زنقة الأدب

سنتي على جناح السّرد – النّص 10 من 53 – 11 أفريل 2008


زنقة الأدب


هذه القصّة من وحي خيالي. سيقرؤها زوجي فيصدّق أنّها فعلا من نسج مخيّلتي، وأنّ كلّ شبه لأحداثها بالواقع إن هو إلاّ محض افتراء منّي لا أساس له ولا رأس.
سيصدّق زوجي ذلك، حتّى بعد أن يقرأ الأسطر الموالية التي سأعترف فيها صراحة بعكس ما ذهبت إليه في مطلع الفقرة الأولى. سيصدّق ذلك مؤكّدا أنّ ما يلي ليس أكثر من دليل آخر، مكتوب هذه المرّة، على أنّني أقتات من وهم التّحلّي في نفس الوقت بالتّحرّر الكامل ومطلق الصّدق، وأتبجّح بالاختلاف في ذلك، وفي تفاصيل أخرى لا عدّ لها، عن كلّ النّساء الأخريات.
سيصدّق زوجي، مع ألاّ وجود لكاتبة في الدّنيا تستطيع منع الأحداث التي تعيشها في الواقع من أن تطفو، عن وعي أو بدونه، على سطح الأحداث التي تتخيّلها. ما يجرّني إلى الاعتراف، بكلّ وضوح ومن بداية نصّي، بأنّني غُلبت كما غُلب كلّ الذين كتبوا من قبلي، وبأنّ وقائع حياتي اليوميّة فرضت نفسها هنا، كأحداث رئيسيّة، بينما رسبت الأحداث المتخيّلة في الدّرك الأسفل من الهامش فصارت مجرّد رماد ذُرّ على أعين.
فليؤخذ هذا النّصّ إذًا على أنّه ضرب من السّيرة الذّاتية. فلن يزيد ذلك في جرعة الصّدق التي يحويها ولن ينقص منها شيئا. ولن يضيرني بالتّالي أن أعترف، بكلّ صدق المبتدئين وتواضعهم، بأنّني أنا، الصِّحافِيّة فاتحة مْشَرَّف، المشهورة لدى الخاصّ والعام والفاعلة، إعلاما ونقدا، في السّاحة الثقافية عموما والأدبية على وجه الخصوص،،، أعترف، قلت، بأنّني أنا بطلة قصّتي. فأنا اليوم أكتب، لأوّل مرّة، نصّا إبداعيّا، إن صحّ التعبير، ولست مستعدّة لترك دور البطولة فيه لغيري. والأسباب مبدئيّة أخلاقيّة بالأساس.
فأنا في الواقع أومن بالاختصاص، وأرى أنّ الكتابة الصّحفيّة والنّقديّة مهنة لها أخلاقياتها الخاصّة. ولذلك فلا بدّ أن تتّخذ لها مسافة كافية من الكتابة الإبداعيّة. وأعتقد أنّ الجمع بين المهمّتين من شأنه أن يخلط الحابل بالنّابل. وقد كاد إيماني هذا يمنعني من رواية هذه الحادثة في شكلها هذا، أي كسرد أدبيّ.



*****



إنّما يحدث للصّحفي أحيانا أن يقف على حقائق من حقّ قرّائه معرفتها، ولكن ليس من حقّه هو أن يصوغها في شكل خبر صحفيّ تقليديّ يصرّح بمصدره ومكانه وزمانه وأسماء الفاعلين فيه.
لذلك فأنا أكتب هذا النّصّ سعيا منّي إلى رفع التّحدّي المهني وإلى إبلاغ هذه الواقعة للقرّاء. ليس بقصد فضح الطّرف المقابل الذي تمثّله هنا شخصيّة محمّد الفائق الأدب. أبدا، فمثل هذه الغاية لا تستحقّ أن أعرّض نفسي للشّبهات، دافعة زوجي ربّما إلى الشّكّ في وفائي له، ولكن ليعرف القرّاء أنّ الأدباء والمفكّرين الكبار أناس مثلنا جميعا. لهم ضعف بني البشر جميعا. بل هم أحيانا أشدّ نفاقا وأكثر جبنا من الناس العاديين. لأنّهم ببساطة أشدّ حرصا على مظاهرهم من بقية النّاس.
ستقولون لي إنّه لا وجود لروائي في البلاد يحمل اسم محمّد الفائق الأدب. لا وجود طبعا لهذا الاسم في الواقع. فأنا من اختلقته حفاظا على مصالح شخص مرموق. فقط أؤكّد لكم أنّ من يختفي وراء هذا الاسم روائيّ حقيقيّ. ومعه إنّما حدث لي بالفعل ما أروي هنا.

*****

قلت إذًا إنّ الرّجل يعيش بيننا فعلا. هو مرموق، بل قد يكون من علية القوم. وقد يكون متزوّجا من امرأة على خلق وجاذبيّة وثقافة. بل قد تصغرني زوجته سنّا أو تفوقني جمالا. هذا فقط ما يمكنني قوله، لمجرّد خلط الأوراق، حتّى لا يتعرّف على شخصه أحد. ولكنّ الأكيد، هو أنّ أيّ خبير محايد يتناول شخصيّته بالتّحليل عن بعد، سيؤكّد لكم أنّه إمّا رجل متزوج يعيش مجرّد علاقة اجتماعيّة خالية من كلّ مقوّماتها العاطفيّة، ولا يملك الشّجاعة لبناء حياته من جديد. أو أعزبٌ متبتّل لسبب لا يعلمه إلاّ هو.
كلّ هذا ليس مهمّا. فأهمّ من المعلومات حول شخص محمّد الفائق الأدب، ما يتميّز به أدبه. أريد أن أتحدّث هنا عن مواضيعه الملتصقة بمشاغل مجتمعنا ومطامحه، وعن التزامه الصّادق بقضايا النّاس البسطاء، وعن إيمانه الرّاسخ بعدالة هذه القضايا التي ينتصب عنها مدافعا لا يعتريه التّعب. كما أريد أن أتحدّث عن تحاليله المعمّقة التي توصّلت إلى إقناع أكثر النّاس ارتيابا بأنّنا في حضرة عالم سبر أغوار النّفس البشريّة، وتعمّق في دراسة آليّات العيش الاجتماعيّ، إلى حدّ قد يستحيل عليه معه أن لا يعيش سعيدا.
هذا على صعيد محتوى أدبه. أمّا على صعيد الشّكل، فسأكتفي بالقول إنّ متانة البناء السّردي عند محمّد الفائق الأدب وما يميّز نصوصه من صفاء اللغة وجمال الأسلوب قد تمنع قارئا فتح إحدى رواياته، من التّوقّف عن القراءة قبل بلوغ نهايتها. واعترافي لأديبنا بهذه الخصال لم يبدأ اليوم، فلقد كتبت عن رواياته عديد المقالات أبديت فيها نفس هذا الرّأي، لاعتقادي أنّ هذا النوع من الأدب يمثّل رافدا حقيقيا لتنمية البلاد، وأداة فعّالة لتوعية أبنائها وحفز هممهم.
ولقد كانت توقعاتي صائبة حين تنبّأت لمحمّد الفائق الأدب بالجائزة الوطنيّة الكبرى قبل إعلانها بأكثر من أسبوع. وهكذا أقنعت مديري بأن نخصّ هذا الأديب بحوار الشّهر الذي يمتدّ على الصفحتين المركزيّتين لجريدتنا. وقامرت بنشر ذلك الحوار في صبيحة يوم عقد النّدوة الصّحفيّة المخصّصة للإعلان عن فوز أديبنا بالجائزة.
وإنّي لأذكر أنّ رئس لجنة التّحكيم وجد يومها عناء كبيرا في إقناع الزّملاء الصّحفيين الذين اتهموه بمحاباة جريدتنا على بقية وسائل الإعلام، بأنّ صدور حواري في ذلك اليوم بالذّات، يعني فقط أنّني أتمتّع بحدس صحفي استثنائيّ.

*****

لا أريد أن أطنب في سرد ما سمعته يومها من ثناء على خصالي المهنيّة. فقد أمكّن زوجي بذلك من دليل آخر على ما يتّهمني به من ميل إلى التّفاخر بتميّزي عن زميلاتي وزملائي على حدّ السّواء. لذلك أمرّ في الحال إلى الحدث الرّئيسي لقصّتي.
هو حدث بسيط جدّا، ولكن قد يكون مناسبا أن أضرب لكم، ليتسنّى سرده على أحسن وجه، هذا المثل البسيط :
طفل تفتح أمامه علبة حلويات لتأكل منها بعض القطع. الطفل ينظر تلقائيّا إلى العلبة بشهوة الأطفال وخجلهم. تتفطّن إليه فتقدّم له العلبة ليأخذ قطعة. ولكنّه يدّعي في البداية أنّه شبعان ولا يشتهيها. فتواصل الأكل ويواصل هو النّظر إليك بنفس الشّهوة. حين تقول له إنّك تتفهم شهوته لأنّها من طبيعة الأشياء، وإنّك لا ترى أيّ حرج في تمكينه من قطعة الحلوى التي يختارها، بل إنك ستفرح فعلا متى قاسمك أكل ما في علبتك، فإنّ الطّفل سيكفّ عن المكابرة ويتراجع ويقبل الأكل وكأنّه لم يرفض أبدا.
لاحظوا أنّ الطّفل في هذا المثال لا يورّطه كلامه إلى حدّ يجعله يتمسّك بنكران الحقيقة نكرانا نهائيّا فيحرم نفسه ممّا يشتهي. أمّا أعيان مجتمعنا من أمثال أديبنا، فنطقهم كلمة واحدة يورّطهم ويدفعهم إلى المثابرة على الطّريق الخطأ. لأنّهم ببساطة أشدّ جبنا من أن يعترفوا بحقيقة ضعفهم الإنساني، فيتراجعوا كما يتراجع النّاس العاديون، ويتمكّنوا من استثمار فرصة سانـحة لتلبية نزوة. والأدهى أنّهم غالبا ما يحرمون أنفسهم، هكذا، من تحقيق أكثر مطامحهم شرعيّة.
هذا ما ثبت لي يوم إجراء الحديث الصّحفي مع الرّوائي الكبير محمّد الفائق الأدب. لست أدري إن كان، يومها، قد عرف بعدُ شيئا عن قرار لجنة التّحكيم منحه الجائزة، ولكنّه، حين رآني أربط بين إجراء المقابلة وقرب موعد الإعلان عن الفائز، قال لي معلّقا قبل شروعه في الإجابة عن سؤالي الأوّل:
- أنت يا فاتحة تتمتّعين بأجمل أنف صحفيّ في البلاد... يشمّ الأحداث قبل وقوعها.
كنت في تلك اللحظة مركّزة كلّ اهتمامي على طريقة طرح أسئلتي بما يكفي من الوضوح، وعلى تضمينها من عناصر الاستفزاز حينا، ومن التظاهر بنقص المعلومات حينا آخر، ما يدفعه إلى الحديث من موقع المدافع عن نفسه أو المضطرّ إلى التّوضيح. وهو الموقع الذي أحرص دائما على وضع مخاطبي فيه لأغنم منه أغزر المعلومات وأصدق الأجوبة. ولكنّ حديثه عن "جمال أنفي الصّحفي" ما كان ليمرّ دون أن يستفزّ فيّ الأنثى.
رفعت رأسي لأنظر مباشرة في عينيه، فواصل حديثه دون أن يظهَر على ملامحه أنّه قصد "بجمال الأنف" أكثر من حاسّة الشّم بما هي لدى العموم مرادف للحدس الصّحفي. ولأنّ أنفي يشكّل في نفس الوقت أحد مقوّمات جمالي، وهذا بشهادة عشرات الرّجال الذين غازلوني، فإنّني بقيت متيقّظة سعيا لالتقاط كلّ المعاني التي قد تختفي وراء ملفوظ عبارات أديبنا.
وسرعان ما اتّضح لي بما لا يدع مجالا للشّكّ، أنّ محمّد الفائق الأدب كان على خجل عظيم وإن لم يكن ذلك باديا عليه. فقد كان يرسل في كلّ ما ينطق به على هامش أجوبته، إشارات غزليّة يحيط بها من الضّباب الكثيف ما يكفيه للتراجع عنها في الحال واتهام مخاطَبَته بسوء التّأويل.

*****

تواصل حوارنا أكثر من ساعتين كنت أثناءهما لا أكفّ عن فتح أقواس تشجّعه على مزيد التّورّط في الكلام وأتظاهر في نفس الوقت بأنّني أغبى من أن أفهم من خطابه أكثر من المعاني المعلنة. وكان في ظنّي أنّني أشجّعه هكذا على قطع خطوة حاسمة نـحو الإفصاح عن حقيقة مقاصده. ولكن، انتهت المحادثة الصّحفيّة ولم يبح لي بأيّ شيء.
قبل أن يصاحبني للخروج، أرسل إليّ إشارة غزليّة أخرى تكاد تبدو أوضح من كلّ تلك التي كان يغدقها عليّ أثناء الحوار، ولكنها كانت مغلّفة دائما بنفس ذاك الضباب الذي يخوّل له الإنكار. فقد عاد يحدّثني عن المصداقية في بناء الشّخصية قائلا:
- لا أستطيع، على سبيل المثال، أن أبني شخصيّة امرأة تكون في جمالك أنت - مثلا يعني - ثمّ أجعل زوجها يصبر على معاشرتها أكثر من أسبوع أو أسبوعين على أقصى تقدير. إلاّ إذا كان به عجز أو كان يعشق غيرها...
يعرف الجميع أنّني امرأة متحرّرة من حيث اللباس. يومها، كان فستاني يبرز صدري كأجلى ما يكون السّفور، كاشفا عن هضبتين نافرتين قليلا من حصّارتي، ظلّت نظرات محمّد الفائق الأدب مسلّطة عليهما طيلة المحادثة.
حين سمعته يغازلني بهذا الشّكل الضّبابيّ، تظاهرت بالانشغال بتدوين ملاحظة أخيرة في كنّشي. في حين كنت أسعى إلى إطالة متعتي بحرارة نظراته وهي تمسّد صدري برفق. ثم قطعت الصّمت فجأة قائلة له بصوت يكاد لا يسمع جيّدا :
- سؤال، لو سمحت، من خارج السّياق الصّحفي : لو أنّك أنت، محمّد الفائق الأدب، تعثر يوما على "نوار" في دروب هذه الحياة الواقعيّة، في مكتبها أو في أيّ مكان مغلق كهذا الذي نوجد فيه الآن، ولو أنّها تقترح عليك نفس الاقتراح الذي تقدّمت به "لآزر"، ثمّ لا يوقظك أحد من الحلم فلا ينتهي المشهد إلاّ بردّ واضح منك، فما عسى يكون هذا الرّدّ ؟
كان سؤالي في غاية الإحراج لمن كان في وضعه وكان خجولا. ولكنّ محمّد الفائق الأدب، يغلّف خجله في قوقعة سميكة قدّت من رصانة ووقار. لذلك فحين رفعت رأسي فجأة لأنظر مباشرة في عينيه، رسم على وجهه ابتسامة على غاية من الهدوء والبراءة أردفها بقوله :
- لا، لا، لا ... احذري الخلط... فلا علاقة إطلاقا بين محمّد الفائق الأدب و"نوار"... لأنّني أقيم بين حياتي في الواقع وما أكتبه في رواياتي جدارا سميكا عازلا. فلا يذهبنّ في ظنّك أنّني أكتب لشعوري حقيقة بمثل ذلك الحرمان وذلك الكبت الذين كان يشكو منهما "آزرُ" يوم ظهرت في حلمه فجأة "نوار" وأحرجته بصراحتها فاستيقظ قبل أن يعرف ما إذا كانت له الجرأة على قبول اقتراحها.

*****

لو كانت مكاني امرأة أخرى معجبة مثلي بمحمّد الفائق الأدب أديبا وإنسانا، بل ورجلا تأسر وسامته قلوب النّساء جميعا، لتملّكها في نفس الوقت ندم على طرح سؤالها وغضب من هذا الجواب. أمّا أنا فكنت واثقة من أنّ الرّجل يعاني من خجل مرضيّ ويستحقّ أن تظهر في حياته امرأة مثل "نوار"، تعطيه فرصته كاملة، وتصبر عليه حتّى يفكّر ويتخلّص تماما من خجله، كما في مثال طفلنا وعلبة الحلوى.
ولأنّني مختلفة عن النّساء جميعا، متحرّرة من تلك العقليّة التي تريد من المرأة الاكتفاء بمفعول سحرها على الرّجال والوقوف على الرّبوة دائما في انتظار من يبادر ببذل الجهد لمغازلتها صراحة... لأنّني شديدة الإعجاب بشخصيّة "نوار" في رواية محمّد الفائق الأدب إلى حدّ حفظ ما قالته "لآزر" في حلمه عن ظهر قلب، فقد حرصت على أن أسبق أديبنا إلى باب مكتبه.
مرّة أخرى شعرت بنظراته مركّزة عليّ تنقل إليّ كلّ شهوته. كان لعينيه مفعول فم ملتهب يُشبع رقبتي تقبيلا ولثما في صمت خجول. حين حاول تجاوزي لفتح الباب، التفتّ إليه فجأة. نظرت في عينيه وأسندت ظهري إلى الباب والصّدر منّي أرفع ما يكون بروزا. تركت بين القفل وبين خصري مسافة تسمح له بدسّ يده ورائي لضمّي إليه إذا أراد. ثمّ أرسلت عليه في دفقة واحدة قولة "نوار" "لآزر"، بعد أن تصرّفت فيها بما يفرضه وضعنا الخاصّ:
- اسمع جيّدا يا فائق ما تقوله لك فاتحة مْشرَّف... نـحن هنا وحدنا، وهذه آخر فرصة أعطيها لك لتنتصر على خجلك وتتصرّف بما تمليه عليك شهوتك... أنا امرأة شريفة بكلّ معاني الشّرف... وإنّي لمتزوّجة، لم أخن زوجي أبدا. ولكنّني أتفهّم تماما إعجابك بي ومدى ما يضطرم في صدرك من شهوة نـحوي. وأعترف للحقيقة بأنّني أبادلك إعجابك وشهوتك. وها أنا أعرض عليك شفتيّ لتقبّلهما كما تشتهي وجسمي كاملا لتعتصره كما تريد. سأغمض عينيّ وأحسب إلى عشرين. ومتى تردّدتَ فإنّني سأنصرف من هنا دون أمل في العودة.
ثمّ أغمضت عينيّ وأفرجت ما بين شفتيّ وعرضتهما له بعد أن مرّرت عليهما لساني بتؤدة لأندّيهما. وأخذت أشير بيدي في صمت إلى الحساب الذي بدأت أجريه على أصابعي. ولكنّ محمّد الفائق الأدب سارع بإجابتي، رافضا حتّى مبدأ الانتظار إلى أن يكتمل الحساب:
- افتحي عينيك أرجوك. تعرفين مدى مناصرتي مبدئيّا حقّ المرأة في التّعبير بكلّ حرّية عن شهوتها للرّجل الذي تريد. وتعرفين أن ليس لي حكم أصدره على وفاء الزوجة لزوجها من عدمه. سأغتنم هذه الفرصة إذًا لأعبّر لك عن احترامي لجمالك الجدير بإعجاب كلّ الرّجال، وعن تقديري لجرأتك في المبادرة بدعوتي بمثل هذه الصّراحة لمقاسمتك شهوتك. ولكن مرّة أخرى، صدّقيني، فإن لمثل هذه المسائل لديّ سياق اجتماعيّ شخصيّ لا تهمّك دواخله ولا أفكّر بالمرّة في تجاوزه خارج زنقة الأدب، وزنقة الأدب عندي مقدّسة، أقصرها على شخصيّاتي الخيالية ولا أسمح لأيّ شخص حقيقي بأن يعبر منها إلى أيّ فضاء في الواقع.

قطعت الحساب وفتحت عينيّ وانتظرته حتّى أتمّ كلامه ثمّ رسمت على وجهي ابتسامة ممتحِن يعلن رضاه عن إجابة تلميذه وقلت :
- شكرا و، مرّة أخرى، أحسنت... كنت واثقة من رفعة أخلاقك واختلافك عن كلّ الأدباء والفنّانين الآخرين الذين تغلب عليهم شهواتهم في معظم الأوقات. ولذلك أقدمت على إجراء هذه التّجربة والذّهاب بها إلى هذا المدى. ولا أخفي عليك أنّني خفت بعض الشّيء وأنا أضعك في موضع المواجهة مع إحدى شخصياتك الرّوائيّة وهي تقارعك بكلام أنت كاتبه.
فهمني وفهمته... ضحكنا وتصافحنا وتواعدنا على مهاتفة بعضنا يوم صدور المقابلة في الجريدة وكأنّ شيئا خارجا عن سياق مهمّتي الصّحفيّة لم يكن.
ثم انغلق الباب بين محمّد الفائق الأدب وبيني. فشعرت وأنا أنزل الدّرج بأنّني تركته للنّدم. فقد كنت واثقة من أنّه في الواقع مازال يشتهيني.
حين خرجت من العمارة وجدتني في حديقة بها نخلة سامقة بدت وكأنّها تدعوني. وقفت تحتها أتأمّلها، فإذا عَشَقَةٌ طريّةُ الخضرة تتسلّقها. ذكّرتني العلاقة بين هذين الكائنين بعلاقة بين روائيّ وصحفيّة. ولكن لست أدري إن كان هو النّخلة وأنا العَشَقَةُ أتسلّقه حتّى إذا قاربتُ جريدَه استَطَالَ فلا ألحقُه أبدا، أم أنّني أنا النّخلة وهو النّبتة المتسلّقة، كلّما استطال منه غصن قادر على ملامسة جريدي ثناه ليوجّهه إلى الأرض.
رفعت عينيّ فأحسست بنظرات محمّد الفائق الأدب تتابع عبوري الحديقةَ من أعلى شبّاكه المفتوح، كأنّها كامرا تصورني من عل، متظاهرة بمجرّد توديعي فيما هي تمعن في مداعبة رقبتي بنفس الشهوة.
إذا كان هو نادما فأنا الأخرى لا أنكر ندمي. فقد اكتفيت بموقع المترقّب. لماذا أغمضت عينيّ وبقيت منتظرة مبادرته بتقبيلي ؟ لماذا لم أنقضّ على شفتيه القريبتين من شفتيّ فأضعه أمام الأمر المقضي ؟ وكم من الوقت يلزمني لأقطع خطوة أخرى على درب الشّفاء من سلبيّة الإناث ؟

الهكواتي - تونس

تعليقات

‏قال غير معرف…
بداية أعترف أنني استلددت شهوة النص..قرأت و أعدت القراءة
الحقيقة أنك أنت النخلة الوارفة الصامدة دوما في وجه الرياح..
وما تلك الإنحناءة إلا تواضعا منك أيتها العنقاء..يا فاتحة الأدب
تقديري
عبدالعالي أواب

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

القصة والتراث

تكريم الهكواتي

أنا أيضا ... حوماني