسط، وأنّني مهما طال وقوفي هنا فلن أفهم من أسباب تصرّف الشّيخ شيئا إلاّ ما أراد هو أن يشرحه لي بنفسه أو ما تمكّنت من استنتاجه من أفعاله وأقواله. لذلك قرّرت أن أعود إليه فأستفزّه ليتكلّم.
قلت في نفسي، ما دام الرّجل يدّعي أنّه لا يقصد مكانا معيّنا ولم يعد يعنيه أن يسير في اتجاه معيّن، فلماذا لا أختبره فأتظاهر بأنّني اكتشفت الطّريق الذي عنه يبحث، وأدلّه على أيّ مسلك يخطر ببالي ؟ فإن اكتشف أنّني عابث فهمت أنّه جادّ في تأمّلاته فعلا وقلت له إنّني كنت أمازحه سعيا إلى أن أكرع من علمه صراحة ما لم أستطع تعلّمه بمتابعة حركاته ومحاولة فكّ رموزها كما اتّفق. أمّا إذا انطلى عليه عبثي فسيعني ذلك أنّه، ولا شكّ، مصاب في عقله وأنّه لم يكن يختفي وراء قوله المضحك أيّ معنى أو رمز يستدعي منّي تأويل ظاهر كلامه، وأنّ الرّجل لا يستحقّ منّي بالتالي أن أخسر مزيدا من الوقت في الاهتمام بشأنه.
كانت حركة السّيّارات قد هدأت من حول حديقة الوسط حين قطعت الطّريق إليه. وكم كانت دهشتي أنّ الشّيخ استقبلني بنفس البشاشة ونفس ابتسامة الشّاكر الواثق من نفسه التي استقبلني بها في المرّة الأولى. مددت إليه يدي فصافحها بنفس الحرارة وشدّ عليها بنفس القوّة قائلا :
- هل استقرّ رأيك على قراءة يمكن أن تدلّني بها على الطّريق ؟
أخفيت وجهي وراء كلّ ما أملك من أقنعة الجدّيّة والنّوايا الصّادقة ونظرت في عينيه بكلّ شجاعة كما لو كان في نظرتي نفس ما في نظرته من مغناطيس وأجبت:
- طبعا، أيها السيد، لقد وجدتها، هذه الطّريق. وجدتها ولهذا إنّما عدت إليك. انظر من هنا – وأشرت إلى طريق الغدير – تسلك هذه الطّريق حتّى يعترضَك مفترق كهذا به نافورة رخاميّة الحوض. تدور معها إلى اليمين فتترك وراءك المدينة العتيقة وتسير إلى الأمام. لا تلتفتْ يمنة ولا يسرة. ستعترضك سكّة فحاذر من القطار واقطعها وواصل الطّريق إلى الأمام دائما. ثمّ تعترضك مفترقات أخرى وأخرى. لا تهتمَّ بها وواصل طريقك إلى الأمام دائما. فلن يطلع الصّباح إلاّ وأنت على مشارف مدينة أخرى مختلفة تماما. هناك، اسأل أوّل من يعترضك عن الطّريق الأقصر. ولن تعدم بالتأكيد جوابا.
وجاء ردّ فعله سريعا وغير مطابق في تفاصيله لما كنت أنتظر. فقد كان مشحونا بحماس وفرح وصدق ما لمست مثلها في حديث أحد قبله. كنت أتلقّى جوابه وعيناي مشدودتان إلى نظرته الثّاقبة وسمعي منجذب إلى قوله انجذابا وأنا لا أكاد أصدّق ما أسمع ولا أدري إن كان ما يسطع من عينيه مخترقا أعماق كياني شعاع حكمة أم شعاع جنون. قال :
- هذا بالضبط ما أملاه عليّ تأمّلي الشّوارعَ الأربعَة. قد لا تصدّقني إن قلت لك إنّني رسمت لسيري نفس هذه الخطّة، وإنّني كنت على أهبة الانطلاق في تنفيذها حين وصلت أنت لتدلّني بكامل الدّقّة على كلّ تفاصيلها من نقطة الانطلاق إلى نقطة الوصول. أنت على حكمة نادرة. ولو لم يكن عليّ الانصراف حالاّ كي لا أضيع دقيقة واحدة، لمكثت معك بعض الوقت لتمتين العلاقة بيننا. ولكنّ القدر الآن يدعوني وأنا على عجلة من أمري.
صمت هنيهة ثمّ عانقني مودّعا بحرارة. كانت الدّموع تنهمر من عينيه كما لو كان يودّع عزيزا عليه. فكيف لا أقتنع هكذا بأنّ ما قلتُه له عابثا إنّما كان فعلا منتهى الحكمة ؟
وانصرف الرّجل يحثّ السّير في الاتجاه الذي وصفته له ولا يلتفت، حتى ذاب في عباب الشّارع. أمّا أنا فبقيت مذهولا أمام هذا السّؤال يعذّبني :
ما الذي يمكن أن يكون الشيخ قد قرأه وهو يتأمّل شوارع المفترق الأربعة، ليفهم أنّه هو بالذّات ملزم بالانطلاق من هنا في الحال سيرا في ذلك الاتّجاه بالذّات ؟
وما الذي كان يدلّ، في ما قرأه، على أنّ الكلام الذي قلته أنا بالذّات، والذي ما كان عندي إلاّ عبثا صرفا، كان يتضمّن في الواقع جوهر الحكمة الأزلية ؟
اختلطت عليّ السّبل. ولكنّني رجل عنيد بالفطرة، لا أنهزم بمثل هذه السّهولة. لذلك قرّرت من تلك اللحظة أن لا أبارح دائرة الوسط إلاّ متى قرأت في شوارع المفترق ما استطاع الشّيخ الغريب قراءته، وعثرت فيها لأسئلتي على الجواب الذي استطاع الشيخ العثور عليه. ولكن، كان عليّ لذلك أن أشرع سريعا في إعادة نفس الحركات التي قادت الشّيخ الغريب إلى مسلكه.
*****
كانت الشمس قد غربت وكانت فوانيس الإنارة العمومية قد عوّضت بعدُ ضوءَ النّهار حين رأيت دليلة تصل إلى المفترق من ذات الطّريق التي مضى منها الرّجل الغريب. ولكم فاجأني أنها قطعت الطّريق في اتجاهي. خلتها اعترضته وتريد أن تقول لي شيئا عمّا قاله كلّ منهما للآخر. ولكنّها لم تعرني أدنى اهتمام ولا طرحت عليّ أيّ سؤال. بل عبرت دائرة وسط الكون إلى الشارع المقابل ومضت، من جديد وكعادتها دائما، في اتجاه البحر. وتركتني أحوم حول منحوتة الكرة الأرضيّة متوقّفا عند كلّ من الشّوارع الأربعة أتأمّلها في كلّ مرّة كما لو كنت أشاهدها لأوّل مرّة.

الهكواتي - المنستير

تعليقات

‏قال غير معرف…
الكريم المبدع سالم اللبان
اقتباس:
"...ثمّ بدا لي وكأنّه كان مهموما يستعجل الانصراف من المكان خوف أن يُكره فعلا على القيام بهذه المهمّة الشّاقّة...".

كلمات ينثال منها أريج الغوص في حناياعميقةو استجلبت معانيها تلك الكلمات من هنالك...من حيث لا يمكن أن يُطلع عليها إلا بمجهود و خبرات غواص ماهر
فلك أطيب تحياتي و كل تقديري
و مزيد من توهج جذوة الإبداع
د.صالحة رحوتي
‏قال غير معرف…
رجل أمام الطرق
شيخ في العاصفة
امرأة من ذالك الزمان
إذا أخذ كلّ طريقه .. فأيّ طريق متبقية لك أيها القارئ ؟؟؟؟
محاولة طريفة في المسالك

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

القصة والتراث

تكريم الهكواتي

أنا أيضا ... حوماني