نوارس الجمعة 13

سنتي على جناح السّرد – النّص 19 من 53 – الجمعة 13 جوان 2008

نوارس الجمعة 13





صدّقوا أو لا تصدّقوا، والصقوا بي ما أردتم من التّهم، ودوّنوها إن شئتم على شاهدة قبري. ولكن هي شهادة كتمتها لجبني عقودا، وكان لا بدّ أن أفضي بها اليوم قبل أن أموت وعليّ ذنب حجب حقيقة أو جزئ منها يمكن أن يساهم في كشفها كاملة في يوم ما.
يذكر كبار السّنّ مثلي، ولا شكّ، حلقة كانت تنتصب كلّ عشيّة في بطحاء مقهى الباب تحت سور المدينة وتتكوّن من شبّان، منّا الزّيتونيّ ومنّا الصّادقيّ، كنّا نطلق على أنفسنا اسم "عصبة تحت السّور" تشبّها بجماعة تحت السّور التي كانت قائمة آنذاك في باب سويقة بالعاصمة مع تلميح خفيف إلى عصبة الأمم حيث كانت تدرس القضايا الدّوليّة.
ولعلّ بعض الأحياء مازالوا يذكرون أيضا عثمان المعتوه، أو عثمان الحفيان، لأنّه لم يكن يلبس حذاء في الصّيف ولا في الشّتاء. وقد كنّا ندعوه إلى مجلسنا فندفع ثمن قهوته ونلزمه بأن يقرأ علينا ما كان يدّعي أنه من مستحدث الشّعر، وهو كلام بسيط العبارة، غريب الإيقاع، ضبابيّ المعاني. كان قولا أقرب إلى سجع الكهّان قديما.
كنّا نتملّقه في بداية كلّ جلسة فنمدح شاعريّته لنستهض همّته للتّلاوة، حتّى إذا تلا انهلنا عليه نقدا مبرّحا لنثبت له، قبل أن ينهي شرب قهوته، أنّ كلامه لا ينتمي إلى الشّعر ولا إلى النّثر، أمّا الجدّة والطّرافة والإبداع فهو منها براء. فكان هو ينعتنا "بزمرة المتثقفجين الباركين" ويتنبّأ لنا جميعا بالفشل الذّريع. وكنّا نضحك من غضبه ووعيده كثيرا. أمّا أنا، فلئن كان موقفي من شعره لا يختلف عن موقفهم، فإنّني كنت حين ينفضّ الجمع، أنصرف يؤنّبني ضميري لمشاركتي الجماعة في الإثم والعدوان.


*****


كان كلّ أعضاء العصبة مجتمعين في "مقهى الباب" كالعادة. وكنّا نعلّق على وقائع لقاء ثقافي أقامته جمعيّة الشّباب الأدبيّ المنستيريّ*، وقد كانت آنذاك ما تزال موجودة تكثّف نشاطها كلّما حلّ الصّيف وعاد طلبة المدينة لقضاء عطلتهم. ولقد تناول الكلمة في اللقاء أحد المتفرنجين فزاغ بالحوار عن مساره، بدعوى معرفته بعلم الاجتماع. وراح يخلط تاريخ المدينة بقصص أوليائها الصّالحين ويؤكّد أهمّية دراسة كرامات "الكحلية" ويطنب في الحديث عن "المحارب" وعن "غار السّعود".
مازلت أذكر كيف احتدّ النّقاش يومها حتّى بلغ التّوتّر أشدّه. فقد تجرّأ واحد منّا على الدّفاع عن المتفرنج واتّهم الجماعة بأنّهم حاكموه على ما لم يفهموه من كلامه وأدانوه على ما لم يتركوا له مجال شرحه من مراميه. أمّا بقيّتنا، فكنّا مجمعين على التّنديد ببرمجة حديث عن خرافة "غار السّعود" فوق المنابر المحترمة، والحال أنّها أسطورة من لغو العجائز. وكنّا نتساءل مستنكرين هفوة هيأة الجمعيّة، إن لم يصبح اليوم من الجائز، باسم التّرقّي الثّقافي، أن نطالب بتسجيل خرافة "أمّي سيسي" ضمن برامج تدريس التّاريخ وأن ندعو المختصّين إلى إشباعها دراسة وتحقيقا ؟
- "جهلة وفخورون بجهلكم ... يا عرّة المتثقفجين..."



التفتنا فإذا عثمان المعتوه كان يقف وراءنا ويستمع إلى كامل جدلنا. كنّا مختلفين فوحّدتنا ضحتكنا من قول عثمان وقلنا نقطع هذا النّقاش الذي لا طائل من ورائه. ثمّ تغامزنا على دفع ثمن قهوة للحفيان نضحك بها على شعره قليلا قبل أن نفترق.
دعوناه إلى القراءة فإذا هو يرفض الجلوس إلينا صائحا فينا:
- "أنا لا أجلس إلى الحمير. لك الله يا مدينة المائدتين* فيما أنجبت من بهائم يقطنون الجنّة وهم لا يعلمون."
سألناه الإفصاح فأجاب :
- "عند بدء الخلق دفع الله آدم وحوّاء إلى الأرض فوقعا في القرّاعيّة*، وفي غار السّعود سكنا. ولأنّ الخلق ينتهي حيث بدأ، فمن القرّاعيّة تبدأ القيامة. وإنّها لقريبة وجهلكم أوّل علاماتها."
تحدّيناه أن يعطينا دليلا على ما يدّعيه فقال لنا :
- تابعوا تحرّك أسراب النّوارس إن كنتم من العارفين. فعلى مشارف غار السّعود، في أوّل جمعة قادمة تصادف الثالث عشر من الشهر، تأتي النّوارس من كلّ حدب لتحتفي بانبعاث الفينيق. من كتلة نار ينبجس طائركم المقدّس، من كدس رماد. ولكنّني واثق من أنّكم حينها ستكونون نائمين. فتبّا لقوم يبعث فيهم فينيق وهم عنه غافلون.
ثمّ انصرف عنّا مندفعا بدرّاجته نـحو القرّاعيّة، مزبدا، متوعّدا. ومرّت الأسابيع، وأوشك الصّيف على النّهاية، ولم ير عثمانَ الحفيان ولا ذكره منّا من يومها أحدٌ.


*****


حتّى كان ذات ليلة ، قادتني رجلاي صدفة وراء مقام سيدي منصور*، فإذا أنا أعثر فوق جبل غار السّعود الصّخري على رماد يغطّي بقعة شبه دائريّة، لا يقلّ قطرها عن الخطوتين. فبقيت برهة أتساءل في نفسي عمّن أوقد نارا هناك. وكان طبيعيّا أن أتذكّر عثمان الحفيان وما قاله لنا عن انبعاث الفينيق. حسبت الأيّام فإذا الغد يصادف يوم جمعة والثالثَ عشر من الشّهر أيضا. لعنت الشّيطان قائلا في نفسي إنّها ليست أكثر من مصادفة غريبة. ولكنّني قدّرت أنّني لن أخسر شيئا متى نهضت باكرا في الغد، فإن بُعث الفينيق أمام عيني شهدت حدثا خارقا، وإن لم يحصل من نبوءة المعتوه شيء أكون قد تمتّعت على الأقلّ بمنظر شروق الشّمس على صفحة الأزرق المالح العظيمة.
ومن الغد لبست أطمارا بالية وغطّيت رأسي بشاش ومظلّة من سعف النخيل، حتّى لا يتعرّف عليّ أحد فيتّهمني بتصديق لغو المعتوهين، وسبقت الفجر إلى جبل "غار السّعود". فاتخذت لي مجلسا على الدّكّانة، ظهر مقام سيدي منصور، تاركا على مسافة قصيرة منّي، الرّماد الذي كان الطلّ قد بلّله بحيث يستحيل أن تقوم من تحته نار.
وما إن بدأ البحّارة ينطلقون بزوارقهم من الميناء العتيق، حتّى تجمّعت على رأس الجبل حلقات من النّوارس لم أشهد هبوطها بمثل ذلك العدد على مقربة من بشر قطّ. وما هي إلاّ برهة حتّى بدأ الأفق يصطبغ بنور ورديّ الزّرقة. وإذا عثمان المعتوه يخرج من خلف السّلسول* حاملا درّاجته على كتفه، وماء البحر يقطر من ثيابه. قلت في نفسي إنّ الرّجل على ما به من جنون يصدّق ما يتنبّأ به ويحسب حساب الأيّام ليشهد الحدث الذي يدعو الناس إلى حضوره. ولكنّ عثمان أسند درّاجته إلى صخرة وأدار ظهره إلى الرّماد الذي افترضت أن يستيقظ منه الفينيق. ثمّ رفع يديه كالمتضرّع إلى الله، مولّيا وجهه إلى الشّرق، منقطعا عن كلّ حركة وكأنّه يتجفّف على الشّمس الطّالعة.


*****


أشهد للحقيقة وحدها أن لم يكن في المكان من البشر غيره وغيري، وأنّ البحّارة، كلَّ البحّارة، وصلوا بزوارقهم إلى أمواج بعيدة لا تمكّن أحدا منهم من أن يصيب أحدا على اليابسة بأذى. كذلك أشهد أنّني ما سمعت أيّ طلق ناريّ من أيّ جهة. فقط كانت أسراب النّوارس تتدافع نـحو عثمان. كانت تطير وتحطّ بالعشرات من حوله وعلى رأسه وعلى كتفيه. وهو هناك، كالصّنم لا يتحرّك. أمّا أنا فكنت على دكّانتي مندهشا من هذه الألفة الغريبة بين الطّير والبشر.
فجأة تسارعت حركة النّوارس حول عثمان المعتوه الذي ظلّ ساكنا. طيرانا دائريّا كان، والسّرعة مذهلة. إعصارا كان تنفثه أجنحة النّوارس. صوتٌ أصمٌّ كطنين ذبابة عملاقة مزّق صمتا كان يلفّ أذنيّ. وكتلة نور انبجست أمام عينيّ كادت تختطف منهما البصر. وهذا عثمان الحفيان يلتهب في أقلّ من طرفة عين.
وفي الحال هدأ الإعصار بأسرع ممّا انفجر. فإذا كتلة النّور تتخذ حجم كتلة لهب عملاقة تنفصل عن جسد عثمان المتفحّم وتصّاعد ببطء إلى عنان السّماء. آلاف النّوارس تـخفرها، توحّد صياحها في سمفونيّة جنائزيّة مؤثّرة. ومن حولها الكون يغطس من جديد في الصّمت والخشوع.
لم أدر كيف وجدتني أمشي حتّى المكان الذي كان يقف فيه عثمان قبل احتراقه. لم يبق من جسده الآن سوى كدس رماد جديد على صخر جبل غار السعود. انـحنيت، مددت أصابعي لألمس ذلك الرّماد فإذا جسدي يتجمّد تماما، وإذا صوت عثمان يضخّمه الكون في عظمته يصيح بي محذّرا :
- "لا تلمس رمادي أيّها المتثقفج البائس. دعه للرّيح تنشر أريجي في الكون. فغدا أدعوني من كلّ أفق بعيد، غدا أنهض إذ تكون وزمرتك في عداد المنسيّين."



كم قضّيت من الوقت متجمّدا والخوف يسلب منّي كلّ إرادة ؟ لا أصابعي قادرة على ملامسة الرّماد ولا أنا قادر على النّهوض للهروب بجلدي. كم ساعة قضّت النّوارس ترتفع بكتلة اللهب إلى عنان السّماء ؟ لست أدري. كلّ ما أدريه أنّني لم أثب من دهشتي إلاّ والشّمس قد انفصلت عن الأفق، وهؤلاء البحّارة يعودون بزوارقهم إلى الميناء. جريت ألملم خوفي ودهشتي منحدرا إلى مدخل الميناء، تاركا ورائي درّاجة يتيمة لن يعلن عن ضياعها أحد.
تظاهرت بأنّ جريي كلّه كان حرصا على لحاق نصيبي من السّمك الطازج قبل أن يمضي به البحّارة إلى باب بريقشة*. وكم كانت دهشتي حين ناداني أحدهم، وقد منعه تنكّري من التّعرّف على هويّتي، ودعاني مستحلفا:
- والله أيّها الغريب لتأخذنّ من السّمك ما شئت مرقتك حلالا بلالا. لن تدفع صوردي واحد. صبّحت عليك هذا الفجر فإذا اليوم مبارك وإذا الصّيد أوفر من أيّ يوم مضى.
لم أصل إلى بيتي إلا وقد هدأ روعي. ولقد حملت معي من غليظ السّمك يومها ما لم يدخل داري أبدا من قبل ولا من بعد.



*****


ومرّت الأيّام فشاع خبر بأنّ عثمان الحفيان قد لحق عذراء جاءت توقظ سعدها في غار السّعود فأرغمها على المبيت معه في الغار وقضّى الليل كلَّه يغتصبها وقبل طلوع الفجر فرّ من المدينة عدوا تاركا لها درّاجته تذكارا.
أمّا أنا فقد سمعت الكذبة وردّدتها مع الجميع كما شاعت في النّاس. حتّى أنّني كدت أصدّقها. بل كنت كلّما رويتها أقسمت بأنّ عثمان المعتوه لن يعود إلى المدينة أبدا. واليوم، فلولا شبح الموت الذي بدأ يلاحقني ويذكّرني كلّ فجر بأنّه عليّ أن أتطهّر قبل فوات الأوان، لما كنت رويت لكم هذه الوقائع كما عشتها.


الهكواتي - المنستير


----
* جمعيّة الشّباب الأدبيّ المنستيريّ كانت نشيطة من ثلاثينات القرن العشرين وحتى أواخر خمسيناته – المحارب والكحلية وسيدي منصور من أولياء المنستير الصّالحين. يقع ضريحا هذين الأخيرين بشاطئ القرّاعيّة. ووراء سيدي منصور يقع غار السّعود الذي تقول الأسطورة إنّ سعود الصّبايا تنام فيه إلى أن يطرق أبوابهن العرسان وإلاّ فلا بدّ من إيقاظها رميا بالحجارة داخل الغار وتقديم وليمة كسكسي للنّوارس - المائدتان الكبرى والصّغرى جبلان ممتدّان في بحر القرّاعية، والسّلسول مثلهما ولكنّه أقصر وأكثر امتدادا لكأنّه عمود فقريّ – باب بريقشة واحد من أبواب المنستير وهو يفتح على سوق السّمك.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

القصة والتراث

تكريم الهكواتي

أنا أيضا ... حوماني