عشاء لأربعة أشخاص

سنتي على جناح السّرد – النّص 11 من 53 – 18 أفريل 2008

عشاء لأربعة أشخاص

شارفت على التّقاعد من هذه المهنة ولم يحدث أبدا أمامي ما حدث في تلك الليلة.

حريف حجز في مطعمنا مائدة لعشاء خاصّ جدّا لأربعة أشخاص في مقصورة. فسهرت على توضيب مقصورته وزِينَتِها كما اشتهاها تماما: زهور يانعة جلبها بنفسه وشموع معطّرة وإنارة خافتة وما إليها...


كان واضحا أنّ المناسبة في غاية الأهمّية عنده. لذلك كان يلحّ على تنظيم هذا العشاء بدقّة مصرّا إصرارا مرَضيّا على كلّ التّفاصيل، متفرّغا كليّا لهذه المهمّة كما لو لم يكن شيء يشغله غيرُها.


في الموعد المضبوط تماما، فتحت الحاسوب لأطلق، بنقرة فأرة، قراءة قرص مضغوط كان قد أمدّني به بنفسه صباح ذات اليوم. حين ذاعت تلك الموسيقى الهادئة في المقصورة، فهمت أنّ حريفي وضيوفَه من كبار عشّاق الموسيقى الأوروبّية الكلاسيكية.


ولأنّ مواعيد الرّجل مضبوطة بالثّانية، فقد وصل في الموعد الذي حدّده لوصوله تماما، ولكن وحده. استقبلته باحترام كبير وأدخلته المقصورة وخلعت عنه معطفه وأجلسته. ثم خرجت وفي ظنّي أن أغيب ما يكفي من الوقت في انتظار ضيوفه. ولكنّه ناداني بعد دقيقتين بالضّبط ليفاجئني بقائمة المطلوب لأربعة أشخاص، مكتوبة بخطّ يده، بدءا بالمفتّحات وصولا إلى الحلويات والشّاي، دون أن ينسى قارورتي خمر من النّوع الفاخر جدّا.
لفت انتباهي في القائمة وجود إشارة إلى توقيت مضبوط أمام كلّ دفعة من المأكولات، وأمام قائمة المفتّحات كلمة "حالاّ". سألته فأجاب :


- "لم أعمل بالجيش. ولكنّني عشت عسكريّا وسأموت عسكريّا. قدِّمْ كلّ طبق في موعده وارفَعْه في موعده ولا تسل عمّن يصل ولا عمّن ينصرف."


حال ما أتمّ مساعدي وضع أطباق المفتّحات الأربعة على المائدة، واحد أمام الحريف والثلاثة المتبقية أمام الكراسي الفارغة، فتحت قارورة الخمر الأولى لأشرع في القيام على خدمته كما تقتضيه تقاليد المقصورة. ولكنّه استوقفني ليشير عليّ بالاكتفاء بفتح القارورتين، وإحضار الأطباق في مواعيدها بالضبط، وسحب باب المقصورة ورائي حتّى يحين موعد الطّبق الموالي.

*****

في الموعد تماما، عدت ومساعدي لرفع أطباق المفتّحات. ففوجئت بأنّ كلّ الكراسي قد تمّ تحريكها وأنّ كلّ المناديل قد استعملت وكذلك الكؤوس والمنفضة حيث بدت أعقاب السّجائر من ثلاثة أصناف مختلفة. كذلك تخفّف كلّ صحن بمقدار ما يأكله حريف عادي. وقد أوشكت قارورة الخمر الأولى على نهايتها في حين نقُص من قارورة الماء المعدني مقدارُ كأسين. وكانت توجد مقاديرُ مختلفةٌ من الخمر في ثلاثة من الكؤوس الأربعة المعدّة لهذا الغرض، بينما الكأس الرّابعة ظلّت مقلوبة وقد قامت حذوها كأس مليئة إلى النّصف بالماء.


لو لم أكن متأكّدا من أنّ أحدا لم يدخل المقصورة ولا خرج منها في غيابي، لقلت إنّ أربعة زبائن كانوا يأكلون، وإنّ رابعتهم ربّما كانت امرأة، وإنّ ثلاثة خرجوا وقد يعودون في غالب الظّنّ. لم أشأ أن أسألَه ولا هو فكّر في أن يشرح لي أيّ شيء. أشرفت على وضع أطباق الأكلة الرّئيسية في أماكنها وخرجت وفي البال أكثرُ من سؤال.

*****


حين عدنا لرفع الصّحون ووضع سلّة الغلال، لاحظت أنّ الحريف كان في مكانه وكأنّه لم يبرحه. وأنّه قد أكل من صحن الشّواء أكثر من نصف اللحم وأتى على الخضر المصاحبة كلّها. أمّا صحن البيتزا فلم يبق فيه ولا أيّ فتات، تماما كصحن الباطاطا المقلية المصاحب الذي كان قد وُضع في الصّحن الكبير. صحن القاروص أيضا لم يبق فيه سوى أشواكِ تلك السّمكة الفالحة وقد نُظّفت تنظيفا دقيقا. ما يوحي بأنّ الرّأس خاصّة، قد مصمصه فنّان في أكل السّمك. أمّا صحن التّسطيرة المصاحبة فما بقي فيه سوى النّزر اليسير. وحده طبق السّمك الثاني المحاذي لكأس الماء ظلّ على حاله تقريبا. فقد كان واضحا أنّ سمكة الورقة قد قرصت بحركة واحدة صريحة لتعرية عمودها الفقريّ دون أن يُذاق منها أيّ شيء. وقد وُضع في الصّحن، إلى جانب السّمكة الكاملة، منديل ورقيّ مدعوك من مسح الأصابع، وبقي صحن التّسطيرة المصاحب على حاله.


لو لم أكن واثقا من أنّ سمكي طازج، لقلت إنّ الأمر يتعلّق بإشارة احتجاج. كدت أطلب توضيحا، ولكنّني اكتفيت بسحب كلّ شيء عدا قارورة الماء وقارورة الخمر الثانية التي بقي فيها مقدار ثلاثة كؤوس. ثمّ جئت بأكواب جديدة وصحون جديدة وسكاكين لتقشير الغلال. وانسحب مساعدي ثمّ خرجت بدوري متسائلا إن كان حريفي سيشرح لي شيئا ممّا يدور أمام عينيّ أم أنّ هذه المسرحيّة لن تسفر إلاّ عن مزيد من الغموض.

*****

حين عدت في التّوقيت المحدّد، وجدت قشور برتقال وتفّح في الصّحون الأربعة وبقايا خمر في الكؤوس الثّلاثة. وكان من الواضح أنّ الكراسي قد تغيّرت أوضاعها كالعادة. أمرت من جديد بتنظيف المائدة وجلب الأواني اللازمة لأكل الحلويات. ثمّ خرجت منتظرا توقيت تقديمها. وفي اللحظة التي دخلنا فيها محمّليْن بكعكة عيد الميلاد، دوّت في المقصورة موسيقى تلك الأغنية الشّهيرة : "عيد ميلاد سعيد"، بتنفيذ من نفس الأوركسترا السيمفونيّ ضمن نفس التسجيل المحفور على القرص المضغوط الذي شغّلته قبل وصول الحريف بدقيقة واحدة.


حين خرجت هذه المرّة الأخيرة كان السّؤال الملح عليّ هو : لماذا أُمِرْتُ بإيقاد شمعة واحدة على كعكة عيد الميلاد؟
لم أطرح السّؤال، ولكن بعد خلاص فاتورة هذا العشاء الباذخ على آخر ملّيم، وضع حريفي في يدي ورقة من فئة عشرة دنانير، جزاء على خدمته بهذا القدر من الانضباط وعلى التزامي الصّمت حتى النّهاية، وقال لي كما لو كان يجيب عن سؤالي :


- خذ يا صاحبي العزيز... حلاوة احتفالك معي بعيد ميلادي الأوّل بعد التّقاعد.

كان آخر حريف يبارح المطعم ليلتها. ولولا أن دفعني الفضول إلى الخروج وراءه فشاهدته وهو يصل إلى سيّارته المتواضعة فيسقط حذوها مغشيّا عليه، قاذفا من بطنه كلّ ما أكل عندنا وما شرب، لربّما كان قضى دون أن يتفطّن إليه أحد. فتحت حافظة الاتصالات في هاتفه الجوّال لأهاتف أحدا من عائلته أو معارفه، فلم أجد فيها غير رقم وحيد، هو رقم مطعمنا.

الهكواتي - تونس

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

القصة والتراث

تكريم الهكواتي

أنا أيضا ... حوماني