معلمتي الجليلة،،، عذرا

سنتي على جناح السّرد – النّص 12 من 53 – 25 أفريل 2008

معلمتي الجليلة،،، عذرا
سيّدتي، معلّمتي الجلية،
لست أدري لماذا اضطربتُ بمجرد أن رأيتك ؟ لماذا فاجأتْني رؤيتُك أنت بالذات في ذلك المكان بالذّات ؟ لماذا بقيَتْ في ذهني، منذ أكثرَ من عشرين سنةً، صورةٌ عنكِ تحشرك في زمرة أعداء وسائل التّربية الحديثة، من يرفضون تلقّي أيِّ معرفة جديدة ؟ ولماذا تمنعُني هذه الصورة من مجرّد قَبول ظهورك في فضاء ثقافي كحدث منطقيّ ؟
معذرة، معلّمتي الجلية، فقد تكون هذه الصّورة راسبة في ذاكرتي إلى الآن، لأنني لم أكن أتوفّر في تلك الفترة على ما تهيّأ لي اليوم من وسائل الاشتغال عليها لمحوها نهائيّا كما محوت غيرها من الصّور الخاطئة، وللسّيطرة على مسبّباتها كما سيطرت على غيرها من الذّكريات الأليمة.
ولكن لماذا وجدتُني أضطرب هكذا ؟ لماذا انتابني فجأة شعور بأنّني مازلت بعد طفلا في الثالثة عشرة، والحال أنني أقترب من الأربعين ؟ لماذا تهيّأ لي، وأنا الذي دخلت معترك الحياة من سنوات طويلة، أنّني مازلت بعدُ تلميذا في السنة الأولى من التعليم الثانوي ؟ ولماذا بدا لي الفضاء الذي جمعنا صباح أمس وكأنّه قسمُك بالمعهد وليس قاعةَ محاضرات مفتوحةً لعموم النّاس ؟
فجأة، تمنّيت أن أذوب في ذلك الزّحام. تذكّرت كيف أنّكِ أقصيتِني من قاعة الدّرس في حصصٍ ثلاثٍ متتاليةٍ أفضت بي إلى مجلس التّأديب، ولم أرك من يومها إلى يوم الناس هذا. خفت منك، صدّقيني، وخشيت أن تعملي على طردي من قاعة المحاضرات أيضا، أمام كلّ هؤلاء النّاس الذين تجمّعوا هناك دون أن يعرفوا من حكايتي معك شيئا. خفت، والحال أنّ المكان عمومي، وليس لك هذه المرّةَ أيُّ حقّ في إقصائي منه كما أقصيتني من قسمك:
- "سرّاج الغبّي... إلى القيّم العام... أنت مرفوت من الحصّة... وسأعمل على رفتك من المعهد... قدركَ أن تبقى جاهلا مدى الحياة... ولن أقودَك إلى جنّة العلم بالسّلاسل... أخرج حالاّ من قسمي."

معذرة، معلّمتي الجليلة، ولكن فجأة، بدا لي هكذا، وأنا الواثق من أنّك لم ترَيْني ولم تنبُسي بحرف، بدا ليَ، قلت، وكأنّني أسمع صراخك هذا ينزل على دماغي الصّغير ِمن جديد نزول المطارق، من بُعد أكثر من عشرين سنةً خلت، ويتردّد صداه في قاعة المحاضرات. كأنّما كنت تتوجّهين إليّ مباشرة بهذا الكلام، بقصد فضحي أمام هذه النّـخبة من المختصّين وأهل العلم وذوي الفضول المعرفي، كما فضحتِني أمام رفاقي في القسم أيّام زمان. فكادت أعصابي أن تنفلت منّي كما انفلتت أيّام زمان، وكدت أردّ عليك أمام الملإ بوقاحة ذلك الطّفل الذي لم تَتْرُكي له من سلاح إلاّ الثورة العشواء على كلّ قواعد الآداب.
أدرت لك ظهري لأتحاشى تعرّفَك عليّ. ثمّ خرجت بسرعة وانـحشرت في المراحيض. تركت في القاعة عددا من الأصدقاء، كانوا قد التفّوا حولي مرحّبين بلقائي بعد غيابي الطويل. وقد كان من بينهم "بوحامد"، رفيقٌ كان تلميذَك هو الآخر يدرس معي في نفس القسم. وهو اليوم مدير في وزارة التربية. إنه ما يزال يذكر تلك الأيّامَ الأليمة كما لو أن أحداثها دارت البارحة. أعلمني حين سألته عنك بعد النّدوة، أنّه مازال على علاقة وثيقة بك. وقد استحسن منّي فكرة مكاتبتك وأعطاني عنوانك لهذا الغرض.

*****

سيّدتي، معلّمتي الجلية،
حين انزويت في المرحاض، وجدتني وجها لوجه مع ذكريات خلت أنّني سيطرت عليها، بل ومحوتها من ذاكرتي تماما. ولكن يبدو أنّ من الذّكريات ما لا يمكن محوُه، خاصة تلك التي تعود إلى عهد المراهقة. وقد كنت في تلك الفترة أمرّ بأعسر أيامها.
اقتربت من نافذة المرحاض وفتحتها معرّضا وجهي للهواء البارد النّقي وشرعت في تمارين تنفّس كامل تعوّدت عليها من سنين وأثريتها بطريقتي الخاصّة:
أُخرج منّي الهواء بكلّ رفق. فأُفرغ بالترتيب بطني فصدري فأعلى رئتيّ فمنطقةَ الحلق والأذنين وقاعَ الجمجمة. أدفع الزّفير حتّى أتأكّد من فراغ كلّ جيب من هذه الجيوب فراغا كاملا. ثمّ أستنشق الهواء بنفس الرّفق وبنفس التّرتيب. فلا أنتقل إلى جيب إلاّ بعد التّأكّد من امتلاء الجيب الذي سبقه. وعندما أحسّ بامتلائي بالهواء امتلاء كاملا، أبدأ بإخراج شحنات التّوتّر والألم العاطفي. فأحمّل حركة التّنفّس المتكاملةَ المنتظِمةَ على هذا الشّكل، حركةَ أفكار نيّرة أستقبلها شهيقا وأخرى ظلماء أتخلّص منها زفيرا.
بدأت الشّهيق مستحضرا صوتا داخليّا يغمرني مع الهواء لأسمعني أقول :
- هواء الغفران يغمرني... هواء الغفران يملأني... أنا أكبر من ظالمي... أهبُه العفو وأنسى ما سبّبه لي من ألم.
أخذت أعيد هذه الجمل المتتالية حتّى امتلأت كلُّ جيوبي هواء نقيّا. ثم شرعت أفرغها من كلّ الهواء الفاسد محاولا السّيطرة الكاملة على تشنّج صوتي الدّاخليِّ إذ غدا يخاطبك بقوله:
- نعم، ظلما طردتِني أوّل مرّة، يا سيّدتي. صحيح أنّني كنت كثيرَ الحركة عادة، قليلَ التّركيز على درسك. ولكنّ المشوِّش يومها كان تلميذا آخر. تذكري، يا سيّدتي، سفيان الجيّار. كان تلميذا طويلا، قويّ البنية، يخافه كلّ التّلاميذ. لقد كان إقصائي يومها ظالما تماما. فكيف لم تفهمي أنّ كلّ الرّفاق ما شهدوا إلاّ زورا وأنّهم ما تألّبوا عليّ إلاّ لكوني ضعيفَ البُنية مسالما لا يخافني أحد منهم كما يخاف بطش سفيان ؟
وعاد صوتي الدّاخليُّ محمّلا في شهيقي بهدوء الحكمة وطمأنينتها :
- ولكن ها أنّ هواء الغفران يغمرني... هواء الغفران يملأني... أنا أكبر من ظالمي... أهبُه العفو وأنسى ما سبّبه لي من ألم.

*****

وتواصل الحوار متواترا بين صوت الشّهيق وصوت الزّفير. كنت أحاول إقناعك في خيالي بأنّني لم أكن أبدا أكرهك، ولا كان لي أبدا قصدُ عرقلةِ سير دروسك ولا منعِ رفاقي من الفهم والتّركيز. بل كنت أنتظر منك أنت بالذّات، فقط قدرا أكبر قليلا من التّفهّم، تجاه طفل مختلف قليلا عن الآخرين.
فقد كنت في الواقع دائم الانسياق مع الحلم تدفعني إليه أسئلة محيّرة. وحتّى متى اشتدّ حرصي على التّركيز، فقد كانت الرّياضيات مادّة تصيبني بالتعب بسرعة مذهلة. فإذا خيط التّواصل بينك وبيني ينقطع في الحال. وإذا وسيلتي الوحيدة للفت انتباهِك إلى أزمتي، تحرّكي في القسم بلا وعي ولا داع.
هل تذكرين يوم جاء أبي إلى المعهد لمقابلتك ؟ لقد أصخت السّمع يومها عبر النافذة، فسمعته وهو يشرح لك كيف أنّ صنفا من الأطفال يبدو عليهم ذكاء يفوق معدّل ذكاء أندادهم، ولكنّهم يتصرّفون في القسم رغما عنهم تصرّف من هم أصغر منهم.
نعم يا سيّدتي، لقد شرح لك أبي كلّ ما قاله له الطّبيب عن حالتي. كنت تعلمين جيّدا، من قبل حدوث ما حدث، أنّني من أولائك الأطفال الذين يواجهون صعوبة في تعلّم بعض الموادّ تسمّى "الدّيسلكسيا". وقد خيّل إليّ أنّك، من أجل حثّي على التركيز، وعدت أبي بأن تكوني أكثر تفهّما وبأن تبذلي جهدا إضافيّا لتحمّلِ شرودي وتشريكي أكثر في القسم وتنشيط اهتمامي بانتظام.

*****

شهيق... فزفير... فشهيق جديد محمّل بصوت يخفّف عنّي توتّري... يعيد إليّ كامل هدوئي... يقنعني بأنّ هواء الغفران يغمرني... يملأني... فيجعلني أكبر من ظالمي... أهبُه العفو وأنسى ما سبّبه لي من ألم.
شهيق مهدِّئ... فزفير محمَّل بعتاب إليك أوجّهه ... فلشدّ ما آلمني منك توصُّلك إلى وضع أبي في صفّك، وإقناعِه بأنّني إنّما كنت أستغلّ ذكائي للتّلاعب بك وبه في نفس الوقت، ولتحدّي سلطة العائلة وسلطة المدرسة وسلطة الرّياضيات في برامج الدّراسة في آن واحد.
واقتنع أبي وهو الذي كان أكثر الناس تفهّما لمشكلتي، اقتنع وهدّدني بأقصى العقاب متى طردت ثانية من درسك أنت بالذّات.
كنت صادق النّيّة والله، ولكن وصلتُ إلى وضع لم يعد يصدّقني معه أحد. صار الخوف من الطّرد هاجسي الأساسيَّ والوحيدَ. وهو الذي دفعني إلى ارتكاب الأخطاء : خطأ يجرّ خطأ يفضي إلى خطئ ثالث. وجاءت حصّة الرّياضيات. وشاءت ظروفي أن أنسى تماما إعداد التمارين التي كلّفتِنا بإعدادها في البيت.
ولأنّ النّسيان كان عندك مرادفا للرّفض، فإنّني لم أجد من وسيلة للدفاع عن نفسي سوى الكذبِ فكذبت، عسى الكذبَ يحميني من عقابك وعقاب أبي. ولكن كانت كذبتي ساذجة إلى حدّ أنّك عرّيتِها ببساطة أمام كلّ التلاميذ. بل إنّك دفعتهم إلى التّهكّم عليّ ونعتي بالأبله.
وكما لو أنّ اعترافي بأنّني كذبت بدافع الخوف من أبي لم يقنعك بحسن نيّتي، وكما لو أنّ تهكُمَ التلاميذ عليّ بذلك الشكل لم يكن عقابا كافيا لي على نسياني إعداد درس رياضيات، وجدتني لا أظفر منك، حين استجديتك لحمايتي من عقاب أبي، سوى بطرد جديد من حصّتك يوصلني حتما إلى أقصى ما كنت أتهيّبه من درجات العقاب في البيت.

من يومها انفلت في ذهني كلّ ضابط ودخلت في حلقة مفرغة رهيبة : خوف يؤدّي إلى كذب وكذب إلى عقاب وعقاب إلى فقدان الثّقة في البالغين جميعا ومن ثمّة إلى الخوف من جديد. لا شكّ في أنّني كنت مخطئا ولكنّ عقلي الصّغيرَ صار يعتبركم جميعا أعداءَ لي. فلا أحد منكم كان يصدّق حسن نيّتي. كلّكم كنتم تعتقدون أنّني كنت أستغلّ ذكائي في الشّرّ.
إذا كانت هذه قناعتكم فلماذا لا أردّ الفعل بما تتصوّرون ؟ سؤال، ليتكم لم تدفعوني إلى طرحه. كنت واثقا من أنّك ستطرديني مرّة ثالثة. لذلك أعددت العدّة... وجاءت حصّةُ الرّياضيات الثالثةُ وكان ما لا مناص من أن يكون.

*****

الآن وقد مرّ على تلك الواقعة المؤلمة أكثر من عشرين سنة، فلست أذكّرك بها حطّا من مكانتك، ولا خدشا في كرامتك. وبعيد عن ذهني الاحتفاء بذكرى انتصار طفل مراهق على أستاذته. وإنّما أذكّرك مادّا يدا مصافحة تلتمس منك معذرة وغفرانا، واقفا لمعلّمتي، ولو بعد سنين، لأوفّيها التبجيل. فما كنت أيّامها إلاّ طفلا قادته المراهقة من حيث لا يعي إلى وضع مطلق سلطة المربّي موضع مساءلة، وليس بالمرّة إلى المسّ من شخصها. ويقيني أنّ في شدّك على يدي الممدودة سعيا إلى خيرك وخيري في نفس الوقت.
- هواء الغفران يغمرني... هواء الغفران يملأني... والغفران أن تطلب الغفران أحيانا... أنا أكبر من التمادي في الخطأ ... أعترف بأنّني ظلمت كما ظلمت... فأهب عفوا وأطلب عفوا... عسى أنسى اليوم ألم الذّنب كما نسيت بالأمس ألم الظّلم.
بهذا الشهيق المطوّل تهيّأت للزفرات الأخيرة. فقد كانت الأعسر على الإطلاق. وقد كنت بها أطرد شعورا بالذّنب تجاهك مازال يؤرّق الكهل فيّ ويحرمني أحيانا من النّوم كامل اللّيل. نعم يا سيّدتي كان قصدي أن أوجّه لمن لم يصدّق أنّني كنت أكذب بحسن نيّة، رسالة مفادها أنّه يمكن لطفل مثلي أن يُدفع لاستغلال ذكائه كما يستغلّه الكبار تماما، أي في تدبير كذبة بهدف الإساءة الخالصة.
معذرة، معلّمتي الجليلة، لا فائدة من ذكر التّفاصيل. فقد يقع هذا المكتوب بين يدي غيرك فيَضُرّ من حيث أردت له أن ينفع. بقي عليّ فقط أن أعترف لك بأنني كنت، يوم إقصائي الثالثِ، ظالمـَك من البداية إلى النهاية. لقد أوقعتك في فخّ هيّأته جيّدا لأدفعك إلى الإقرار رغما عنك بحقائق كان الجميع يجهلها وكنت تبنين على استحالة كشفها هيبتَك ومكانتَك. وليتني لم أكشفها. فلم أكن أدري أن الإساءة ستلحقني من كشفها كما لحقتك أو أكثر.
في مجلس التّأديب، اعترفت بكلّ تفاصيل فعلتي الشنيعة من قبل أن يطلب منّي أحد أيّ اعتراف. كنت أعرف تماما ما كان ينتظرني، مقتنعا بعدالة قرار المجلس حين صوّت على طردي من كلّ مؤسّسات التعليم العموميّة. ذلك العقاب، كنت أعرف تماما أنني كنت أستحقّ.

*****

شعرت بالارتياح وعاد الهدوء إلى أعصابي. ولكن لم أعد من المراحيض إلاّ حين تأكّدت من سُكون الحركة تماما. وجدت "بوحامد" وبقيةَ الأصدقاء في انتظاري أمام قاعة المحاضرات وقد أخذ كلّ النّاس أماكنهم وشرع مقدّم النّدوة بعد في تلاوة برنامج الحصّة. فدخلنا متستّرين بالظّلام.
أكيد أنّ تمارين التّنفّس تجاوزت مجرّد مساعدتي على استعادة الهدوء إلى شحني بمزاج إيجابيّ. شعرت بأنّ القدر هو الذي ساقني وإيّاك معا إلى نفس المكان لغاية أجهلها. ذلك أنّكِ كنت أوّل من وقعت عليه عيناي حال عودتي إلى القاعة. وأنّني حين رأيتك في الصّفّ الأوّل تصفّقين تحية للمحاضرين الذين التحقوا بالمنصّة، استعدت كامل ثقتي في نفسي وجلست حيث لا يمكنك إلاّ أن تريْني جيّدا.
لم أخَفْ منك كما خِفت حين رأيتك في البداية. بل اطمأنّ قلبي تماما. وحين هدأت حركة الجميع، صرت أسعى صراحة إلى لفت انتباهِك. فقد كان بودّي أن تدقّقي فيّ النّظر حتّى تتعرّفي عليّ كما تعرّفت عليك.
كان عنوان المحاضرة: "نـحن أطفال الدّيسلكسيا". وكنت أتصوّرك آخرَ من يولي اهتماما إلى مضمونها المتضاربِ أصلا مع قناعاتك القديمة، والبعيدِ ظاهريّا عن اختصاصك في الرّياضيات. فقد كانت تستعرض إحدى أحدث النظريّات البيداغوجية الهادفة إلى مساعدة المربّين على ترصّد العبقرية لدى الأطفال من ذوي الصّعوبات التّعلّميّة. ولكن كم كانت دهشتي حين رأيتك تهتمّين إلى هذا الحدّ بهذه النّظريّات ولا تكفّين عن كتابة المذكّرات في كنّشك، ولا ترفعين عينيك إلاّ لتعيديهما سريعا إلى ما كان يخطّه قلمُك.
ما كان لي أن أكون أقلّ منك تركيزا على المحاضرة. ولكنّني كنت لا أنقطع عن متابعة حركاتك وسكناتك، وكلّي إعجاب بقدرتك الفائقة على التّركيز وبروح التلميذة المجتهدة التي ما تزال تسكنك، في حين أنّك، لئن لم تزالي أستاذة، فأنت من التّقاعد على بضع خطوات.
ولكن لماذا لم تفهمي، يا معلّمتي الجليلة، أنّني كنت، طيلة المحاضرة، أبتسم لك أنت بالذّات ؟ لماذا لم تشعري بأنني كنت أنتظر منك أنت بالذّات أن ترفعي رأسك عن كنَّشِك لحظة لتبادليني ابتسامة واحدة ؟ هل بلغ تركيزك درجة احتلّ معها كامل دائرة وعيك ليقصي منها كلّ ما لا يمتّ بصلة إلى فحوى المحاضرة ؟
سأكون منافقا لو عبت عليك إعجابك بالمحاضرة، ولكنّني كنت محتاجا منك إلى لحظة شرود واحدة تسمح لذاكرتك بتجميع شتاتها للتّعرّف على تلميذك السّابق الذي كان لا يكفّ عن لفت نظرك بتركيز نظره عليك.

*****

معذرة، معلّمتي الجليلة،
لقد خاب أملي كثيرا حين انتهت المحاضرة ورأيتك تحملين محفظتَك وتنصرفين كما انصرف الفضوليّون. فلماذا لم تنضمّي، بعد كلّ تصفيقك الحماسيّ، إلى الذين جاؤوا يهنّئونني بنجاح محاضرتي وبنجاعة النّظريّات البيداغوجيّة الجديدة الناتجة عن أبحاثي ؟
أنا فرحان كثيرا بهذا النّجاح، يا سيّدتي، نعم. ولكنّني أشعر بأنّ شيئا آخر أهمّ مازال ينقصني، وهو أن أتوصّل إلى إشعارك بأنّني لم أعد أحمل نـحوك أيَّ حقد، وبأنّ المعركة الحقيقية ليست تلك التي اندلعت بيني وبينك منذ أكثر من عشرين سنة، بل تلك التي ينبغي أن تجمعنا مستقبلا ضدّ كلّ العراقيل التي تحول دون إعطاء زهور النّبوغ ما يكفي من الوقت كي تتفتح.
ولذلك، قرّرت أن أكتب لك هذا الخطاب، وكلّي أمل في مقابلتك لأقول لك مباشرة "معذرة معلّمتي"، ولأمدّ يدي إليك معتذرا عن كلّ الألم الذي تسبّبت لك فيه. أريد أن أقول لك إنّني كنت مخطئا، أنا أيضا، وأن أسمع منك كلمة صفح تشفيني من مركّب الذّنب الذي مازال يسكنني.
أريد كذلك أن أحدّثك عن الصّدفة التي قادت أبي إلى العمل بالخارج مباشرة بعد طردي، وعن تلك المساعِدة البيداغوجيّة التي وضعها الحظّ في طريقي. لقد كانت لي بمثابة أمّ ثانية في مدرسة بها كلّ ما يساعد على التّميّز .
بعد بضع سنوات من الصّبر حدث التّحوّل المنتظر وظهرت عبقريتي في مجال... الرّياضيات بالذات. نعم يا معلّمتي الجليلة، أنا اسكندر السّرّاج المطرود من المعهد لفعلة غبيّة دفعني إليها قصوري عن مجاراة نسق دروس الرّياضيات، أنهيت تعليمي الثانوي بنجاح مدوّ في مناظرة الرّياضيات العليا. وها أنا اليوم متخرّج من البوليتكنيك حيث أصبحت واحدا من أبرز المدرّسين، أُدعى للمحاضرة في مشارق الأرض ومغاربها.
ولأنّ ما عشته لم يكن أمرا عاديّا فقد كان دينا عليّ أن أبذل مزيدا من الجهد لأتخصّص أيضا في علم النّفس، مسخّرا بحوثي في هذا المجال للأطفال من ذوي الصّعوبات التّعلّميّة. ولأنّ نظرياتي أضحت اليوم تعتمد في جلّ البلدان الغربية، فها أنا أعود من الخارج لعرضها على أصحاب القرار في بلدي.


سيّدتي، معلّمتي الجليلة،
سأكون أسعد النّاس لو قبلت وضع يدك في يدي لنعمل معا، فتكوني لي سندا في سعيي إلى إقناع الوزارة باعتماد خطّة عملي من أجل أن لا يبقى معلّم واحد في بلدنا يفتقر إلى التّكوين في هذا المجال وأن لا نخسر مستقبلا أيّ موهبة تحجبها عنّا أخطاء قد يدفع المراهق إلى ارتكابها دفعا.

الهكواتي – مدينة تكنولوجيات الاتصال - الغزالة

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

القصة والتراث

تكريم الهكواتي

أنا أيضا ... حوماني