شهوة مريم

سنتي على جناح السّرد – النّص 09 من 53 – 04 أفريل 2008


شهوة مريم

"شهوة ابنتك يا رجل"
هكذا ذكّرته زوجته بوعد قطعه على نفسه. سألته ككلّ يوم :
- "يا رجل، صبّوا* ؟"
فأجابها أخيرا:
- "نعم صبّوا".
جاء التذكير في الوقت المطلوب تماما، في شكل طرادة مسرحية مبرمجة مسبقا. نطق جملته المتّفق عليها :
- "نعم، صبّوا"
فردّت عليه:
- " لا تنس إذًا... شهوة ابنتك يا رجل".
لقد وعد مريمَ وعدا قاطعا من أشهر ثلاثة خلت، فصبّوا بعد ذلك الشّهريّة مرّتين ولم يستطع أن يوفّي بوعده.
وكلّما "صبّوا" ولم ينجز الوعد، كانت مريم تقبل تأجيله وتقبّل جبين أبيها وتلوذ بصمتها الحزين في انتظار أن "يصبّوا" في آخر الشّهر الموالي.
ظلّت مريم تحتفظ بشهوتها في صدرها شهورا طويلة. وحين عبّرت عنها أخيرا، في مطلع السّنة الدّراسية، رقّ لها أبوها ووعدها بالتّنفيذ. ولكن على شرط أن تحصل على المعدّل في امتحانات الثلاثية الأولى.
صبرت مريم ثلاثة أشهر كاملة باذلة في صمت كلّ ما كان في استطاعتها من جهد، حتّى نسي أبوها أنّه وعدها. ويوم وصل ساعي البريد ببطاقة مراسلة الثّلاثية، سارعت بفتح الظّرف ومدت له بطاقة أعدادها:
- " اقرأ يا بابا : كم هو معدّلي ؟"
قرأ بصوت مرتفع:
- "عشرة فاصل صفر خمسة"،
وأضاف وقد تذكّر فجأة ما كانت تخفي نظرتها وفهم ما كان يعني انتظارها الصّامت :
- " الله غالب يا بنيّتي، مازلت عند وعدي، ولكن ليست لي، في هذا الشّهر، أيّ قدرة على الوفاء به".
بعدها، حدث له أن كرّر مرّتين على مسمع ابنته نفس الكلام. فما كان من مريم إلاّ أن تفهّمت مرّتين وطبعت على جبين أبيها قبلتين.
*****

كلّ يوم، طرحت عليه السّؤال

"صبّوا". هذه المرّة، لم يعد له لسان قادر على نطق نفس الجملة، ولا جبين قادر على تحمّل نفس القبلة دون أن يندى من خجل.
مارس شهر الفواتير كلّها. هكذا يسميّه عادة صغار الموظّفين من زملائه. أمّا هو فقد اتّخذ قرارا لا رجعة فيه: سيجعله شهرا استثنائيّا مخصّصا لتسديد دينه لمريم. وعاهد على ذلك نفسه مقسما أن لا يعود إلى البيت إلاّ وقد أحضر معه شهوة مريم.
قال لزوجته : "اليوم يحصل بالتّأكيد. ولكن لا تقولي لها شيئا حتّى أعود". وخرج حاملا معه فواتيره.
البنك أوّلا. سحب، كالعادة، كلّ الرّصيد. مرّ أمام دكان رزوقة الجزّار :
- "والله ما صبّوا"
ومضى... الماء ثانيا : "تجد مريم شربة الماء، على الأقلّ ". دفع الفاتورة وخرج ليندسّ في زحمة الشّارع فلا يتعرّف عليه أحد من دائنيه. ولكن لسوء حظّه، اِعترضته الحاجة بيّة صاحبة الشّقّة. كان يحسب ذهنيّا ما تبقّى له، فأربك حسابَه صوتها:
- "أين أنت يا جاري ؟"...
- "والله العظيم لو كانوا صبّوا لكنت مررت عليك دون أن تذكّريني".
وابتعد عنها... الكهرباء ثالثا : "تجد مريم على الأقل نورا تراجع عليه دروسها ". دفع الفاتورة وتوقّف عند رأس النّهج. النّجّار أصلح له نافذة من قبل انطلاق السنة الدراسية. حتّى ثمن البلّور دفعه من جيبه، ولم يقبض منه بعد مليما واحدا. سلك نهجا آخر حتّى لا يعبر أمام ورشته.

دخل محطّة المترو ليندسّ في أوّل عربة دون أن يقتطع تذكرة. وجلس يضرب أخماسه في أسداسه. حسم في أمر معلوم الكراء. سيعرف كيف يتهرّب من الحاجّة بيّة حتّى الشّهر القادم. ولكن ما سيبقى في جيبه لا يكاد يفي بدينه تجاه رزوقة الجزّار. سيصوم عن اللحم هذا الشّهر ويدفع للعطّار. هكذا فقط يتسنّى له الشّراء على الحساب، كالعادة، لمدة شهر كامل.
"...سيبقى كذا من كذا... فهل سيكفي لشراء كذا وإصلاح كذا ؟ أم هل ينبغي اقتراض تكملة ؟ ثمّ هل يمكن الشّراء بالتقسيط ؟ على كم شهر؟..."
وحده الجسد كان في المترو. جسد لا علاقة له بالمحيط. كلّ انتباهه مركّز على حساباته المعقّدة.
لم يدر كيف تتالت المحطّات، ولا كيف ترك مقعده لامرأة عجوز دون أن يعي تماما ما فعل. ها هو يضبط نفسه واقفا، يسأل الله أن يجازيه على هذا العمل الصّالح هداية إلى كيفيّة تصريف شؤون هذا الشّهر.
امتلأت العربة وازدحمت بالمسافرين. فالتصقت الأجساد بالأجساد. بعضهم بعثره ليعبر، وبعضهم عانقه لينزل، وبادله آخرون عبارات التّسامح والصّبر لتحمّل ضيق المساحة. ثمّ نقص عدد المسافرين تدريجيّا حتّى وجد له من جديد مقعدا شاغرا جلس فيه آليّا دون أن يكفّ عن الحساب:
"اثنا عشر إلاّ ثمانية. لا بل ثلاثة مع اثني عشر إلا ثمانية. لا يقابل الحساب هكذا. إذًا: عشرون إلا واحد وثلاثين... هذا غير ممكن..."
- "آخر محطّة... آخر محطّة... الرّجاء النزول".
وقف آليا، حال سماع نداء السائق. وأخذ يستعدّ للنّزول. نظر من بلّور النافذة فإذا هو لا يتعرّف على المنطقة. هل امتطى المترو الخطأ ؟ أم أنّه نسي النّزول في المحطّة المناسبة بسبب انشغاله بحساباته العسيرة ؟
حين عاد إلى وعيه جيّدا وجد نفسه في عربة شبه فارغة إلاّ من راكبة وثلاثة مراقبين كلّ منهم يقف عند باب. لمّا رأى الرّاكبة تستظهر ببطاقة اشتراكها وتنزل، تذكّر أنّه لم يدفع ثمن سفرته وابتسم في قرارة نفسه ابتسامة سخرية من نفسه، موقنا بأنّ عليه أن يدفع خطيّة، وأنّ عليه بعدها أن يعيد كلّ حساباته من الصّفر. آه لكم كانت اختياراته دائما خاسرة وحساباته دائما خاطئة.


اثنا عشر إلاّ ثمانية. لا بل ثلاثة مع اثني عشر إلا ثمانية. لا يقابل الحساب هكذا.

- بطاقة التّعريف من فضلك...
قالها المراقب فوصل زميلاه في التّوّ لمساعدته على إحكام محاصرة المسافر المخالف، كما لو أنّهم مسكوا مجرما خطيرا.
أمّا هو، فحين أدخل يده في جيب صدر معطفه لإخراج حافظة أوراقه، حين شعر بها تصطدم بالفراغ، حين رآها تخرج من خرق فُتِح في القماش بموسى حلاقة... حينها فقط تذكّر أنّ العربة قد ازدحمت بالمسافرين وأنّ الأجساد قد التصقت بالأجساد، وأنّ عابرين قد بعثروه وأنّ نازلين قد عانقوه وأنّ آخرين قد بادلوه عبارات التّسامح والصّبر على ضيق المساحة.
وقبل أن يخرّ مذهولا بين أيدي المراقبين، صدرت عنه تنهيدة عميقة انتهت بصرخة مكبوتة تلاها هذيان في حلقة لا تتوقّف :
- " الله غالب يا بنيّتي، مازلت عند وعدي، ولكن ليست لي، في هذا الشّهر أيضا، أيّ قدرة على الوفاء به"... الله غالب يا بنيّتي...

الهكواتي - تونس

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

القصة والتراث

تكريم الهكواتي

أنا أيضا ... حوماني